الاثنين، 1 مارس 2021

د.يوسف الإدريسي: النقد المجازي عند العرب

نقصد بالنقد المجازي ضربا من النقد الأولي عند العرب حدد أصحابه موضوع حكمهم الجمالي وحصروه في الشعر، ووعوا طبيعة الأسئلة والملاحظات التي يثيرها ذلك الموضوع، إلا أن اللغة المنهجية لم تسعفهم لحظتها، فتوسلوا في معرض مقاربتها ومحاولات الاقتراب منها بلغة من جنس الخطاب الشعري وطبيعته الإيحائية وخصائصه التصويرية وأساليبه البديعية، وهو ما يتبدى من خلال الصياغة الفنية لأحكامهم، والوصف التشبيهي لبعض قضايا الشعر والشاعرية.
ويلاحظ المتتبع للآراء والأحكام النقدية المجازية أنها هيمنت على المرحلة برمتها، وطبعتها على نحو لافت، وأسهمت في وضع اللبنات الأولى للحكم النقدي والنظر الجمالي عبر تحديد بعض قضايا النقد وإشكالاته ... والتمليح إلى خصوصيته التعبيرية وجملة مميزاته الفنية ومحدداته الأسلوبية وعناصره الشكلية والجمالية، مما مكن من ربط السؤال النقدي بالكون الشعري للقصيدة، وتحريره من القراءة الحرفية والسطحية للموقف الديني، والتأسيس تبعا لذلك لقراءة جديدة قوامها التذوق الفني والتعليل الجمالي والإيحائي.

الثلاثاء، 23 فبراير 2021

د.يوسف الإدريسي: إرهاصات نشأة النقد في ظلال الإسلام

تنطلق المحاضرة الراهنة من تصور مؤداه أن نزول القرآن على النبي محمد (ص) لم يكن مجرد لحظة ظهر فيها دين جديد أخرج الناس من الظلمات إلى النور فحسب، بل كانت أيضا وأساسا، خاصة على المستويين الفكري والنقدي، لحظة الإيذان بالتحول من التفاعل الجمالي والوجداني مع الشعر إلى مقاربته ومساءلته في علاقته بالذات والعالم وباللغة باعتبارها وسيلة للتعبير وأداة لنقل المواقف والتأثير في الناس، ولذلك كانت في تصور المحاضرة لحظة نزول الوحي مطبوعة في بدايتها بصراع حاد بين نصين: الشعر الجاهلي والقرآن الكريم، ذلك أنه إذا كان الأول قد مثل الأول ذاكرة جمالية ومرجعية ثقافية للعرب منذ العهود السحيقة لحضارتهم قبل الإسلام، وجسد ديوانهم الرئيس والمهين الذي لا تستقيم حياتهم ولا تقوم دونه، فإن الثاني جديد جاء ليزيل النص السابق عن مكانته ويحل محله، ويصبح المرجع الأساس للعرب، وهو صراع تجسد جليا من خلال تخصيص كل واحد منهما حيزا للآخر لتقييمه والحكم عليه.
وفي إطار صيغ التقييم والحكم التي مثلت في ظني المحاولات الأولى لمقاربة الخطاب وصياغة جملة تصورات وأحكام وآراء بصدده لغة وبنية ووظيفة، جاءت آيات الشعراء وفتحت الباب للنظر والحكم النقديين، وهو ما مكنها من صياغة أول الإرهاصات النقدية عند العرب قديما. ولئن كانت المحاضرة الراهنة تؤكد الطبيعة القدسية للقرآن الكريم، فإنها تنبه أيضا إلى قيمة وفاعلية آيات الشعراء في توجيه الأفكار وتنبيه الأذواق نحو طبيعة الشعر وخصوصيته التعبيرية والجمالية، وهو ما سيسهم في ظهور الإرهاصات النقدية الأولى من خلال جملة أحكام وآراء صيغت -بالنظر إلى غياب العلم- بلغة الإيحاء وأساليب المجاز للتنبيه على جملة خصائص فنية وجمالية في الشعر والتأكيد عليها، والتي ستميز آراء وأحكام الرسول (ص) والخلفاء الراشدين (ض).
وبعد عرض كل تلك الآراء والتصورات انتهت المحاضرة إلى أن مختلف الأحكام حول الشعر والشعراء في صدر الإسلام انطوت على مواقف جمالية ذات ملامح نقدية، وأسست بذلك وعيا غير مسبوق في سيرورة تشكل النقد، تجلى أساسا في كونها وضعت الشعر موضع نظر ومساءلة، وقراءتها له بمنظار قيمي متصل بالإسلام وتعاليمه، مما جعلها محكومة بالسعي نحو إخضاع الموقف الجمالي للمقوم الديني، ومهد من خلالها لطرح أسئلة الشعر والشعرية ودرجات والحكم عليه، وهي أسئلة ستمثل منطلقات اللحظة اللاحقة، كما ستوضح المحاضرة الثامنة.


الثلاثاء، 9 فبراير 2021

د.يوسف الإدريسي: خطاب النقد القديم وتكون أنساقه- مشروع قراءة جديدة

تعنى المحاضرة الراهنة بالنظر في بدايات تشكل خطاب النقد القديم عند العرب، والبحث في جملة التحولات التي مست الأذواق الشعرية والجمالية، وطالت الأوعاء النظرية والمفهومية، والتي أسهمت في بداية تبلور الفكر النقدي عند العرب، ومكنت من تحول كلمة نقد من سياقات استعمالها اللغوي ومجالات توظيفها الدلالي والتداولي إلى مجال الممارسة النقدية حيث أصبحت مصطلحا يدل على تلك الممارسة ويسميها ويميزها عن غيرها من الممارسات العلمية، ذلك التحول الذي جاء في سياق جدل الاتصال والانفصال واستمر متصاعدا في سيرورة هاجس التأسيس الفعلي للنقد، من خلال الصراع الذي دار بين المتأدبين والشعراء واللغويين حول الأحقية بالحكم على الشعر وتقييم تجارب الشعراء وقصائدهم الشعرية، وهو الصراع الذي أثمر جملة مواقف وأحكام شكلت في مجموعها لحظات القطع مع آراء ومواقف سابقة واستبدالها بأخرى جديدة ... وبآفاق مغايرة ضمن ذلك الجدل: جدل الاتصال والانفصال الذي قام على التخلي عن عناصر من اللحظات الجمالية والثقافية السالفة واستثمار عناصر أخرى وتطويرها والذهاب بها بعيدا في سيرورة تشكل النقد وتطوره، الأمر الذي أدى في النهاية إلى ارتقاء الوعي وتطوره، وسمح بنضح الممارسة النقدية وتولد المصطلح الدال عليها، والمرتبط بها بعد أن تخلت الكلمة المرتبطة به عن دلالاتها اللغوية الراسخة في النشاط اليومي والسلوك الاجتماعي للعرب حتى القرن الثاني للهجرة.


الأربعاء، 20 يناير 2021

د.يوسف الإدريسي: نشأة النقد العربي القديم في منظور الباحثين المحدثين

تتابع المحاضرة الراهنة بحث سؤال نشأة نقد الشعر في منظور الدارسين المحدثين متابعة تتوخى الكشف عن الأجهزة القرائية التي حكمت مشاريعهم وأطرت مقترحاتهم التأريخية للنقد العربي القديم، لاسيما خلال لحظات ظهوره وتبلوره الأولي، وهي اللحظات التي كانت مدار انشغالهم ومجال اختلافهم وتضارب آرائهم، وبعد أن استعرضت المحاضرة آراء ومواقف: ذ. طه إبراهيم وذ.أمجد الطرابلسي وذ.داود سلوم وذ.محمد مندور وذ. غنيمي هلال وذ.إحسان عباس وذ. عبد العزيز جسوس، وأبرزت مواقفهم بصدد نشأة النقد العربي القديم، وأوضحت نقط قوتها وتميزها، عرضت جملة الملاحظات والأسئلة التي تتكشف من خلال الوقوف عندها بعض البياضات التي لازالت قائمة في عمليات التأريخ تلك، والتي تحتاج إلى البحث عن إجابات جديدة أكثر ملاءمة ومواءمة لطبيعة اللحظة وخصوصية المقاربة، وذلك عبر تبني رؤية جديدة واقتراح مقاربة مغايرة للسؤال وطرائق الإجابة عليه. وهو ما سيكون موضوع المحاضرة السادسة القادمة...


الجمعة، 8 يناير 2021

الأحد، 3 يناير 2021

د.يوسف الإدريسي: المحاضرة الرابعة- نشأة نقد الشعر عند العرب في منظور الدارسين المحدثين (1)

 يلاحظ المتابع والمهتم بالنقد العربي القديم كثرة المؤلفات والدراسات التي اهتمت بالتأريخ له، واختلاف أصحابها في تحديد اللحظة التاريخية والمعرفية التي نشأ فيها، أو على الأقل بدأ يتبلور فيها، وهو اختلاف غريب وإشكالي، ولا سيما حين العلم أن الدارسات العربية الحديثة المهتمة بدراسة العلوم العربية الأخرى والتأريخ لها أجمعت على بداية التأريخ لكل تلك العلوم ( النحو - اللغة- العروض- البلاغة - الفقة- الحديث- الفلسفة...) من نقطة معينة ولحظة مفترضة، مثل فيها عالم من العلماء المؤسس الفعلي لذلك العلم، وبغض النظر الآن...وهنا عن وهم الاعتقاد بأن المعرفة والعلوم يؤسسها الأفراد بعيدا عن شروط الواقع الثقافي وسياقات الكل الاجتماعي، يلاحظ أن سؤال نشأة النقد العربي القديم كان موضوعا أثيرا عند عديد الدارسين، مما يسمح بتصنيفهم إلى ثلاث فئات: الأولى تناولته ضمن قضايا عامة وتصورات كبرة تتصل بدراسة الخطاب النقدي القديم عند العرب؛ والثانية خصته بالسؤال وأفردته بدراسة مستقلة توسل أصحابها بالمنهج التاريخي، فجاءت تأريخا للحظة البداية والتشكل؛ والثالثة تأملت المنجز النقدي وتابعته وساءلته قصد الخروج بموقف واضح ودقيق بصدد النشأة. لذلك يلاحظ أن طروحات كل أصحاب تلك الدراسات وتصوراتهم ظلت مثار خلاف وتباين واضحين، بل وغريبين؛ إذ هناك من أرجع لحظة النِشأة إلى عهود الجاهلية القديمة، وهناك من ردها إلى أواخر العصر الجاهلي، وذهب فريق آخر إلى اعتبار القرنين الأولين للإسلام لحظة البداية والتبلور، ورأى فريق آخر أن بداية القرن الثالث للهجرة تمثل فترة الانبثاق الأولي، بل إن هناك من أرجأ تلك النشأة إلى القرن الرابع للهجرة، وحاول بعض الباحثين الوقوف عند ذلك نظرا وتأملا ومساءلة قصد الانتهاء إلى رأي علمي سديد وحاسم...

وتحاول المحاضرة الراهنة عرض أبرز الدراسات المهتمة بالسؤال، واستعراض أهم المقولات المتحكمة في منظورات الباحثين المحدثين والموجهة لها كاشفة خلفياتها النظرية ومنطلقاها الفكرية والمذهبية ... ومقترحة أسئلة منهجية وأطرا نظرية لطرح السؤال والإجابة عليه إجابة أكثر إقناعا ومواءمة، وهو ما سيشكل موضوع الشق الثاني من المحاضرة الرابعة الراهنة...
د.يوسف الإدريسـي - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - مراكش- المغرب

الثلاثاء، 9 أكتوبر 2018

ماستر النقد القديم : أنساقه ومناهجه يفتتح موسمه الجامعي الأول بدرس افتتاحي

ترسيخا لثقافة الاعتراف، وربطا لحاضر التكوينات الأكاديمية بالماضي التليد للكلية، يفتتح ماستر النقد العربي القديم: أنساقه ومناهجه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش موسمه الجامعي الأول بدرس افتتاحي يلقيه فضيلة الأستاذ: الدكتور عبد العزيز جسوس في موضوع: عوامل نشأ نقد الشعر عند العرب، وذلك يوم الجمعة 12 أكتوبر 2018 على الساعة التاسعة صباحا.

ولئن كان الفريق البيداغوجي للماستر قد اختار أن يستضيف الأستاذ: الدكتور عبد العزيز جسوس في لقاء علمي وتربوي مستهلا بذلك انطلاقته الأكاديمية، فذلك بالنظر إلى ما يرمز إليه في ذاكرة ووجدان الكلية  والجامعة، بل والمدينة ككل، إذ إن اسم الرجل مفعم بالكثير من الدلالات الرمزية المرتبطة بالرأسمال الرمزي الذي بناه وشق به طريقه داخل الحقل الجامعي بصفته حقل قوة. فعلاوة على كونه قضى ما يربو على 25 سنة من التدريس والتأطير والتوجيه بكلية الآداب بمراكش، اشتغل مع طلبة الإجازة بصدد موضوعات تهم النقد القديم والنقد المعاصر والثقافة العربية وتحليل النصوص الأدبية القديمة والحديثة والمعاصرة، وأسس تكوينا بالكلية بداية الموسم الجامعي 2007-2008 مع انطلاق سلك الماسترات بالمغرب، جعل مداره دراسة الأدب والنقد العربيين من زاوية تزاوج بين التأصيل والتحديث، كما ظل وفيا ومهووسا بمشروعه العلمي الذي ينطلق من النقد العربي القديم مسائلا له في تصوراته وقضاياه ومفاهيمه، ليعود إليه مجددا مختبرا علبة أدواته المنهجية والتصورية انطلاقا من الخطاب النقدي المعاصر...
وانسجاما مع الأفق العلمي الذي حدد مشروع الأستاذ عبد العزيز جسوس، وفي علاقة بالمنطلقات كما الافتراضات المنهجية والتصورية الذي تأسس عليها ويسعى إلى اختبارها وتطوريها ماستر النقد العربي القديم: أنساقه ومناهجه، سيحاول الدرس الافتتاحي مساءلة نقد الشعر عند العرب في نشأته والنظر في مختلف العوامل التاريخية والعلمية والمعرفية الذي حكمته ووجهت مشاريعه التأسيسية...

الاثنين، 14 أغسطس 2017

الجسد في ثقافة الإسلام

الجنس في أديان العالم

كتاب أوروسيوس

معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم من أقدم العصور إلى مجيء الإسكندر

متون سومر الكتاب الأول

الضروري في السياسة لابن رشد

الأدب الصغير لابن المقفع

أشعار اللصوص وأخبارهم

طبقات الشعراء لابن المعتز

كتاب البيان والتبيين للجاحظ

الخميس، 19 يناير 2017

تعريفات أولية للبلاغة


خلافا لكلمة نقد، عرف مصطلح البلاغة عند العرب عدة تعريفات، وهي تعريفات تعود إلى لحظات متقدمة في نشأة الثقافة العربية الإسلامية، وتميزت بتحديدها "للبلاغة" باعتبارها خطابا لغويا جماليا يتصف بجملة خصائص أسلوبية وتعبيرية، ومميزات فنية وتركيبة، كما اتسمت بتركيزها على جانب من جوانب ذلك الخطاب، بهم الأسلوب التعبيري عامة، أو مكون من مكوناته الصوتية والدلالية، أو خاصية من خصائصه الأسلوبية والإيحائية، دون أن يعني ذلك أن تركيزهم ذاك يحصر بلاغة الخطاب في المستوى المتحدث عنه، لأن البلاغة في التصور العربي القديم، سواء في لحظات النشأة والتشكل، أو في لحظات النضج والتطور كانت في تصور العرب صفة للخطاب الجمالي في كليته، وليس باعتبار جزء من أجزائه أو مكون صغير من مكوناته. ولئن كانت لحظات النضج تبرز ذلك، فإن مما يدعمه ويؤكده اتسام لحظة تبلور الوعي بقيمة البلاغة ومميزاتها، ببداية نشأة المصطلحات وتشكلها، ولذلك جاءت كثير من المفاهيم معبرا عنها بمصطلحات وألفاظ متداخلة لغويا وغير ناضجة ومستقرة اصطلاحيا، وهو امر استمر حتى حدود بدايات القرن الرابع للهجرة، فكانت البلاغة عامة يقصد بها البيان، كما هو الحال مع الجاحظ، ويشار إليها بالبديع، كما هو الشأن لدى ابن المعتز، كما كان اللفظ يستعمل أحيانا بمعنى الكلمة، وكان المعنى يراد به الصورة الفنية المرتسمة في الذهن.
وبالعودة إلى التعريفات الأولى للبلاغة نلمس بعضا من هذا، من ذلك ما أورده ابن رشيق القيرواني ( ت 456 هـ) في كتابه: العمدة، بحيث قال:
« سئل النبي صلى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ فقال: " في اللسان" يريد البيان.
وسئل بعض البلغاء: ما البلاغة؟ فقال: قليل يُفْهَم، وكثير لا يُسْأم.
وقال آخر: البلاغة إجاعة اللفظ ، وإشباع المعنى.
وسئل آخر فقال: معان كثيرة، في ألفاظ قليلة.
وقيل لأحدهم: ما البلاغة؟ فقال: إصابة المعنى وحُسْنُ الإيجاز.
وقال خلف الحمر: البلاغة لمحة دالة.
(...) قيل لأرسطاطاليس : ما البلاغة؟ قال: حسن الاستعارة.»[1]

يتبين من هذه التعريفات أن البلاغة عرفت تحديدات متعددة عند العرب قديما، ولم يكن الأمر، كما سبق القول، يعود إلى اضطراب في التعريف، أو خطأ فيه. إذ من المعلوم في تاريخ العلوم أن اختلاف التعريفات وتباينها للموضوع الواحد ليس ناتجا عن الخطأ وغياب الضبط والتدقيق، ولكنه يعود إلى اختلاف زوايا النظر إلى ذلك الموضوع، وأحيانا إلى صعوبة ضبطه وتحديده لكونه يستعصي على كل محاولة للضبط والتحديد.
ويبدو أنه إذا تم النظر على هذا الأساس لمختلف تعريفات البلاغة كما أوردها العمدة فسيتبين أن الرسول (ص) ركز في تحديده للخصائص التعبيرية التي تميز الخطاب اللغوي على البيان باعتباره صفة بديعية للأسلوب تتحقق نتيجة رقيه التعبيري ورفعته اللغوية، ومن ثمة فهو قدرة على الارتقاء بالكلام إلى درجة عالية من الجمال التعبيري. ويبدو أن ما أجمله (ص) في حديثه قد فصلته الأقوال اللاحقة، بحيث أبرزت أن البلاغة شقان: دلالي تصوري؛ وتعبيري تلفظي. فالأول يرتبط بالمعنى وما ينطوي عليه من افكار وصور، والثاني يتصل بطرائق التعبير عن هذا المعنى.
وعليه، فالقول بأن «البلاغة قليل يُفْهَم، وكثير لا يُسْأم» معناه أنها خطاب صادر عن ذات معينة تتوجه به إلى ذات أخرى، يحمل مضامين معينة ويروم إبلاغها بوضوح ودون ملل، ويروم هذا الخطاب تحقيق التفاعل بين الذاتين والتجاوب النفسي والذهني بينهما، سواء كان طويلا أو كان مقتضبا.
أما القول إن «البلاغة إجاعة اللفظ ، وإشباع المعنى»  فيتصل بجانب آخر من بنية الخطاب ومضمونه يهم التكثيف والتركيز المحقق للثراء الدلالي والإيحائي بما لا ينعكس سلبا على بنية العبارة ومقدارها التلفظي. ولئن كان هذا التعريف يعني أن البلاغة خطاب مختصر وموجز ينطوي على عدد هائل من الدلالات والتعبيرات والإيحاءات الفنية والجمالية، فإنه يشي بأن الحديث عن البلاغة لا ينفصل عن تناول المستويين التلفظي والدلالي للخطاب اللغوي، وتحديد الخصائص التعبيرية لكل منهما، وهو ما يتضح من التعريف الموالي الذي يعتبر صاحبه أن البلاغة تتحقق من خلال إيراد «معان كثيرة، في ألفاظ قليلة» ، كما يتضح ذلك أيضا من  « إصابة المعنى وحُسْنُ الإيجاز » اللذين اعتبرا أساس البلاغة وجوهرها .
ومما لاشك فيه أن تركيز التعريفات السابقة على حسن الإيجاز والاقتصاد في اللغة وإيلاء العناية الكبرى للمحتوى التعبيري والإيحائي مقارنة بالجانب التلفظي كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن البلاغة في تصور أصحاب التعريفات السابقة تحقق بالتلميح وليس بالتصريح، وتنتج عن الإشارة المقتضبة وليس المفصلة، وذلك لأنها خطاب يقول أشياء دون أن يفصح عنها كليا، ويراهن على ذكاء المتلقي وحسن فهمه وإعمال ذهنه وخياله لتمثل الصورة المقصودة والمعنى المستهدف، وهذا ما لخصه خلف الأحمر في تعريفه لها بحث قال: « البلاغة لمحة دالة.»
أما تعريف أرسطو، فإنه يطرح أكثر من سؤال حول العلاقة أولا بين تصوره للبلاغة والتعريفات السابقة، والعلاقة بينه وبين أصحاب تلك التعريفات، ومن ثمة مدى صحة هذا التعريف المنسوب إليه، ثم مدى تأثير تصوراته في التراث النقدي عند العرب، وغير من ذلك من التساؤلات التي تحتاج إلى وقفة خاصة.
وهو ما سنراه في الحلقة القادمة.  




[1] ابن رشيق: العمدة،1/241-245 .