الأربعاء، 14 يناير 2009

قضية الإبداع الشعري في النقد القديم


قضية الإبداع الشعري في النقد القديم
(مطبوع دراسي)


ذ. مولاي يوسف الإدريسي
مقدمة
ظلت "الشاعرية" موضوعا مستأثرا بالاهتمام والتساؤل في الفكر الإنساني، وقد دلت مختلف مقارباتهـا على حيـرة الإنسان الكبيرة أمام الغموض الذي يكتنفها ويسم تجلياتها؛ إذ كيف يتأتى لبعض الأفراد المماثليـن لكل الناس –ظاهريا- أن يبهروا الأسماع ويسحروا الألباب بما يمتلكون من قدرة خارقة على رؤية ما لا تدركه كل الأذهان، ومن طاقة فائقة على تصريف الكلام وصياغته بأساليب إيحائية وتصويرية بديعة ؟ ولماذا ليس في متناول كل الناس أن يضربوا بسهام من الشعر، وأن يقولوا مثل ما يقوله الآخرون؟ ثم لماذا يستعصي حتى على أولئك الممتلكين لتلك القوة الغامضة قول الشعر في كثير من الأحيان، فيغرقون في صمت كئيب وحارق؟

      لقد تمت معالجة هذه الأسئلة وغيرها عند اليونان والعرب –قديما- بتصورين متفاوتين: فأما الأول فيمكن اعتباره خرافيا، لكونه يربط الظاهرة بكائنات غيبية، ويرجعها إلى ذوات منفصلة عن الذات الشاعرة وبعيدة عنها؛ وأما الثاني فيمكن اعتباره علميا، لكونه يقطع الصلة بالتفسيرات الخرافية لعملية الإنتاج الشعري، فيرجعها إلى بعض القوى والبواعث الشعورية، ويوجد لها تعليلات علمية مقنعة.
      وبالرغم من تفاوت التفسيرين واختلاف منطلقاتهما الفكرية وتصوراتهما النظرية، إلا أن ثمة بعض أوجه التقاطع بينهما، وتتجلى أساسا في انطواء التفسير الخرافي على بعض الآراء والأحكام "العلمية"، وتضمن التفسير العلمي لبعض الأفكار والمواقف" الخرافية".
1- ربات الشعر عند اليونان :
     حظي الشعر عند الإغريق بعناية خاصة، لكونه كان يحتل مكانة بارزة في أثينا تنسجم مع دوره في تربية النشء، وفاعليته في تقويم السلوك وتطهير النفس من الانفعالات السلبية. ومما يدل على هذه الحظوة تأكيد أفلاطون قدسيةَ الذات الشاعرة، ومخاطبته الشعراء بلغة فيها كثير من الاحترام والتقدير لهم ولأعمالهم[1]. ويرى ابن النديم أن انقلابه على الشعر والشعراء إنما كان بسبب تأثره بأستاذه سقراط، فقد« كان في قديم أمره يميل إلى الشعر، فأخذ منه بحظ عظيم، ثم حضر مجلس سقراط فرآه يَثْلِبُ الشعر، فتركه»[2].
     وقد شكل الاعتقاد في الفلسفة اليونانية عامة، والأفلاطونية خاصة، بكون الشعر إلهاما لربات الفن، إطارا نظريا عاما لمقاربة العملية الشعرية، وللتفكير في مصدرها ودوافع نشأتها، ويتبدى ذلك واضحا في تأكيد أفلاطون أن الشاعر:« كائن أثيري مقدس ذو جناحين، لا يمكن أن يبتكر قبل أن يُلهم، ويفقد في هذا الإلهام إحساسه وعقله. وإذا لم يصل إلى هذه الحالة، فإنه يظل غير قادر على نظم الشعر أو استجلاء الغيب. ومادام الشعراء والمنشدون لا ينظمون أو ينشدون القصائد الكثيرة الجميلة عن فن، ولكن عن موهبة إلهية، لذلك لا يستطيع أحد منهم أن يتقن إلا ما تلهمه إياه ربة الشعر(...) لذلك يفقدهم الإله شعورهم ليتخذهم وسطاء كالأنبياء والعرافين المُلهمين، حتى ندرك – نحن السامعين- أن هؤلاء لا يستطيعون أن ينطقوا بهذا الشعر الرائع إلا غير شاعرين بأنفسهم، وأن الإله هو الذي يحدثنا بألسنتهم.» [3]
     لا ترجع براعة الشعر وجماليته –وفق هذا التصور- إلى ذات الشاعر، ولا تنبع من روحه، ولكنها تعود إلى مصدر خارجي من طبيعة مفارقة للذات الإنسانية ومتعالية عليها، لأن الشعر صوت رباني بُثَّ في نفس الشاعر ودفعها إلى ترديده والتغني به. ومن الواضح أن "ربات الشعر" تخضع ذات الشاعر إلى سلسلة من التغييرات النفسية والفكرية، وتهيئها بها لتلقي إلهامها، ومن هنا تبرز أهمية وضرورة إيصاله إلى الحالة التي يفقد فيها عقله ورشده لكي تعرج به في مدارج الإبداع، وهي حالة طبيعية ولا إرادية، وبفضلها يشيد عوالم جديدة، ويؤلف بين أشياء متنافرة، فيتحول شعره إلى وسيلة للكشف واستجلاء المستور.
      معنى ذلك أن طريق الشعر مفارق لطريق العقل، وأن الشاعر ملزم -حتى يوشح كلامه بصفات الأدبية- أن يكون "لا عقلانيا" وأن يمتح من معين "الخيال" ويهتدي بنوره، لأن قيمة شعره تتحدد في خرقه قواعد العقل وعوالمه المعتادة، وتشكيله بدلها قواعد جديدة وعوالم مغايرة تخضع لمنطق الهوس والجنون.
      وتكمن خصوصية الهوس الذي يعتبره أفلاطون مصدرا للشعر في كونه يفارق- في الطبيعة لا في الدرجة - الهوس الراجع إلى الأمراض النفسية والعصبية، لأنه يظل مشدودا إلى مصدره الإلهي، ويعبر عن حالة جمالية خاصة تتوحد فيها الذات الشاعرة بالذات الإلهية، فيتم البوح بأسرار الغيب والكشف عن مواطن الجمال الآسر المستتر خلف تمظهرات الأشياء الحسية، ولهذا سيحتل عنده الهوس الشعري الصادر عن ربات الفن المرتبة الثالثة ضمن الأقسام الأربعة للهوس الإلهي[4].
       بيد أن اعتبار الشعر هوسا إلهيا لا يستهدف الكشف عن الطبيعة النوعية المميزة للشعر فحسب، التي تجعل« الشعراء لا يصدرون في الشعر عن حكمة» بل عن« ضرب من النبوغ والإلهام»[5] ، بل يروم الإجابة أساسا عن سؤال شائك شغل الفلسفة اليونانية والفكر الجمالي الحديث على حد سواء، مؤداه : هل الفن صنعة أم إبداع ؟ وهل يكتسب الإبداع بالتعلم والمران أم أنه قدرة تولد مع الإنسان؟   
       يتحدد موقف أفلاطون من هذه القضية في كون الصنعة والتعلم لا يكفيان ليصبح الإنسان شاعرا، إذ لابد أن يمسه قبل ذلك الإلهام ويتملكه الهوس الصادر عن ربات الشعر،لأن بدونـه لا يمكنه أن ينتج شعرا، وحتى لو تكلف قوله، فسيكون فاترا لا سحر ولا جمال فيه، هذا ما نلمسه من قوله: « غير أن هناك نوعا ثالثا من الجذب والهوس مصدره "ربات الشعر" إن صادف نفسا طاهرة رقيقة أيقضها فاستسلمت لنوبات تلهمها بقصائد وشعر تحيي به العديد من بطولات الأقدمين وتقدمها ثقافة يهتدي بها أبناء المستقبل. لكن من يطرق أبواب الشعر دون أن يكون قد مسه الهوس الصادر عن ربات الشعر ظنا منه أن مهارته (الإنسانية) كافية لأن تجعل منه في آخر الأمر شاعرا، فلاشك في أن مصيره الفشل. ذلك أن شعر المهرة من الناس سرعانما يخفت إزاء شعر الملهمين الذين مسهم الهوس.»[6]
       فالتعلم والمران يظلان بلا جدوى ما لم يتحقق معهما الاستعداد الفطري[7]، إذ لا يتحصل الإبداع بمعزل عن طبيعة نفس الشاعر التي يلزم أن تكون طاهرة ورقيقة حتى يؤثر فيها الهوس الإلهي، وينفذ إليها الإلهام الرباني. وإذا كانت صفة الطهارة-التي ينعت بها أفلاطون النفس الشاعرة-تحيل إلى ترابط الأخلاقي والجمالي في تصوره للفن كما سنرى لاحقا، فمن الملاحظ أن صفة "الرقة" تشي بسمات رهافة الإحساس والشعور ويقظة الوجدان التي تميز النفس الشاعرة، وتذكي استعدادها الفطري، وتيسر تعلمها "مهارة قول الشعر" .
      ولا شك أن هذا التصور ينبني على موقف تشكيكي في الشعر، ينقص من قيمته وجدواه، ويعتبر أن ثمة حدودا ما ينبغي للشعراء تجاوزها في إبداعاتهم و محكياتهم، لأن للمحاكاة الشعرية إطارا خاصا بها، تفقد إن هي تعدته جماليتها. ويتضح ذلك التصور في قوله: « أول ما يتعين علينا عمله هو أن نراقب مبتكري القصص الخيالية، فإن كانت صالحة قبلناها، وإن كانت فاسدة رفضناها، وعلينا بعد ذلك أن نكلف الأمهات والمرضعات بألا يروين للأطفال إلا ما سمَحنا به، وأن يعنين بتشكيل أذهانهم بهذه الحكايات خيرا مما يعنين بتكوين أجسامهم بأديهن. أما تلك الأقاصيص الشائعة الآن، فمعظمها ينبغي استبعاده (...) أعني تلك التي رواها هوميروس وهزيود وغيرهما من الشعراء، وهم أعظم رواة القصص الكاذب الذي لا يزال شائعا بين الناس (...) إن أول ما أعيبه عليه هو كذبه، بل كذبه الآثم الشرير(...) في تمثيل الآلهة والأبطال بطريقة باطلة، وكأن مصورا يرسم صورا مشوهة لا يوجد بينها وبين موضوعها ظل من الشبه.» [8].
      لا تكتسب المحاكاة الشعرية قيمتها من طبيعتها الفنية وخصائصها الجمالية فحسب،بل من محتواها الأخلاقي أيضا، لأن للشعر –كما سبق القول- دورا تربويا وأخلاقيا في التنشئة، ولذلك لا يجيز منه أفلاطون في مدينته الفاضلة « إلا ذلك النوع الذي يشيد بفضائل الآلهة والأخيار من الناس »[9]، أما النوع الآخر الذي يتطاول فيه صاحبه على قدسية الآلهة وطهارتها، فيدعي أنها « تنصب الفخاخ وتحيك المؤامرات بعضها لبعض»[10]، أو يحملها مسؤولية المآسي التي يعيشها الإنسان[11]، فلامكان له في "الجمهورية" ، وهذا ما يعبر عنه بقوله: « علينا أن نرجو هوميروس وغيره من الشعراء ألا يغضبوا إذا استبعدنا تلك الأقوال وما شاكلها، لا لأنها تفتقر إلى الجمال الشعري، أو لأنها لا تلقى من الناس آذانا صاغية، وإنما لأنها كلما ازدادت إيغالا في الطابع الشعري، قلت صلاحيتها لأسماع الأطفال والرجال الذين نودهم أن يحيوا أحرارا، يخشون الأسر أكثر مما يرهبون الموت.» [12]
      فبالرغم من إعجاب المتلقين بأشعار هوميروس وهزيود وغيرهما من الشعراء، وبالرغم أيضا من تضمنها كثيرا من الخصائص الجمالية والمميزات الفنية، إلا أن أفلاطون يرفضها لكونها تبث في النفوس- بابتعادها عن الحقيقة وتشويهها للأصل والمثال- قيم الشر والحقد، وتكون بذلك جيلا لا يؤمن بالخير والفضيلة. ومن الواضح هنا أن تصوراته الفلسفية ذات أساس أخلاقي ينسجم مع بنية المجتمع اليوناني وتقسميه "الطبقي"، ولذلك فالجمال عنده يقترن ب" الطهارة "ولا يتحقق في الفن عموما والشعر خصوصا إلا بقدر ما يحقق للنفس من تطهير.
     وتحيل "الطهارة "هنا إلى الحكمة والفضيلة، وتعتبر أساس التمييز بين الجمال والقبح في الفن عامة، والشعر خاصة، لكون النفس الفاسدة والدنيئة ستحاكي الأفعال الخسيسة والشريرة، مادام الخلق النفسي ينعكس على الأسلوب الشعري: لأن« (...) جمال الأسلوب والانسجام، والرشاقة، والإيقاع الجيد، كل ذلك يتوقف على بساطة النفس، أعني البساطة الحقة، التي تتصف بها روح تجمع بين الخير والجمال (...) ولاشك أن تلك الصفات تتبدى في فن التصوير وكل فن إبداعي آخر (...) ولاشك أن الافتقار إلى الرشاقة وإلى الإيقاع والانسجام يقترن بانحطاط التعبير والتفكير، وسوء الطبع، أما الصفات المقابلة، فتتمشى مع الطبائع المضادة، أي الحكمة والفضيلة.»[13]    
      فالخير والجمال قيمتان نفسيتان مترابطتان، وتنعكسان على البناء الشكلي والمحتوى التمثيلي للشعر، وفي رأي أفلاطون أن سبب اختلاف الأنواع الفنية وتفاوت أساليبها يعود إلى طبيعة "الروح" المبدعة، إذ إن انتظام البنية الجمالية للفن وتناغم مكوناتها إنما ينتج عن طبـاع حميدة وأخلاق نبيلة ويعبر عنهما، وبالمقابل فاختلال البناء الفني وتفكك عناصره إنما يرجع إلى الطبائع السيئة والأخلاق الخسيسة. وإذا كان ما يشير إليه أفلاطون هنا يمثل أول محاولة في تاريخ نظرية الأدب لدراسة النتاج الأدبي في علاقته بنفسية المبدع وطبيعتها، فإنه لم يقتصر في مقاربته على هذا الجانب، ولكنه حدد المقاييس الجمالية التي تخص العناصر الشكلية والمقومات الأسلوبية أيضا، مادامت الأخلاق النبيلة لا تصنع وحدها عملا أدبيا، فأكد أن أول تلك المقاييس أن يصوغ الشاعر معانيه وأفكاره في قالب حكائي، بمعنى أن تقدم في قصة مبتكرة تحاكي الأفعال الإنسانية، لكون « الشاعر الذي يراد له أن يكون شاعرا مبدعا حقا لا ينبغي أن يحشد ألفاظا وكفى، بل لابد له أن ينشئ قصصا(...) »[14].
     بيد أن تأليف حكاية سردية تقدم الأحداث والشخصيات وما يرتبط بهما ضمن بنية مترابطة لا ينفصل عن شرط ترابطها العضوي، ففي تصوره أن:« كل حديث يجب أن يكون مكونا على شكل كائن حي، له جسم خاص به بحيث لا تنقصه رأس ولا قدم، بل لابد له من وسط مع وجود طرفين يكونان قد كتبا بشكل يتفق مع بعضها ومع الكل.»[15]
     ومثلما يحصل الانسجام والترابط العضوي بين مكونات الحكاية المسرحية أو الملحمية وأجزائها بتسلسل أحداثها وخضوعها لمنطق الحتمية والضرورة، ينتج عن مكوناتها الفنية أيضا، ومن ضمنها الموسيقى، التي تسهم في إشاعة الوحدة والتناغم بين كل" أطرافها"، ولهذا أكد أفلاطون ضرورة إيلاء عناية قصوى باللحن والإيقاع، بحيث تكون الأوزان الموسيقية ملائمة للكلام الشعري، لأن لكل أسلوب شعري وزنه الخاص به، يقول: «(...) إن الإيقاع الجميل أو القبيح والرديء يتمشيان مع الأسلوب الجيد أو الرديء، وكذلك يتمشى الانسجام والنشاز مع الأسلوب عادة، إذ إن المبدأ الذي اتبعناه هو أن يخضع اللحن والإيقاع للكلام لا الكلام لهما.»[16]
      فبالرغم من كون الإيقاع سمة مميزة للشعر عن مختلف الأنواع الأدبية الأخرى[17]، إلا أنه لا يعدو أن يكون وسيلة جمالية محكومة بغاية يعمل القول الشعري على تحقيقها، ألا وهي التأثير في المتلقي، ولذلك فالشاعر حينما يوظفه ينشد من وراء ذلك استثمار طاقته التأثيرية، يقول موضحا:ذلك « (...) إن الشاعر يضفي بكلماته وجمله على كل فن ألوانا تلائمه، دون أن يفهم من طبيعة ذاك الفن إلا ما يكفي لمحاكاته، ويؤثر في أناس     لا يقلون عنه جهلا، ولا يحكمون إلا بصورة التعبير، فيدفعهم السحر الكامن في الوزن والإيقاع إلى الاعتقاد بأنه قد حدثهم حديثا خلابا(...) فإذا ما نزعت عن الشعر قالبه الشعري، فلا شك أنك تستطيع أن تراه على حقيقته عندما يتحول إلى نثر.»[18]
     ففي رأي أفلاطون يعد الوزن قوام الشعر وجوهره المميز، إذ لا تتحقق الكينونة الشعرية بدونه، ولذلك فإذا ما جردنا قصيدة ما عن قالبها الإيقاعي ستفقد شعريتها، وتتحول إلى مجرد كلام منثور، بيد أن قيمة الإيقاع الشعري في نظره لا تتحقق إلا بقدر ما يحدثه في النفس من تأثير، إذ هو وسيلة "سحرية" يوظفها الشاعر ليضفي على قوله صفة الجمالية، فتحمل المتلقين على التسليم بصدق حكاياته، ومن ثمة، الانصياع لمقتضياتها. وإذا كان ينطلق في ذلك من موقفه التشكيكي في الشعر الذي اعتبره نتاجا مخادعا ومتحايلا كما سبق القول، فإن هذا الأمر يمثل أحد أبرز نقط الاختلاف بينه وبين أرسطو.
      ذلك أن لأرسطو رأيا مغايرا في هذه المسألة، حيث حاول التخلص من التفسير الغيبي الذي ميز مقاربة أفلاطون، وعمل على دراسة "الشاعرية" وتفسيرها بإرجاعها إلى الذات الإنسانية وبواطنها، فعدها أمرا طبيعيا مرتبطا بالغرائز النفسية والقوى الذهنية للذات، ويبدو ذلك جليا في قوله: «ويبدو أن الشعر نشأ عن سببين، كلاهما طبيعي: فالمحاكاة غريزة في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة (والإنسان يختلف عن سائر الحيوان في كونه أكثرها استعدادا للمحاكاة، وبالمحاكاة يكتسب معارفه الأولية)، كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة (...)
      وسبب آخر هو أن التعلم لذيذ: لا للفلاسفة وحدهم، بل أيضا لسائر الناس، وإن لم يشارك هؤلاء فيه إلا بقدر يسير. فنحن نسر برؤية الصور لأننا نفيد من مشاهدتها علما ونستنبط ما تدل عليه (...)
       فلما كانت غريزة المحاكاة طبيعية فينا، شأنها شأن اللحن والإيقاع(...) كان أكبر الناس حظا من هذه المواهب، في البدء، هم الذين تقدموا شيئا فشيئا وارتجلوا،ومن ارتجالهم ولد الشعر.» [19]
      يعتبر انشداد الإنسان غريزيا إلى "المحاكاة" -أو بالأحرى التمثيل- أحد العوامل الأساس التي تحكمت في ظهور الشعر، فقد « (...) كان أكبر الناس حظا من هذه المواهب، في البدء، هم الذين تقدموا شيئا فشيئا وارتجلوا، ومن ارتجالهم ولد الشعر»، والمقصود بكلمة "المواهب" هنا مجموع وسائل المحاكاة من ألحان وإيقاعات وأساليب لغوية جمالية، وخاصة أساليب المجاز التي اعتبرها « آية المواهب الطبيعية»[20]، لكونها الوسيلة التي يعبر بها الإنسان عن رؤاه الفنية، والتي تنم عن طبيعته الغريزية، ولا أدل على ذلك في رأي أرسطو من كون كل الناس يستعملون المجازات في أحاديثهم[21]
      ولا ينفصل الحديث عن الأساس الغريزي للشعر وجوهره الطبيعي عن التساؤل بخصوص مصدره، إذ القول إن الشعر نشأ عن موهبة طبيعية وليس "ربانية" لا يشكل إلا جزءا من الجواب عن إشكال كبير ودائم اختزله في القوس الأول من كتابه بقوله: إن كل أنواع المحاكاة تشكل إما «(بفضل الصناعة أو بفضل العادة) »[22] ، وهو الإشكال الذي استعاده بصيغة مغايرة في سياق آخر، حيث قال: « إن فن الشعر من شأن الموهوبين بالفطرة ، أو ذوي العواطف الجياشة ؛ فالأولون أكثر تهيؤا للتكيف مع أحوال أشخاصهم، والآخرون أشد استسلاما للنوبات الجنونية الشعرية.» [23]
      يميز أرسطو في هذا السياق بين مصدرين للشعر: الأول خارجي لا تدخل فيه للشاعر، ويتلقاه بشكل سلبي؛ والثاني داخلي لأنه يرجع إلى ذات الشاعر ويصدر عنها، ومن الجدير بالملاحظة أنه يأخذ – في طرحه سؤال مصدر الشعر-من أفلاطون تعليله اللاعقلي الذي يرجعه إلى "ربات الفن"، إلا أنه يتساءل-بموازاة ذلك- عن دور الفن في الإبداع الشعري؛ إذ إلى ماذا ترجع شاعرية هوميروس، هل بفضل «معرفته بأسرار الفن أو بفضل عبقريته ؟»[24] ، وتنم مقاربة أرسطو لهذه القضية عن موقف يحاول تخليص "ظاهرة الشاعرية" من التفسير المبتور بأحادية "غيبية"، إذ في تصوره أنها فعل إرادي ناتج عن مهارات وقدرات مكتسبة إما«(بفضل الصناعة أو بفضل العادة)»[25] ، كما يوضح في القوس الأول من كتابه : فن الشعر. ولعل مما يؤكد ذلك ربطه بين المضمون الشعري والطبيعة النفسية والخلقية للذات الشاعرة، وذلك في قوله :« ولقد انقسم الشعر وفقا لطباع الشعراء: فذوو النفوس النبيلة حاكوا الفعال النبيلة وأعمال الفضلاء؛ وذوو النفوس الخسيسة حاكوا فعال الأدنياء فأنشأوا " الأهاجي"، بينما أنشأ الآخرون الأناشيد والمدائح.»[26]
     يتبين هنا أن أرسطو لم يكتف بتقديم تصور حول نشأة الشعر، بل حاول تفسير تطوره وتنوع أساليبه ومواضيعه، وفي هذا الإطار رأى أن اختلاف الأخلاق الإنسانية والطبائع النفسية بين نبيلة وخسيسة انعكس على بنية الشعر مما أدى إلى ظهور جنسين شعريين: جنس نبيل وآخر خسيس، وانقسم تبعا لذلك الشعراء إلى طبقتين يمثل كل واحدة منهما جنسا معينا. وبالرغم من تأكيده وجود ارتباط بين الجنس الشعري والطبيعة النفسية للشاعر، إلا أنه يقيمه ضمن حدود التشابه ولا يصل به إلى حد التماثل والتطابق[27]، ذلك لأن الشاعر-ويقصد هنا الممثل- الذي يشخص الأفعال النبيلة ليس بالضرورة نبيلا، كما أن ذلك الذي يشخص الأفعال الخسيسة ليس حتما خسيسا، فهم «إنما يحاكون أفعالا، أصحابها هم بالضرورة إما أخيار أو أشرار، لأن اختلاف الأخلاق يكاد ينحصر في هاتين الطبقتين، إذ تختلف أخلاق الناس جميعا بالرذيلة والفضيلة. »[28]  
      ويجد انقسام الشعر وفقا لاختلاف الأخلاق وتباين الطبائع تفسيره في بنية المجتمع الإغريقي الذي يتكون من طبقتين متقابلتين: طبقة الأحرار والمثقفين، وتتمثل في النبلاء والساسة والفلاسفة؛ وطبقة العامة والعبيد، وتتمثل في الحرفيين والمأجورين والجنود[29]، ولذلك وجد نوعان منه: التراجيديا التي تمثل الأفعال النبيلة؛ والكوميديا التي تمثل الأفعال الخسيسة. وخلافا لما يعتقد لا يشير أرسطو بأي شكل من الأشكال إلى أن التراجيديا تخص الجمهور الفاضل، وأن الكوميديا تخص الجمهور الخسيس [30].
       وسواء بالنسبة إلى التراجيديا أم الكوميديا تنشد الحكاية الشعرية – بطريقة تشكلها وانتظام أساليبها- تحقيق غاية جمالية واحدة هي:التطهير Katharsis ، وهو فعل لصيق بمفهوم "المحاكاة" عنده، وقد شابه الكثير من الغموض والتعقيد [31]، ومثل مصدرا لجدل طويل وتأويلات مختلفة ومتباينة بين شراحه منذ القرن السادس عشر وحتى الآن [32]، ويقصد به في التراجيديا التأثير النفسي والأخلاقي الذي تمارسه على المتلقي،ويتراوح هذا التأثير بين الشفقة على مصير البطل أو الخوف من ملاقاة المصير نفسه:« فالمأساة إذن هي محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزودة بألوان من التزيين تختلف وفقا لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة أشخاص  يفعلون،لا  بواسطة الحكاية، وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات»[33].
      ويعد التطهير خاصية فنية تسم جمالية التراجيديا وتحكم طرق انتظام أجزائها وأحداثها، وتتحدد غايته الجوهرية في إثارة انفعالات الرحمة والخوف في نفس المشاهد لتخليصه من آثارها السلبية [34] ، لأن«المأساة لا تستهدف جلب أية لذة كانت، بل اللذة الخاصة بها (…) التي تهيؤها الرحمة والخوف بفضل  المحاكاة»[35].
     والتطهير بوصفه استجابة جمالية للمتلقي تتم على المستوى النفسي لا يمكن أن يتحقق إلا بواسطة الأجزاء الستة التي تكون البنية التمثيلية للحكاية المأساوية، وهي« الخرافة، والأخلاق، والمقولة، والفكر، والمنظر المسرحي، والنشيد»[36]. وتؤدي الموسيقى-أو النشيد حسب عبارته- مقارنة بالمكونات الأخرى وظيفة تأثيرية أكبر، لأنها تمتلك قدرة قوية على إثارة انفعالي الرحمة والخوف في النفس وتطهيرها منها. وهذا ما ألمح إليه أرسطو حين قال: « ومن بين سائر الأجزاء التأليفية يحتل النشيد (صناعة الصوت) المقام الأول بين التزيينات»[37].
      وقد سبق أن أشار في كتابه: في السياسة إلى أن القيمة الجمالية للموسيقى تكمن في قدرتها على تهذيب النفس وتطهيرها من الانفعالات الشديدة التي تكون لها انعكاسات سلبية على النفس « كالشفقة والجزع والتهيج العاطفي»[38]، وأكد ضرورة استثمار طاقتها التأثيرية في التأليف المسرحي لتهديء روع نفوس المتفرجين، وشحن عزائمهم، ودفعهم إلى نشدان  الكمال والفضائل الخلقية [39].
      وسواء في الموسيقى أم الشعر، يشي المحتوى الدلالي لمصطلح التطهير وبعده الوظيفي بملامح ذات أساس طبي، وهو ما يستشف من كلمات "العلاج" و"التهديء" و"الدواء" الواردة في مقاربة أرسطو له[40]. ولئن كان هذا الأمر قد حذا بأشهر مؤرخي النقد مثل آبركرومبي وديتش وهايمن إلى التنبيه على الأصول الطبية للمصطلح، فإنه يكشف أن المأساة هي « العلاج الذي يستطيع به شاعر المآسي أن ينظف نفوس سامعيه ويعيدهم إلى العاطفة الصحيحة بطريقة التطعيم»[41] .
      ويجد النسب الطبي لهذا المصطلح تفسيـره في البيئة الطبية التي نشأ فيها أرسطو، إذ كان والده طبيبا، وقد ولدت فيه مهنة أبيه شغفا حادا بهذا المجال العلمي[42] ، كما أن السياق النظري الذي تندرج ضمنه قضية التطهير الشعري هو الرد على أفلاطون الذي هاجم الشعراء والموسيقيين لكونهم يفسدون في تصوره الأخلاق والطبائع، فدافع - خلافا له- عن الوظيفة الأخلاقية والتربوية التي يؤدونها[43] .
2 - شياطين الشعر عند العرب :
      كما هو الشأن بالنسبة إلى اليونان، اعتقد العرب قديما أن الشعر إلهام لكائنات خارجية تصطفي الذات الشاعرة دون بقية الناس، وتتصل بها فتنفث فيها كلاما بديعا وساحرا لا يستطيع أحد قول مثله. وقد سموا تلك الكائنات بالشياطين والجن، وأكدوا أنها تستوطن "وادي عبقر".
     وإذا كانت تسمية الجاهليين للكائنات الملهمة وتعيينهم لفضاء الإلهام بأسماء محددة ذات قيمة دلالية ورمزية هامة، فإنها تشي بتصور أولي مُبَكِّر في الثقافة العربية لطبيعة الشعر وبعض خصائصه الفنية. ولا مجال للزعم هنا أن ذلك التصور كان ضاربا في عمق المعاينة العقلية والتفكير النقدي، ولكنه كان ينطوي- كما سنرى بوضوح لاحقا- على بعض المواقف والأحكام التي تعكس التصور "النقدي" المبكر لنشأة الشعر ومصدر الشاعرية.
       ويكفي تأمل دلالة كلمتي: الشيطان والجن في ذاتهما وفي علاقة كل واحدة منهما بالأخرى، ثم في علاقتهما معا بالشعر لتبين ذلك؛ فقد جاء في لسان العرب بخصوص كلمة " شيطان": «(...) شَطَنَ (...) أصله الشاطن: البعيد عن الحق (...) والشيطان فيعال من شَطَنَ إذا بعد فيمن جعل النون أصلا، وقولهم: الشياطين دليل على ذلك. والشيطان: معروف(...) والشيطان نونه أصلية(...) ويقال أيضا: إنها زائدة (...) إن جعلت نون الشيطان أصلية كان من الشَّطن البعد أي بعد عن الخير أو من الحبل الطويل كأنه طال في الشر، وإن جعلتها زائدة كان من شاط يشيط إذا هلك، أو من استشاط غضبا إذا احتد في غضبه والتهب(...) »[44] ، أما بالنسبة إلى كلمة "الجن" فأصلها من الجنن، نقول: «جَنَّ الشيء يجُنه جَنًّا: ستره. وكل شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك. وجنه الليل يَجُنه جَنَّا وجنونا وجَنَّ عليه يَجِنُّ، بالضم، جنونا وأجَنَّه: ستره(...) وفي الحديث: جنَّ عليه الليل أي ستره، وبه سمي الجِنُّ لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار، ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه.»[45]
       لعل أول ملاحظة تتبادر إلى الأذهان من خلال تعريف كلمتي "الشياطين" و"الجن" أنهما تشيران معا إلى كائنات غيبية ضالة مضلة؛ ذلك أنها لا ترى ولا تدرك بالحس، وتنصب فخاخ الغواية والتضليل للإنسان لتبعده عن طريق الحق والرشاد. ولاشك أن ربط الإنسان العربي في الجاهلية وصدر الإسلام الشعر والشعراء بهذه الكائنات لم يكن اعتباطيا، إذ في غياب الخطاب العلمي الواصف للعملية الشعرية بالمصطلحات والمفاهيم النقدية الدقيقة، والذي لم يبدأ في التشكل -لأسباب علمية وجمالية- إلا في القرن الثالث للهجرة، وفي ظل التساؤلات الشائكة والملاحظات الدقيقة التي كانت تثيرها الظاهرة الشعرية حول اختلاف خطابها عن سائر الخطابات المألوفة، وارتباطها بلحظات نفسية وزمنية وفضاءات طبيعية خاصة، كان طبيعيا أن يستثمر الجاهليون والإسلاميون لغة الإيحاء والترميز لتضمين بعض آرائهم وأحكامهم، التي تقوم العملية الشعرية،من جهة منتجها وتحققها النصي، وبالرغم من طابعها البدائي المغرق في الخرافة، إلا أنها تحمل وجهات نظر خاصة، وتنطوي على "تصورات نقدية مبكرة" .
     ذلك أن أصحابها-وهم شعراء أساسا- كانوا يرومون التأكيد على الطابع الغرائبي لخطابهم، وأن خصوصيته الجمالية لا تتحقق إلا عبر الانزياح عن الأشياء المعقولة والمعروفة، والتعبير عن ظواهر ومعطيات غير حقيقية، أو "بعيدة عن الحق" بلغة لسان العرب.
    ويتقاطع هذا التصور، الذي يرجع الشعر إلى شياطين الجن، مع موقف القرآن الكريم من نوع معين من الشعر، ربطه بالأهواء والهيامات، وذلك في قوله تعالى في سورة الشعراء: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ{224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ{225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ{226} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ{227}). ذلك أن هذه الآيات تؤكد أن نهج الشعراء ومهيعهم هو الهيام والكذب في القول، وهما سمتان دالتان على أن طريق الشعر متشعبة المسالك وملتوية الأساليب، وأنها تجول بالفكر في كل اتجاه، وتخرق بالرؤى حجب الحس وقيود الحقيقة وضوابط العقل. وتعتبر كلمة "الهيام" في الآية الكريمة« صفة من لا مسكة معه و لا رجاحة معه، وهي مخالفة لصفات ذي الحلم الرزين والعقل الرصين»[46] ، وتدل على أن القرآن أقر كما أشار إلى ذلك إحسان عباس « للشعراء بعالم مستقل وميزهم بالانحياز إلى الخيال دون أن يسمي ذلك خيالا »[47] .
    وإذا كان ربط العرب قديما للشعر بالشياطين والجن يستهدف التنبيه على خصوصيته الجمالية المتصلة بعالمه الفني ودلالاته الجمالية، فإن تأكيد الشعراء على أن مصدره كائنات غيبية، لا يروم إضفاء هالة على العملية الإبداعية فحسب عن طريق ربطها بكائنات مخيفة، ولكنه ينشد التشديد على طابعه الغرائبي الذي يجعله خفيا على الإدراك وعصيا على الفهم والتفسير، ولعل ذلك ما جعلهم يربطونه بكائنات غير مرئية، إذ الجن كما سبق من الاستتار والخفاء عن الأبصار، ومن تأتي أهمية زعمهم أن الشعراء يلتقون مع ملهميهم في: "وادي عبقر"، وهو مكان سري لا يهتدي إليه إلا من تم انتقاؤه ليصبح شاعرا.      
    ومن الواضح أن اختيار التسمية لم يكن اعتباطيا، ذلك أن اختيار أفراد دون آخرين ليصبحوا شعراء يستند إلى بعض المميزات التي تسم قدراتهم الذهنية والإدراكية والتي تشير إليها كلمة  "العبقرية"، كما يرتكز على الطاقات التعبيرية والخصائص الإيحائية لكلامهم، والتي تتحدد في غزارة الإنتاج وتدفقه، وهو ما ترمز إليه كلمة "وادي". مما يعني أن "شياطين الجن" لا تهدي أيا كان إلى مكان وجودها، ولكنها تختار أفرادا معدودين، يتسمون بملكات نفسية وذهنية، وقدرات تعبيرية خاصة. وإذا كان العرب قديما قد اختاروا اللغة المجازية للتعبير عن مواقفهم وأحكامهم حول الشعر والشعراء، فإن هذه المواقف والأحكام هي التي ستتضح وتنضح في الخطاب النقدي، وسيتم التعبير عنها في معرض تعريف الشاعرية، ومن خلال مصطلحات عديدة من قبيل: "الفحولـة" و"الذكاء " و "القريحة " و " الخاطر".....    
     ويبدو أن الشعراء الجاهليين والإسلاميين لم يكونوا مقتنعين بفكرة شياطين الجن، ولكنهم كانوا يتعمدون توظيفها بغاية إضفاء نوع من الغرائبية على خطابهم، ومن ثمة على ذواتهم التي لا تأبه بمواجهة المخاطر، ولقاء الكائنات الغيبية. وإذا كان التراث العربي قد حفل بالعديد من الأخبار والشواهد النصية التي تؤكد أن لكل شاعر شيطانا من الجن يصاحبه ويلهمه الشعر، فإن تأملها يؤكد ما سبق قوله من كون أصحابها ضمنوها ملاحظات وآراء نقدية حول العملية الشعرية تنسجم مع طبيعة الوعي النقدي الذي كان سائدا عندهم، ومن النماذج الدالة على ذلك قول امرئ القيس:
تخيرنـي الجـن أشعارهـا   فما شئت من شعرها انتقيت
     وقول حسان بن ثابت:
ولي صاحب من بني الشَّيْصَبان    فطـورا أقـول وطورا هـوه
    وفي السياق نفسه يقول أبو النجم العَجَلي:
وإني وكـل شاعـر من البشـر    شيطانه أنثى وشيطانـي ذكـر
    ويقول أيضا الأعشى ميمون بن قيس:
 وما كنت ذا خوفٍ ولكن حسبتني   إذا مَسْحَلٌ يُسْدي لي القولَ أنْطِقُ
                     شريكان في ما بيننا من هـــــــــــــــــــــــوادة    صفيـان إنسـي وجـن موفـــــــــــــــــــــــــــقُ
                     يقـول فلا أعيـا بقـول يقولـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه   كفانـي لاعـيٌّ ولا هـو أخـــــــــــــــــــــــــــــرق
      ذلك أننا إذا تأملنا هذه الأبيات سنلاحظ أن كل واحد من الشعراء عبر عن تصورات متفاوتة ومختلفة، فامرؤ القيس –وإن كان يقر بفكرة الإلهام الشعري- أكد أن شيطانه الشعري لا يسلبه حريته وإرادته في القول الشعري، ولا يعتبره مجرد "رسول" عليه أن يوصل أشعاره إلى الناس، بل يعرض عليه جملة من القصائد، ويترك له حرية اختيار ما شاء منها. ولا شك أن امرأ القيس يروم أن يرسخ بذلك فكرة تفوقه الشعري، ليس على بني البشر، بل حتى على الجن، لأن في دعوتها له إلى انتقاء أشعار دون غيرها، تقر بعجزها، وتعترف له بذوق جمالي خاص ومعرفة عميقة بأسرار الشعر وقدرة فائقة على تصنيفه في سلم الجمالية.
    وخلافا لامرئ القيس يشير حسان بن ثابت إلى أنه يتناوب مع شيطانه قول الشعر، إذ يتكفل كل واحد منهما بقوله في لحظات معينة. بيد أن ما يميز بيت حسان كونه يسمي قبيلة صاحبه، فاختار لها كلمة غريبة يصعب النطق بها لكونها متقاربة مخارج الحروف، وكأنه بذلك أراد الإشارة إلى غرابة العملية الشعرية وصعوبتها.  
     أما أبو النجم العجلي، فقد حاول أن يرجع تفوقه على غيره من الشعراء إلى كون قرينه جني ذكر، بينما قرينات الشعراء الآخرين فجنيات. ومن الواضح أن الشاعر هنا يستثمر –بالنظر إلى اللحظة التاريخية والمعرفية التي عاش فيها- بعض التصورات النقدية الناشئة، خاصة مع الأصمعي في مصطلح الفحولة الذي استثمر دلالته، فأرجع التفوق في الشاعرية إلى عامل ذكوري أساسا.
     أما الأعشى فلم ير في قرينه من الجن أي مصدر للشر أو سبب للخوف، ولكنه شريك له في الإبداع الشعري، ومعين له على إنتاج نصوص شعرية بديعة. وهو وإن كان سماه باسم غريب (مسحل)، فإنه جرى في ذلك على نهج الشعراء والمتأدبين قديما الذين ظلوا يحرصون على التصنع والغرابة في تركيب أسماء شياطين الشعر وأسماء آبائها[48]. ويبدو من خلال تأمل تلك الأسماء أنها لم تكن مقصودة لذاتها، بقدر ما كانت تروم تسجيل بعض الملاحظات والأحكام حول أساليبهم الشعرية وملكاتهم الشاعرية، وهو أمر كان طبيعيا بالنظر إلى خصوصية اللحظة التي قيلت فيها، إذ في ظل غياب خطاب نقدي قادر على وصف العملية الشعرية بلغة علمية دقيقة، كانت اللغة الإيحائية والعبارات الترميزية تعوض ذلك النقص كما سبق القول، ويكفي تأمل نماذج من أسماء شياطين الشعراء التي أوردها أبو زيد القرشي لتبين ذلك:
        هُبَيْد بن الصلادم .................................................  شيطان عُبيد بن الابرص
        مُدْرك بن راغم ..................................................  شيطان الكُميت بن زيد الأسدي
       لافظ بن لاحظ ....................................................  شيطان امرئ القيس
       هادر بن ماهر ....................................................   شيطان النابغة الذبياني
    يشي تأمل هذه الأسماء بأن اختيارها لم يكن اعتباطيا،وإنما كان يرمي إلى تحديد بعض الخصائص الجمالية التي تميز كل شاعر على حدة،ومن ثمة ينطوي على أحكام تميز أساليبهم،وتبرز الصفات التي تميزوا بها والتي تتفاوت بين الإبداعية (ماهر) والإدراكية (مدرك، لاحظ) والتعبيرية (لافظ، هادر).
     ومن ثمة، فبالرغم من الطابع الخرافي لهذا المعتقد الذي يروم إدخال المتلقي في عالم العجائب والغرائب، وإيهامه بتوعر سبل التوصل إلى قول الشعر، إلا أنه يشير ضمنا إلى بعض الخصائص الفنية والشروط الجمالية التي تميز القول الشعري، ويجب أن تتحقق في الذات الشاعرة، والتي توحي ببعضها أسماء شياطين الشعر. ويبدو أن الشعراء بدأوا يتخلون بداية من العصر الأموي عن الإيمان بفكرة شياطين الشعر، نتيجة وعيهم أن ذواتهم هي مصدر الشاعرية، وأن إدراك أسرارها النفسية وغوامضها الإبداعية يتطلب معاينة حركيتها الذهنية والنظر في نشاطها الإدراكي، وتحديد طبيعة القوى الغريزية والطاقات الشعورية التي تنتجها، ثم رصد بواعثها الذاتية ومثيراتها الموضوعية. فأصبح الشعر عندهم صناعة وعلما وليس إلهاما.[49]
3-  نحو تفسير علمي للظاهرة الإبداعية في التراث النقدي عند العرب:
مكن الوعي بأن الذات المبدعة هي مصدر الشعر من بداية تخلي الشعراء والمتأدبين عن فكرة شياطين الشعر، والاتجاه نحو بحث أسرارها النفسية وغوامضها الإبداعية عبر معاينة حركيتها الذهنية والنظر في نشاطها الإدراكي، وتحديد طبيعة القوى الغريزية والطاقات الشعورية التي تنتجها، ثم رصد بواعثها الذاتية ومثيراتها الموضوعية، الأمر الذي مكنهم من النظر إلى الشعر باعتباره صناعة وعلما وليس إلهاما، وهذا مايشير إليه قول الجاحظ :« إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير.»([50])، ويؤكده قول القاضي الجرجاني إن: « الشعر علم من علوم العرب.»([51])
ولأن اللحظة التاريخية والمعرفية التي حكمتهم لم تكن تسمح لهم بإنتاج تصور علمي يفسر تلك الظاهرة ويبين أسبابها ومؤثراتها الذاتية والموضوعية، فقد استعاضوا عنها بلغة الإبدال، وألمحوا إليها بالعديد من الإشارات التي لا تكتفي بالتنبيه إلى الظاهرة بل تسائلها في ذاتها وتجلياتها.
وتكفي العودة إلى مأثورات الشعراء والمتأدبين خلال العصرين الإسلامي والأموي ليتبين أنهم كانوا يؤكدون أن الفعل الإبداعي نشاط واع وإرادي للذات، وأنه لا يرتهن إلى الخارج بل يصدر من الداخل، ويحتاج إلى فضاءات خاصة وترافقه طقوس معينة، جاء في العمدة: « لابد لكل شاعر- وإن كان فحلا، حاذقا، مبرزا، مقدما- من فترة تعرض له في بعض الأوقات: إما لشغل يسير، أو موت قريحة، أو نبو طبع في تلك الساعة أو ذلك الحين. وقد كان الفرزدق- وهو فحل مضر في زمانه- يقول: تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون عليّ من عمل بيت من الشعر. فإذا تمادى ذلك على الشاعر قيل: أصفى وأفصى، كما يقال "أفصت الدجاجة" اذا انقطع بيضها (...) ثم إن للناس فيما بعد ضروبا مختلفة: يستدعون بها الشعر، فتشحذ القرائح وتنبه الخواطر، وتلين عريكة الكلام، وتسهل طريق المعنى: كل امرئ على تركيب طبعه، واطراد عادته (...) نجد الشاعر تكل قريحته مع كثرة العمل مرارا، وتنزف مادته، وتنفد معانيه، فاذا أجم طبعه أياما- وربما زمانا طويلا- ثم صنع الشعر جاء بكل آبدة، وانهمر في كل قافية شاردة، وانفتح له من المعاني والألفاظ ما لو رامه من قبل لاستغلق عليه، وأبهم دونه، لكن بالمذاكرة مرة؛ فإنها تقدح زناد الخاطر، وتفجر عيون المعاني، وتوقظ أبصار الفطنة، وبمطالعة الأشعار كرة؛ فانها تبعث الجد، وتولد الشهوة (...) .» ([52])  
يتبين من خلال هذا النص أن العرب كانوا واعين بأن العملية الإبداعية تخضع الشاعر لمنطقها الخاص وحركيتها الفريدة، وأن الإبداع ليس فعلا آليا ونشاطا ذهنيا تستجيب به النفس لإرادة الشاعر متى شاء وأين شاء، بل إنه تحكمه كثير من العوامل والضوابط النفسية الباطنية التي يصعب تفسيرها والتحكم فيها، وتظل غامضة ومنفلتة، وعصية على الفهم والانقياد، وهذا ما يجعل الكثير من الشعراء يتحسسون رغبة جامحة في قول الشعر أحايين كثيرة إلا أن ملكتهم الشعرية لا تسعفهم ولا تستجيب لهم.
ولئن كانوا قد أرجعوها في بواكير نشأة الشعر إلى كائنات غيبية، فسرعانما تخلوا عن هاته الفكرة، وأخذوا يؤكدون الطبيعة الإرادية للعملية الإبداعية، باعتبارها نابعة من الذات، ويبحثون عن العوامل النفسية والموضوعية التي تستثير الملكة الإبداعية وتطلق العنان لها، وفي هذا الإطار تنظم جملة من الحكايات والأقوال التي تبين أن الشعراء والرعيل الأول من العلماء أدركوا أن الذات الشاعرة تحتاج أحايين كثيرة إلى جملة مؤثرات ومحفزات داخلية وخارجية لتتفتق قدرتها التعبيرية وطاقتها الإبداعية، وقد أرجعوا ذلك إلى الطرب وشرب الخمر والخروج إلى الفضاءات الطبيعية الخلابة واختيار أوقات معينة للإبداع، ومن بين تلك الحكايات والأقوال ما أورده ابن رشيق في كتابه العمدة: « قيل لكثير: كيف تصنع اذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المَحيلَةِ؛ والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع  إلي أحسنه (...) وقال الأصمعي: ما استدعي شارد بمثل الماء الجاري، والشرف العالي، والمكان الخالي- وقيل الحالي، يعني الرياض- (...) وقالوا: كان جرير إذا أراد أن يؤبد قصيدة صنعها ليلا:يَشعل سراجه و يعتزل، وربما علا السطح وحده فاضطجع وغطّى رأسه رغبة في الخلوة بنفسه. يحكى أنه صنع ذلك في قصيدته التي أخزى بها بني نمير (...) وروي أن الفرزدق كان إذا صعبت عليه صنعة الشعر ركب ناقته، وطاف خاليا منفردا وحده في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخَربة الخالية، فيعطيه الكلام قياده. حكى ذلك عن نفسه في قصيدته الفائية :
                        عَزَفَتُ بأعشاش وما كدتَ تعزف
(...) وقيل لأبي نوّاس: كيف عملك حين تريد أن تصنع الشعر؟ قال: أشرب حتى إذا  كنت أطيب ما أكون نفسا بين الصاحي والسكران صنعت وقد داخلني النشاط وهزَّتني الأريحية (...).» ([53])
لا تؤكد هذه النصوص أن الشعراء والمتأدبين قطعوا نهائيا مع خرافة الإلهام فحسب، ولكنها تبين أيضا أنهم أخذوا يفكرون في العملية الإبداعية في علاقتها بالذات الشاعرة والنفس المبدعة، ويسعون إلى تفسيرها تفسيرا مقنعا، وهو ما لم يتأت لهم بالنظر إلى تأخر نضج التفكير النقدي في العملية الإبداعية، وصعوبة مقاربة هاته العملية بغير المصطلحات النفسية. ولذلك فقد ظلوا متفقين على أن النفس الشاعرة لا تستجيب لرغبة البوح الشعري لدى صاحبها إلا ضمن أجواء خاصة، وفضاءات فريدة، أما إذا سألناهم ماذا يحدث بالضبط لدى الشاعر حين يتناول شرابا مسكرا أو يسمع لحنا شاجيا أو مطربا أو يخرج إلى أماكن طبيعية خلابة في أوقات معينة فلا أحد منهم يمكنه أن يجيب على هذا السؤال، لأنهم إنما كانوا يصفون الحالات التي تحدث لهم، ويعبرون عن التجارب التي عاشوها بأنفسهم أوعاشها من كان قبلهم من الشعراء، ولم يتحصل لديهم علم بالنفس يمكنهم من فهم أن القوى الخيالية تحتاج -لكي تبدع وتخلق عوالم جمالية جديدة وجميلة- أن تتحرر من قيود العقل ورقابة الفكر، وهو ما لا يتأتى لها حين يكون الإنسان منغمسا في صخب العلاقات الاجتماعية معرضا لكل أنواع التشويش والإرباك التي تؤثر على تركيزه النفسي وصفائه الذهني، ولذلك فمالم يلجأ بنفسه وخياله بعيدا عن الواقع المادي المبتذل، ومالم يختل بذاته وهواجسه بعيدا عن الناس ومشاكلهم يصعب عليه أن يبدع، ويظل يستشعر حالة الوجع وشدة المخاض التي لن تنتهي بالميلاد السعيد للقصيدة إلا إذا وجد لنفسه وذهنه مكانا مناسبا واختار له لحظة شعورية ووقتا زمنيا مناسبين.  
وقد وجد الجواب على هاته المسألة عند الفلاسفة المسلمين الذين أكدوا أن المدخل الصحيح لفهم ما يعتور الذات الإنسانية ويعوقها عن الاستجابة لرغبة التعبير الجمالي هو فهم النفس الإنسانية ومعرفة أحوالها وكيفيات اشتغال مداركها، ويعتبر الفارابي الفيلسوف العربي الوحيد الذي أشار في كتاب الشعر لهاته المسألة وعبر عن وعيه بها، فقد أكد أن البحث في العملية الإبداعية أمر صعب، ويقتضي حصول معرفة دقيقة بأمر النفس الإنسانية وبقواها الإدراكية، وهو ما عبر عنه بقوله: « إن أحوال الشعراء في تقوالهم الشعر تختلف في التكميل والتقصير. ويعرض ذلك إما من جهة الخاطر، وإما من جهة الأمر نفسه. أما الذي يكون من جهة الخاطر فإنه ربما لم يساعده الخاطر في الوقت دون الوقت، ويكون سبب ذلك بعض الكيفيات النفسانية: إما لغلبة بعضها، أو لفتور بعض منها مما يحتاج إليها. والاستقصاء في هذا الباب ليس مما يليق بهذا القول، وذلك تبين في كتب الأخلاق وأوصاف الكيفيات النفسانية وما توجبه كل واحدة منها.»([54])
ولئن كان الفارابي يشدد على ضرورة تحصيل معرفة علمية بالنفس قبل تفسير العملية الإبداعية ووصفها، فمن الملاحظ أنه ظل في حديثه هنا مقتصرا على المقاربة العربية الأصيلة، لكونه استعمل مصطلح الخاطر، وهو مصطلح لم يكن موضوع تفكير أرسطو في كتابه في النفس ولا مجالا لاشتغاله. لأن أسطو كان يتحدث عن القوى الخيالية، ويسميها بمصطلحاتها الخاصة،  ويعتبرها مصدر الإبداع وأساسه، كما كان يشرط اشتغال هاته القوى بالتخلص من قيود الحس والعقل والفكر، وهو ما عبر عنه الفارابي بقوله: " مالم تغلب". وتتضح هاته المسألة في قول ابن سينا« والقوة المتخيلة خاصتها دوام الحركة ما لم تغلب»([55])، وهو قول يفسره ابن رشد بقوله:« فعل هذه القوة  يجود بالسكون، ويختل مع حضور المحسوسات»([56]).
معنى ذلك أن « الحركة الإبداعية للمتخلية تبلغ أعلى مستويات تحررها وحيويتها في النوم، لأن فيه تسكن كل قوى الإدراك وتبسط المتخيلة سلطتها المطلقة على كل ملكات النفس، فتخضعها لمنطقها الإدراكي»([57])، كما «أن الحركة الذهنية للمتخيلة لا تستمر على حالة واحدة، إذ يختل نشاطها الإدراكي ويضعف باشتغال الحواس، ويقوى ويتضاعف حين تتحرر من قيود الحس وتتخلص من السلطة الشعورية للوعي والفكر.»([58])
إذا كان ذلك يعني أن المدخل لتفسير العملية الإبداعية يمر ضرورة عبر معرفة أمر النفس البشرية، وأن كل مقاربة تكتفي بالحديث عن الجانب الجمالي وتغفل أساسها النفسي ستظل ناقصة، فإننا نلاحظ أن بعض النقاد والبلاغيين العرب حاولوا القيام بخطوات في هذا المضمار، مشددين على ضرورة الربط بين الشعر وقوى النفس البشرية، دون أن يعني ذلك إفادتهم من أرسطو وغيره، ولعل أول من خطى الخطوات الأولى في هذا الاتجاه هو القاضي الجرجاني، فقد أدرك أن الحديث عن الشعر والبحث عن أسراره الدفينة، سيظل غير ذي جدوى ما لم يتم التأكيد على صفته "الإنتاجية" وطبيعته "النفسية"، لأنه في نظره خطاب لا يتأتى إلا بحصول خصال نفسية وقوى إبداعية ضرورية، واستنادا إلى طرق إدراكية مغايرة للمألوف، وقد أجمل ذلك في قوله: « الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه؛ فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز؛ وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان (…) وتجد (…) الشاعر أشعر من الشاعر، والخطيب أبلغ من الخطيب؛ فهل ذلك إلا من جهة الطبع والذكاء وحدة القريحة والفطنة!»([59])
     فالشاعرية بوصفها قدرة خارقة على الحدس بجمال الظواهر وموسيقاها الخفية تتحصل في النفس بتفاعل ثلاثة عناصر: « الموهبة أو الطبع، والثقافة أو الرواية، ثم الممارسة المستمرة أو الدربة» ([60]) ، ويعد الطبع شرطا أولا لتحققها، وخصلة نفسية مسببة لها، ودالة على استعداد الإنسان ذهنيا وتهيؤه غريزيا لقول الشعر والبراعة فيه؛ إذ « الطبع هو استكمال للنفس في فهم أسرار الكلام، والبصيرة بالمذاهب والأغراض التي من شأن الكلام الشعري أن ينحى به نحوها» ([61]) .
     وقد حظي الطبع في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب بقيمة خاصة، وصارت جمالية الأشعار تقاس لديهم بمدى ملاءمتها لمقتضياته الإبداعية أو مفارقتها له، ومرد ذلك إلى كونه «يتضمن – فيما يتضمنه – تلك القوة التي تستثار» ([62]) ، بالمثيرات العاطفية والطبيعية، والتي يتمكن الشاعر بواسطتها « من إدراك المتشابهات حتى إن تكتمت على نفسها واتشحت بالغياب »([63]).
     بيد أن الطبع ليس وحده كافيا لاشتغال قوى الشاعرية، بل لابد أن يكون فكر الشاعر وذهنه حادا وسريع التفطن إلى جهات تشابه الظواهر والمعطيات الطبيعية وتماثلها ، وألا يقبل من الصور التي يوردها عليه خاطره وتناجيه بها هواجسه إلا بتلك التي تنطوي على طاقة جمالية دائمة التوهج والإيحاء، وهذا أمر لايتأتى إلا إذا ترابطت قوى الشاعر وتناغمت حركاتها الشعورية والإبداعية ، وامتدت برؤاه التخييلية إلى أبعد مواطن الخلق والابتكار؛ وهذا مايعبر عنه بشار بن برد في معرض إجابته عن سؤال: « بم فقت أهل عمرك وسبقت أبناء عصرك في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه؟ قال: لأني لم أقبل كل ماتورده علي قريحتي، ويناجيني به طبعي، ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن، ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات، فسرت إليها بفكر جيد، وغريزة قوية، فأحكمت سبرها، وانتقيت حرها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت عن متكلفها، ولا والله ماملك قيادي الإعجاب بشيء مما آتي به.»([64])
يعين بشار هنا مستويين من مستويات الإبداع الفني: يتصل أولهما بالقوى النفسية والملكات الذهنية التي يعتمد عليها الشاعر في إنتاج رؤاه التخييلية، ويحددها في الطبع والغريزة والقريحة والفكر والفطن؛ ويتعلق ثانيهما بالمنطق الحركي الذي يسم عملية الخلق الشعري، ويميز تفاعله مع العالم والأشياء .
وفي هذا الإطار يرى أن الإبداع الشعري فعل تحرر دائم من العلاقات الحسية الثابتة والمبتذلة التي تسود بين الظواهر والأشياء، ورؤية مغايرة للوجود بهدف القبض على الجوهر الحقيقي لمعطياته، والنفاذ إلى جمالها الخفي والدائم؛ كما يرى أن الشاعر المطبوع هو ذاك الذي لايرضى بكل ماتورده عليه قريحته وغريزته، ولايقنع بما تناجيه به هواجسه، بل يكد ذهنه ويحرك خيالاته ليصل إلى المعاني والصور الفنية العقم، ويظل مع ذلك مسكونا بحالات من الوجع الإبداعي والقلق النفسي، لأن ما يقوله لا ينال رضاه، ولايعكس بدقة – في تصوره – التخاييل التي تخالج خاطره وترتسم في ذهنه، ولذلك فكلما "انتهى" من تشكيل أحد أعماله الشعرية إلا واشتعلت في وجدانه رغبة متأججة لخوض غمار تجربة إبداعية جديدة.
        ولم يتوقف العرب في بدايات نشأة تفكيرهم النقدي عند تفسير قضية الإبداع الشعري وتعليلها عند هذا الحد المتصل بتسمية "قوى نفسية" ووصف الحالات الوجدانية التي تتلبس الشاعر اثناء إبداعه الشعري، بل ذهبوا ابعد من ذلك، بحيث حاولوا أن يرجعوا تفاوت درجات الشاعرية واختلاف أساليبها ومستوياتها إلى التركيب الفيزيولجي للذات، وفي هذا الإطار يقول القاضي الجرجاني: « وقد كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الأخر، ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره؛ وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع، وتركيب الخلق.»([65]) 
يتبين مما سبق أن العرب قد انشغلوا منذ بواكير نشأة تفكيرهم النقدي بتفسير ظاهرة الإبداع الشعري وتعليلها، وقد سلكوا في هذا السبيل مسلكا خاصا تمثل في القطع مع التفسير الخرافي الذي كان يرجع العملية إلى قوى غيبية، وأخذوا يسائلون الذات في علاقتها بالعالم والآخرين وفي تكوينها النفسي، ولئن كانوا قد أرجعوا العملية الإبداعية إلى: الطبع والخاطر والقريحة والغريزة، معتبرين إياها قوى نفسية للخلق والابتكار، فإنهم قد عبروا بذلك عن وعيهم بأن المدخل الصحيح لفهم الشعر وإدراك أسراره الإبداعية يتمثل في ربطه بالنفس. وبالرغم من قيمة هذا الوعي وتلك المحاولة إلا أنها تظل قاصرة عن التفسير العلمي الدقيق والمقنع. وهو ما سيسعى بعض النقاد والبلاغيين الآخرين إلى تجاوزه، من خلال استثمار المباحث النفسية لفلاسفة الإسلام لدراسة تلك الظاهرة وتحديد طبيعة قواها الإدراكية وإبراز مراتبها الذهنية ووظائفها النفسية .
4-  التفسير الفلسفي لقضية الإبداع الشعري عند العرب:
سبق القول إن الفلاسفة المسلمين قدموا مقاربة نفسية للعملية الخيالية، فأبرزوا قيمة الخيال ودوره الفاعل في الحياة الإنسانية، كما كشفوا طبيعة علاقته وحدودها بغيره من القوة الذهنية والملكات النفسية الأخرى. وبالرغم من أهمية مباحثهم في هذا المجال، إلا أنهم لم يربطوا ماقالوه عن القوى الخيالية للنفس -وغيرها من ملكات الإدراك الذهني- بعملية الإبداع الفني، فكانت تلك أكبر ثغرة تصم تصوراتهم وأبحاثهم.
ويعتبر حازما القرطاجني، من أبرز النقاد الذين أدركوا ذلك وسعوا إلى تحقيقه، خاصة وأنه أفاد من جهود الفلاسفة المسلمين، واستوعب ما أمكنه الاستيعاب مباحثهم ومؤلفاتهم، فضلا عن إحاطته بالتصورات والمنجزات النظرية والمنهجية والتطبيقية للبلاغيين والنقاد العرب السابقين.
وتندرج عناية القرطاجني بدراسة قوى الإبداع الشعري في سياق معاينته الحركة الذهنية للتخييل النفسي بغاية ضبط خصائصها الإدراكية ووظائفها النفسية التي تميزها عن النشاط الذهني لقوى الإدراك النفسي العادي؛ لأن فهم الجوهر التخييلي للشعر، والإحاطة بقوانينه الإبداعية، وعناصره الجمالية ـ بصورة كلية وعميقة ـ يقتضي الوعي - أساسا وأولا - بالاختلافات الإدراكية بين الخيال المبدع والخيال العادي، وتحديد خصوصية الوعي الخيالي، وإبراز الفرق بينه وبين الأوعاء الذهنية الأخرى كالإدراك والتذكر وغيرها؛ كما يتطلب أيضا رصد طرق تفاعل مدارك الشاعر مع العالم الخارجي وبيان كيفيات انتقال المواضيع المادية من سياقاتها الحسية إلى المجال الذهني، ومستويات تشكلها النفسي والشاعري لتصير في الأخير صورة شعرية ذات بنية لغوية مخيِّلية.
ومما لاشك فيه أن طموحا مثل ذلك ليس أمرا سهلا، خاصة وأنه لا يروم تحديد السمات الإبداعية الكبرى لحركية التخييل الشعري فحسب. ولكنه يطمح إلى أبعد من ذلك؛ إذ ينشذ  النفاذ إلى باطن النفس الشاعرة، لرصد الحركة الإبداعية لقواها الخيالية، ومتابعة مختلف مراحل تشكل الصور التخييلية فيها. وهذا أمر لم يسبق أن خاض غماره – كما سبق القول - أي أحد من النقاد والبلاغيين العرب، بل وحتى الفلاسفة المسلمين لصعوبة مرامه، وتوعر سبل التوصل إليه.
بيد أن مقاربة القرطاجني للطبيعة الإبداعية للتخييل الشعري لا تنحصر في البحث في القوى النفسية والملكات الخيالية التي يستند عليها الشاعر في تشكيل رؤاه الجمالية فقط. بل إنه يتناول أيضا العوامل الأخرى الفاعلة في عملية التخيُّل الشعري والمؤثرة فيه، والتي ترفدها بطاقات تعبيرية وإمكانات إبداعية عديدة وغنية. وتكمن خصوصية تلك العوامل في أنها ذات مصدر خارجي؛ إذ إن أصلها هو العالم المادي والتجارب الموضوعية. وتتمثل في الظواهر الإدراكية والحالات الشعورية والعاطفية التي يحياها الشاعر وتترسخ في ذاكرته. كما تتمثل أيضا في المعارف والمعلومات التي يتلقاها، وفي طرائق التعبير التي يكتسبها.
والعمليـة التخييلية التي يشكلها الشاعر هي نتـاج  تفاعل كل هـذه العـوامل وتـرابطها. فكما أنه لا يمكن تصور صورة شعرية بدون قوى الخيال الذهني، كذلك لا يمكن الحصول عليها بمعزل عن محيط واقعي وعن سلوك كلامي. ولذلك فسواء بدأنا بالجانب الأول أو الثاني أو الثالث فليس ذلك بالأمـر الهام ما دام لكل واحد من هذه الجـوانب والعوامل أثـره الفعال ودوره المميـز في العملية التخييلية كمـا تدل على ذلك العبـارات التي استهل بها القرطاجني حديثه عـن كل واحدمنها لكن ومع ذلك فالمنطق يقتضي البداية  بالحديث عن الشروط المادية التي تؤثر في التكوين الإبداعي للخيال  وتجعل من صاحبه شاعرا أو موسيقيا أو رساما أو قاصا. خاصة وأن حازما يشير إلى ما يوحي أنه يعي الأثر الفعال للبيئة في عملية الإبداع الفني. وذلك في  قوله: «(…)  فقلما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة، ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة، ولا في جودة النظم من لم يحمله على مصابرة الخواطر في إعمال الرؤية الثقة بما يرجوه من تلقاء الدولة، ولا في رقة أسلوب النسيب من لم تشط به عن أحبابه رحلة ولا شاهد موقف فرقة»([66]) .
ويرى حازم القرطاجني أن العوامل البيئية التي تؤثر في تكوين شخصية الشاعر تنحصر في ثلاثة عوامل بدونها لا يستطيع أن يصوغ قولا شعريا جميلا حتى ولو امتلك خيالا مجنحا ومتقدا. يقول محددا تلك العوامل: « لما كان الشعر لا يتأتى نظمه على أكمل ما يمكن فيه إلا بحصول ثلاثة أشياء، وهي المهيئات والأدوات والبواعث، وكانت هذه المهيئات تحصل من جهتين:  1-النشء في بقعة معتدلة الهواء، حسنة الوضع، طيبة المطاعم، أنيقة المناظر، ممتعة من كل ما للأغراض الإنسانية به علقة.  2-والترعرع بين الفصحاء الألسنة المستعملين للأناشيد المقيمين للأوزان (…) وكانت الأدوات تنقسم إلى العلوم المتعلقة بالألفاظ والعلوم المتعلقة بالمعاني.  وكانت البواعث تنقسم إلى أطراب وإلى آمال، وكان كثير من الأطراب إنما يعتري أهل الرحل بالحنين إلى ما عهدوه ومن فارقوه، والآمال إنما تعلّق بخدام الدول النافعة وجب ألا تكمل تلك المهيآت للشاعر إلا بطيب البقعة وفصاحة الأمة وكرم الدول ومعاهدة التنقل والرحلة»([67]) .
فالقرطاجني يحدد هنا الشروط الموضوعية والعوامل الطبيعية والثقافية التي تؤثر في النفس الشاعرة وتفجر طاقاتها الإبداعية منذ بداية تشكلها وخلال لحظات تطورها ونضجها. وما يقوله هنا ليس أمرا جديدا في الثقافة العربية؛ فقد سبق للرعيل الأول من الشعراء والنقاد العرب أن وعوا قيمة هذه العوامل وأدركوا أثرها الفعال في صقل الموهبة الشعرية، وفي إثارة الذات الشاعرة ودفعها إلى صياغة رؤاها الجمالية وانفعالاتها العاطفية في تجربة شعرية مؤثرة. هذا ما نتبينه في نصوص عديدة أوردها الجاحظ وابن قتيبة وابن رشيق وغيرهم([68]) .
وخلافا لما ذهب إليه لطفي اليوسفي لا تنحصر أهمية العمل الذي قام به حازم هنا فقط في أنه استقصى تلك النصوص وتمثل التصورات النظرية التي تنطوي عليها، فأعاد صياغتها بطريقة مكثفة وشاملة «فتعرض إلى عوامل نشأة الشاعرية ونموها واستعرض طرائق رفدها.»([69]). بل تكمن بالأحرى في أنه أوردها في سياق تحديده للعوامل التي تؤثر في الحركة الذهنية للخيال وفي نشاطه الإبداعي سواء في لحظات بداية تشكله، أم في مراحل تطوره ونموه.
يفيد تأمل  النص أعلاه في استنتاج أن تلك العوامل تنقسم في العمق إلى قسمين رئيسين:
فالقسم الأول يضم المعارف والأدوات التعبيرية التي يكتسبها الشاعر بالنشوء بين فصحاء الأمة وبلاغييها، أو بتعلم طرق تأليف الكلام ومقتضيات البراعة فيه. وتندرج في هذا القسم الجهة الثانية من المهيئات والأدوات، وتبرز فاعليته في أنه يمكن خيال الشاعر الناشئ من التمييز بين مستويات التعبير اللغوي، ومن الوعي بالخصائص الأسلوبية والتركيبية للقول البديع. ولذلك فلما ترتسم فيه صور المعاني وطرق التعبير الجمالي عنها يقوم بتركيب ومحاكاة بعضها ببعض، لينتج كلاما شبيها بها. ولعل حازما قصد شيئا من هذا القبيل، خاصة أن ابن سينا الذي تشبع بأفكاره وتصوراته كثيرا سبق أن أكد غير مرة في رسائله النفسية أن الحركة الذهنية والغريزية للمخيِّلة تتميز بمحاكاة الأشياء الواردة عليها بما يشبهها ويناسبها أو يخالفها ([70]).
أما القسم الثاني فيتعلق بالنشوء في أرض معتدلة الهواء وساحرة الطبيعة وخصبة الثمار، ثم بمداومة السفر والتجول في الفضاءات الطبيعية الساكنة والممتعة. ويبدو أن هذا الشرط الذي يضعه حازم غريب بعض الشيء؛ لأنه يروم أن يقيد حركية الخيال الشاعري ضمن حدود جغرافية ضيقة. في حين أن الشاعر قد ينشأ في صحراء قاحلة وأرض موحشة ومقفرة. وقد تتفتق طاقته الشاعرية، فيهتدي إلى صياغة أشعار بديعة في تلك الأمكنة من غير أن يغادر أحبته ويبتعد عنهم. وهذا ما يشهد به الشعر العربي القديم ذاته. ولعل حازما وعى الإشكال الذي طرحه قوله السابق، فاستدرك قائلا:  «وقد تكون النشأة حسنة على غير هذا النحو، وذلك بأن تستجد الأهوية للناشئ وترتاد له مواقع المزن ومواضع الكلإ والنبات الغض، ولا يخيم به في الموضع إلا ريثما يصوّح كلأه ويغيض ماؤه، فإن الطباع الناشئة أيضا على هذه الحال، وإن لم تكن في الأقاليم المعتدلة، جارية مجرى تلك في سداد الخاطر والتنبه لما يحسن في هيآت الألفاظ المؤلفة والمعاني وما لا يحسن. وعلى هـذه الحـال الثـانية كـان نشء شعـراء العـرب، وبذلك تهـدوا من تشقيق الكلام وتحسين هيآته اللفظية والمعنوية إلى ما تهدوا»([71]) .
وسواء بالنسبة لهذه الحال أم للحال السالفة، فإن ما يروم حازم أن يؤكده بالقول إن النشوء في الفضاءات الطبيعية الخصبة والساحرة، ومعاهدة التنقل والرحلة يؤثران في النفس الشاعرة، وفي قدراتها الإبداعية هو أن الوعي الخيالي بالعالم يقتضي التحرر من المعيقات الحسية والتخلص من صخب العلاقات الاجتماعية؛ لأنها تعكر صفاء النفس وتشوش على خاطر الشاعر وهواجسه وتعوق رؤاه  الخيالية عن الوصول إلى المعاني المضمرة للوجود، وعن الفطنة إلى جهات تماثل الظواهر الإدراكية المتباينة في الحس، وإلى وجوه تناغمها وتشابهها.
والشاعر حين ينعزل عن الآخرين ويلجأ إلى الرباع المخلية، والرياض المعشبة، فإنه يروم بذلك أن يقبض على مستوى إدراكي وشعوري منفلت منه، مستوى تذوب فيه موسيقى روحه بإيقاعات الطبيعة، وتتمازج داخله خواطره الذهنية بجمالها الآسر، وتنفتح فيه مخيلته على تشكلات أخرى للعالم والأشياء.
ويرى حازم أن نشوء الإنسان في بيئة بتلك المواصفات الطبيعية والثقافية لا يصنع منه شاعرا؛ إذ لابد أن تتحصل لديه ثلاث قوى إبداعية وهي: القوة الحافظة، والقوة المائزة، والقوة الصانعة. يقول محددا الخصائص الإدراكية لهذه القوى ووظائفها الإبداعية: «فأما القوة الحافظة فهي أن تكون خيالات الفكر منتظمة، ممتازا بعضها عن بعض، محفوظا كلها في نصابه. فإذا أراد مثلا أن يقول غرضا ما في نسيب أو مديح أو غير ذلك وجد خياله اللائق به قد أَهَّبته له القوة الحافظة بكون صور الأشياء مترتبة فيها على حـد ما وقعت عليه في الوجود؛ فإذا أجال خاطره في تصورها فكأنه اجتلى حقائقها (…)  والقوة المائزة هي التي بها يميز الإنسان ما يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض مما لا يلائم ذلك ، وما يصح مما لا يصح.
 والقوى الصانعة هي القوى التي تتولى العمل في ضم بعض أجزاء الألفاظ والمعاني والتركيبات النظمية والمذاهب الأسلوبية إلى بعض والتدرج من بعضها إلى بعض؛ وبالجملة التي تتولى جميع ما تلتئم به كليات هذه الصناعة»([72]).
ومعنى ذلك أن القوة الحافظة هي خزانة ذهنية لكل المعطيات المادية واللغوية والصور الحسية التي يدركها الإنسان، ويستشف من خصائصها الإدراكية أنها هي الذاكرة، وأن وظيفتها الإدراكية تكمن في أنها تخدم القوى الإبداعية للنفس؛ حيث تحضر للخيال صور المواضيع المادية الغائبة عن الحس ومعانيها المتناسبة التي تتطلبها اللحظة الإبداعية. وتترك له وللقوى الصانعة أمر تشكيلها بالأسلوب الإيحائي الملائم للغرض الشعري.
ويرى حازم أن درجة الشاعرية ومستواها الإبداعي يتحددان بحسب استجابة الحافظة لأوامر الخيال ومتطلباته؛ فالشاعر الذي تورد ذاكرته على قواه الإبداعية الصور الذهنية للعلاقات المادية بين الأشياء الأكثر مناسبة لغرضه الشعري والأدق تعبيرا عن معناه الجمالي يكون منتظم الخيالات مثله في ذلك مثل «الناظم التي تكون عنده أنماط الجواهر مجزأة محفوظة المواضع عنده. فإذا أراد أي حجر شاء على أي مقدار شاء عمد إلى الموضع الذي يعلم أنه فيه فأخذه منه ونظمه»([73]). أما الشاعر الذي تورد ذاكرته على قواه الإبداعية أشياء بعيدة عن الصورة الشعرية والمعنى الجمالي اللذين قصد التعبير عنهما، فإن ذلك يدل على أنه معتكر الخيالات ومضطربها، شأنه في ذلك شأن «ناظم تكون جواهره مختلطة، فإذا أراد حجرا على صفة ما تعب في تفتيشه، وربما لم يقع على البغية، فنظم في الموضع غير ما يليق به»([74]).
وتكمن أهمية هذا التمييز في أنه يفسر سبب إلحاح حازم وغيره من النقاد السابقين على اعتبار الفضاءات الطبيعية الساكنة والساحرة شرطا رئيسا لإثارة قوى الشاعرية؛ إذ أن خروج الشعراء العرب إلى تلك الأمكنة كان يروم تخليص الحركة الذهنية للخيال مما يعكر صفوها، ويشوش عملية بحثها عن المعنى المراد. وقد سبق أن تبينا أن جودة تلك الحركة واتقاد نشاطها الإبداعي يزداد قوة «بالسكون، ويختل مع حضور المحسوسات». كما تكمن أيضا أهمية ذلك التمييز في أنه يتقاطع مع تصور الحاتمي السابق الذي ميز فيه بين التخيل الفاسد والتخيل الحسن على أساس القيمة الجمالية والمستوى البياني لصور كل واحد منهما ومعانيه.
والدلالة العميقة لما يقوله حازم في النص السابق هو أن الذاكرة أو الحافظة عنصر أساس في العملية الإبداعية، لأن بدونها يستحيل أن يوجد أي تخييل شعري «غير أنها ليست هي العامل الأول والأخير في عملية الخلق الشعري، فثمة عوامل متعددة تتداخل في العملية، ويتفاعل كل منها مع الآخر»([75]). ومن أبرز تلك العوامل طريقة اشتغال الحركة الذهنية للقوى المائزة والصانعة.
فالقوة المائزة تتولى تصنيف المعطيات الإدراكية والتعبيرية التي توردها الذاكرة على الخيال، فتقتبس منها تلك الأكثر موافقة للغرض التخييلي والبنية اللغوية والدلالية للخطاب الشعري. ويسمي حازم هذه القوة أيضا بالملاحظة. وذلك لأن تمييزها بين الصور الذهنية والمعاني النفسية الواردة على الخيال الشاعري يقترن بملاحظة وجوه التناسب بينها.
أما القوى الصانعة فتقوم بتشكيل الجزئيات اللفظية والدلالية والإيحائية التي أوردتها الحافظة على الخيال وميزت بينها القوة المائزة. فتصوغ من ذلك عملا شعريا منتظم البنيات التركيبية والأسلوبية، وجميل الصور الفنية.
إن القيمة النظرية لما يشير إليه حازم هنا لا تكمن في تصنيفه لقوى الشاعرية إلى ثلاث قوى رئيسة سيفصلها فيما بعد، ولا في تحديده للخصائص الإدراكية والوظيفية لكل واحدة منها. بل تكمن أساسا في وعيه بالطبيعة الحركية للخيال الشاعري، والتي يحددها في عنصري التجزيء والتركيب؛ حيث إن الخيال يفصل المدركات المادية عن سياقاتها الواقعية وعلاقاتها الطبيعية المحدودة والثابتة، ويعيد نظمها وتأليفها ضمن بنيات علائقية جديدة، فيبتكر بذلك أشياء غير ماثلة في الواقع العيني، أو يفطن إلى جهات تناسب الظواهر المادية المتنافرة في الحس ونواحي تشابهها التي لا يتهدى إليها الإدراك المباشر لها([76]) . ويتضح هذا الوعي بالجوهر الحركي للإدراك الخيالي لدى حازم في قوله: «إذا كانت صور الأشياء قد ارتسمت في الخيال على حسب ما وقعت عليه في الوجود وكانت للنفس قوة على معرفة ما تماثل منها وما تناسب وما تخالف وما تضاد، وبالجملة ما انتسب منها إلى الآخر نسبة ذاتية أو عرضية ثابتة أو منتقلة أمكنها أن تركب من انتساب بعضها إلى بعض تركيبات على حد القضايا الواقعة في الوجود التي تقدم بها الحس والمشاهدة، وبالجملة الإدراك من أي طريق كان أو التي لم تقع لكن النفس تتصور وقوعها لكون انتساب بعض أجزاء المعنى المؤلف على هذا الحد إلى بعض قبولا في العقل ممكنا عنده وجوده، وأن تنشئ على ذلك صورا شتى من ضروب المعاني في ضروب الأغراض»([77]).
وما يقوله حازم في هذا النص هام جدا؛ لأنه يبين أنه استلهم مباحث الفلاسفة المسلمين في النفس وتصوراتهم للخصائص الإدراكية لقواها الذهنية، فسعى إلى تطبيقها على عملية الإبداع الشعـري، وإلى وصلها بمقـولات النقاد العـرب الأوائـل بخصوص الطاقـات النفسيـة للإبـداع الشعـري. وذلك بالصـورة التي يـراها مناسبا لخصوصية الوعي الإدراكي لعملية التخيل الشعري. ولهذا فهو يقول: « وهذه القوى التي هي الحافظة والمميزة والملاحظة والصانعة وما جرى مجراها، في احتياج الشاعر أن تكون موجودة في طبعه (…) هي المعبَّر عنها بالطبع الجيد في هذه الصناعة»([78]).
ويبدو أن عبارة «وما جرى مجراها» الواردة عقب تحديده لقوى الإبداع الشعري تدل على أنه استشعر أن حصره لتلك القوى في ثلاثة فقط يتنافى مع الطبيعة الحركية للملكة الإبداعية، ولا يحيط بجوهرها النفسي ونشاطها الإدراكي. ولا يبرز بالتالي بالوضوح اللازم معنى الطبع وطبيعة قواه الفكرية وخصائصه الإبداعية. ولعل هذا ما يفسر لماذا عاد في سياق لاحق من كتابه إلى بيان معناه، وتحديد قواه الذهنية وملكاته الشاعرية ([79]) .
ويرى حازم أن تلك القوى تنحصر في عشر؛ أولها: القوة على إدراك عناصر التشابه ونقط التناسب بين الظواهر الإدراكية المتباعدة في الحس. وثانيها: القوة على تمثل الأغراض والمواضيع الرئيسة في الخطاب الشعري، والدلالات الفنية المتعلقة بكل واحد منها، والغايات الجمالية التي تستهدفها. وثالثها: القوة على تصور بنية شكلية للقصيدة تتناسب فيها طريقة تراتب معانيها مع تسلسل أغراضها وترابط فصولها. ورابعها: القوة على تخيل المعاني الشعرية البديعة، والإحاطة بطرق اجتلابها والوصول إليها. وخامسها: القوة على الاهتداء إلى جهات التناسب بين تلك المعاني وعلى إيقاع التناغم بين مضامينها. وسادسها: القوة على ابتداع البنيات اللغوية والأساليب التركيبية الأكثر ملاءمة لتلك المعاني والأجمل تعبيرا عنها. وسابعها: القوة على نظم تلك العبارات في بنية أسلوبية متوازنة ومتناغمة في أزمنة النطق بها. وثامنها: القوة على ربط أفكار القصيدة بطريقة متسلسلة ومتناسبة. وتاسعها: القوة على خلق وحدة عضوية بين البنيات الدلالية واللغوية والأسلوبية للقصيدة، بحيث لا يستشعر قارئها أو متلقيها أي خلل في نظمها وتأليف عناصرها. وعاشرها: القوة على التمييز بين الكلمات والعبارات، وعلى تفضيل إحداهما على الأخرى بحسب دقة إيحائها بالمعنى وقوة ملاءمتها للسياق والغرض التخييليين([80]).
إن أول ملاحظة ينبغي تسجيلها هي أن حازما لا يتحدث هنا ـ كما ذهب إلى ذلك جابر عصفور ـ عن درجات الإبداع الفني ومراحل تكونه، ونوع الملكة التي تتحكم في كل درجة ومرحلة على حدة([81]). وإنما يتحدث عن الطاقات الفطرية المركوزة في نفس الشاعر التي تعكس مدى استعداده الذهني وتهيؤه النفسي لقول الشعر وللبراعة فيه. ولئن كان يحصرها في عشر قوى، فإنه يروم بذلك أن يفسر مقولة الطبع التي سادت بين النقاد العرب قبله. وذلك بتحديد الخصائص الغريزية التي يجب توافرها في الإدراك الشاعري للعالم، وفي طرائق التعبير عنه، والتي تسبق ـ زمنيا ومنطقيا ـ التحقق الفعلي لعملية التخيل الشعري.
وبالرغم من تجزيئه لقوى الطبع إلى عشر قوى، إلا أن ذلك لا يعني أنه يفصل بينها، أو يخل بوحدة العملية التخييلية وبتداخل عناصرها وترابطها، بل الأمر عكس ذلك تماما؛ لأن طريقة ترتيبه لتلك القوى وتحديده لوظائفها الإبداعية تشي بتعقد العملية الإبداعية، وتبين أن كل واحدة منها ترتبط بالأخريات وتكمل عملها التشكيلي. ويبدو أنه آثر أن يقسمها إلى عشر حركات ذهنية وقوى نفسية، ليس حبا في التقسيم أو التجزيء، ولكن ليدرك التفاصيل الدقيقة والخفية لعملية تكون القدرة النفسية على الإبداع والتخيل الشعري. والتي لا يمكن الوعي بفعاليتها لو اقتصر على النظر إلى تلك العملية بصورة كلية وشمولية.
وتبرز قيمة تلك القوى وأهميتها الإبداعية في أنها تمثل مقياسا لتحديد درجة شاعرية الشاعر ومرتبته في سلم الإبداعية. فالشعراء الذين تتوافر في طبعهم تلك القوى على الكمال «هم الذين يقوون على تصور كليات المقولات ومقاصدها ومعانيها بالقوة قبل حصولها بالفعل، فيتأتى لهم بذلك تمكن القوافي وحسن صور القصائد وجودة بناء بعضها على بعض»([82]). أما الشعراء الذين اكتسبوا بعضا منها فقط، فيكونون أقل شاعرية من أصحاب المرتبة السابقة، ودونهم في تخيل المعاني الشعرية، وفي إحكام تأليف بنيات القصيدة ونظمها ([83]). فأما أولئك الذين لم تتوفر فيهم تلك القوى فهم الذين يحملون صفة الشاعرية زورا وبهتانا «وهم شر العالم نفوسا وأسقطهم همما»([84]).
ويرى إحسان عباس أن «من يقرأ هذا التقسيم يتذكر ما قاله ابن طباطبا حول نظم القصيدة، غير أن ابن طباطبا كان يتحدث عن الخطوات العملية، بينما حول حازم هذه الخطوات إلى "قوى" قائمة في طبيعة الشاعر.»([85]). وليس معنى ذلك أن حازما اقتصر على تحديد الطاقات النفسية والقوى الذهنية  التي تدل على الاستعداد الغريزي لقول الشعر. فقد تأمل أيضا النشاط التخيلي للشاعر، وحاول رصد حركيته الذهنية والإبداعية، فانتهى إلى أنها "تنحصر" في ثمانية أحوال تخيلية، أربعة منها كلية ومثلها جزئية، يقول بهذا الصدد:  «إن للمخيلين في التخييلات التي يحتاجون إليها في صناعتهم أحوالا ثمانية: لكل واحدة منها في زمان مزاولة النظم مرتبة لا تتعداها. الحال الأولى: يتخيل فيها الشاعر مقاصد غرضه الكلية التي يريد إيرادها في نظمه أو إيراد أكثرها (…) الحال الثانية: أن يتخيل لتلك المقاصد طريقة وأسلوبا أو أساليب متجانسة أو متخالفة ينحو بالمعاني نحوها ويستمر بها على مهايعها (…) الحال الثالثة: أن يتخيل ترتيب المعاني في تلك الأساليب (…)      الحال الرابعة: أن يتخيل تشكل تلك المعاني وقيامها في الخاطر في عبارات تليق بها(…) فهذه أربع أحوال في التخاييل الكلية. والحال الخامسة، وهي أول حال من التخاييل الجزئية: أن يشرع الشاعر في تخيُّل المعاني معنى معنى بحسب غرض الشعر. الحال السادسة: أن يتخيل ما يكون زينة للمعنى وتكميلا له، وذلك يكون بتخيُّل أمور ترجع إلى المعنى من جهة حسن الوضع والاقترانات والنِّسب الواقعة بين بعض أجزاء المعنى وبعض، وبأشياء خارجة عنه مما يقترن به ويكون عونا له على تحصيل المعنى المقصود به. الحال السابعة: أن يتخيل، لما يريد أن يضمنه في كل مقدار من الوزن الذي قصد، عبارة توافق نقل الحركات والسكنات فيها ما يجب في ذلك الوزن في العدد والترتيب بعد أن يخيِّل في تلك العبارات ما يكون محسنا لموقعها من النفوس. الحال الثامنة: أن يتخيل في الموضع الذي تقصر فيه عبارة المعنى عن الاستيلاء على جملة المقدار المقفى، معنى يليق أن يكون ملحقا بذلك المعنى، وتكون عبارة المعنى الملحق طبقا لسد الثلمة التي لم يكن لعبارة الملحق به وفاء بها (…)»([86]).
ويتمثل الفرق بين هذا النص والنص السابق في أن حازما يروم في الأول تحديد طرق تخلق القدرة الغريزية على التخيل الشعري. أما هنا فإنه يروم تحديد الأحوال الذهنية التي تتشكل خلالها عملية التخيل الشعري. وذلك بحسب لحظات تواردها على النفس، ودرجات تراتبها في زمان الإبداع الشعري. وقد يختلف الباحث الحديث مع حازم في تصوره أن عملية النظم تتم في مراحل منفصلة، بدعوى أن حركة الخيال الشاعري لا تنقسم إلى مستويات ولحظات مجزأة ينفصل بعضها عن بعض، بل تتم في لحظة واحدة لا سبيل إلى الفصل بين أفكارها ومكوناتها أو إلى معرفة التمثلات الذهنية والجمالية سبقت الأخرى في عملية التخيل الشعري([87]). لكن لا يجب نسيان أن حازما كان صاحب مشروع نظري كبير وطموح يروم أن يحيط بكلية العملية الشعرية وبخصائصها الجمالية ومستوياتها الإبداعية الجوهرية والرئيسة. وأنه كان يعي ـ كما سبقت الإشارة ـ أن إنجاز هذا الأمر لا يمكن أن يتم بصورة دقيقة ومضبوطة بالاقتصار على النظر في تلك العملية في بعدها الكلي والشمولي. بل لابد أن يوازي ذلك إلمام بالجزئيات والتفاصيل الصغيرة والفاعلة فيها، والتي قد لا تبرز قيمتها الفنية ووظيفتها الإبداعية بالرؤية العامة والكلية.
وإضافة إلى ذلك لا يجب إغفال أمر هام وهو أن الزمن الذي يتحدث عنه حازم هنا ليس هو الزمن الكرونومتري الذي ينظم الحياة العادية للإنسان ويتحكم فيها. بل هو زمن وهمي متخيل([88]). وهو زمن يختلف عن الزمن الآخر بوحدات قياسه الخاصة، وبحركيته المميزة في تصنيف المعطيات وترتيبها. وبأنه متعدد الأبعاد ومتنوع درجات التحقق، وهو لا يختلف من شاعر إلى آخر فحسب، بل من تجربة شعرية إلى أخرى بالنسبة للشاعر الواحد.
والحالات الثمانية التي يعرضها حازم في النص السابق ليست إلا تدقيقا لإحدى لحظات التخيل الشعري الرئيسة؛ حيث إنه سيقسم ـ في نص لاحق ـ النشاط الخيالي للشاعر إلى أربع لحظات تخيلية لكل واحدة منها زمنها الخاص بها. يقول في نص هام: « للشاعر المروي (…) أربعة مواطن للبحث: 1- موطن قبل الشروع في النظم، 2- وموطن في حال الشروع، 3- وموطن عند الفراغ، يبحث فيه عما هو راجع إلى النظم، 4- وموطن بعد ذلك متراخ عن زمان القول يبحث فيه عن معان خارجة عما وقع في النظم لتكمل بها المعاني الواقعة في النظم وتستوفي بها أركان الأغراض ويكمل التئام المقاصد»([89]).
تدل كلمة المروي التي يوصف بها الشاعر في هذا النص على النشاط الفكري والذهني الذي يعتمل في نفسه. وتشير بالتالي إلى لحظة أو لحظات اندماجه في عملية التخيل الشعري، وإلى بدايات تشكيله لتجربته الإبداعية. وتختلف هذه البدايات واللحظات عن بعضها البعض حسب حيزها الزمني ووظيفتها الإدراكية والإبداعية في إنتاج النص الشعري. فالموطن الأول يشمل مختلف اللحظات التي تسبق شروع الشاعر في صياغة تجربته الجمالية الجديدة و"الآنية"، ولئن كان هذا الموطن يسبق منطقيا وزمنيا بداية شروعه الفعلي في عملية التخيل الشعري، ويتعلق بالعوامل النفسية والذهنية التي يستعد بها الشاعر لذلك، فإن مداه الزمني يتضمن الأنشطة الإدراكية والإبداعية التي عاشها الشاعر من قبل، وترسخت في ذاكرته الجمالية أو لا وعيه الخيالي بلغة معاصرة.
أما الموطن الثاني فيخص لحظة البداية الفعلية للإبداع الفني. وتتميز هذه اللحظة أساسا بتخلص الشاعر من سلطة الواقع المادي، وبانفلاته من الوعي العادي والسطحي بالأشياء والظواهر، واندماجه في لحظة نفسية وشعورية مغايرة للمألوف. وتتجلى أهمية هذه اللحظة في أنها تمكنه من الإحساس بالعالم بصورة مختلفة، ومن رؤية أشياء غريبة وقول كلام مغاير للكلام المألوف. ويلاحظ أن حازما لم يقيد هذه اللحظة بحيز زمني مضبوط، لأنها تتوالى في الزمن وتتجدد باستمرار إلى حين اكتمال التجربة التخيلية، ولأن فترتها تتفاوت من شاعر إلى آخر، ومن تجربة إبداعية إلى أخرى بالنسبة للشاعر الواحد.
أما الموطن الثالث فيتعلق بعملية تأمل الإنتاج الشعري عقب الانتهاء منه مباشرة. ويبدو أن هذه اللحظة محدودة زمنيا، وهي تشبه المراجعة الأولية للنص الشعري. وتعقبها لحظة المراجعة الشاملة والعميقة له، وهي التي رتبها حازم في الموطن الرابع والأخير. وتكمن خصوصية هذا الموطن في أنه يمتد في زمن الإبداع. ويتيح للشاعر فرصة إثراء القيمة الجمالية والمحتوى التخييلي لنصه الشعري بإبدال كلمة بأخرى أنسب منها، أو بتغيير تركيب عبارة بآخر أجمل منه.
ويرى حازم أن لكل موطن من هذه المواطن الأربعة قوة ذهنية خاصة بها: « فأما الموطن الأول فالغناء  فيه لقوة التخيل. والموطن الثاني الغناء فيه للقوة الناظمة، ويعينها حفظ اللغة وحسن التصرف. والموطن الثالث الغناء فيه للقوة الملاحظة كل نحو من الأنحاء التي يمكن أن يتغير الكلام إليها، ويعينها حفظ اللغة أيضا وجودة التصرف والبصيرة بطرق اعتبار بعض الألفاظ والمعاني من بعض. والموطن الرابع الغناء فيه للقوة المستقصية الملتفتة، ويعينها حفظ المعاني والتواريخ وضروب المعارف»([90]).
ومعنى ذلك أن المواطن الأربعة السابقة تندرج كلها ضمن النشاط التخيلي الذي يتمخض عنه النص الشعري، وذلك بالرغم من تفاوت الحيز الزمني لكل واحد منها واختلاف وظائفها الإبداعية. ويبرز ذلك من طبيعة القوى التي ترتبط بها تلك المواطن، والتي تشير إلى مختلف الملكات الذهنية والفكرية التي يعتمد عليها الشاعر في عمليته الإبداعية كما اتضح سابقا. بيد أن حازما يرى أن النشاط التخيلي للشاعر لا ينحصر في إطار هذه المواطن الأربعة فقط، بل يشمل لحظة أخرى هامة يتحول فيها الشاعر من سياق إبداع النص إلى سياق تأمله وتلقيه، يقول بهذا الصدد: « وبعد استقصاء وجوه المباحث في هذه المواطن الأربعة وكمال انتظام القصيدة المرواة، قد يعرضها الناظم على نفسه، فيظهر له بعرضها أمور كانت قد خفيت عنه من إلحاقات وإبدالات وتغييرات وحذف. وقد يعرض للشاعر موضع يرى أنه خليق بالتغيير أو الزيادة فيتعذر عليه ما يليق بالموضع من التغيير أو الزيادة فيرجئ النظر فيه إلى وقت آخر. وقد يعاود النظر في ذلك المرار الكثيرة فلا يتيسر له ما يريد إلا بعد معاودات كثيرة (…)»([91]).
وما يشير إليه حازم هنا يعني أن عملية التخيل الشعري لا تنفصل في أساسها الإبداعي عن مستوى التلقي التخييلي للنص الشعري؛ فالشاعر بعد أن "يكمل" تشكيل عمله الجمالي يبتعد عنه، فيخلق مسافة زمنية ونفسية (شعورية) بينه وبين ذلك العمل، ويحاول أن ينظر إليه ويتأمله بوعي خيالي من مستوى مغاير للوعي الخيالي الذي مكنه من إبداعه؛ أي أنه يفصل عن أناه التخيلية "أنا" تخيلية أخرى تقيِّم من زاوية التلقي التخييلي للنص بنيته اللغوية وخصائصه الفنية، فيبحث بذلك عن الوسائل التي تجعل نصه يصل إلى "الغاية القصوى من الإبداع" ([92]). وتكمن قيمة هذه العملية في أنه يستحضر على ضوئها المتلقين ـ المقصودين أو المفترضين ـ لعمله الشعري، فيجعل من نفسه نموذجا لاختبار مدى نجاحه في إثارة نفوسهم وتحريكها.
ومعنى ذلك أن بحث حازم في قوى الخيال الشاعري وفي الخصائص الحركية لأنشطتها الذهنية والإبداعية لا ينفصل لديه ـ بالرغم من لغته التجريدية وتقسيماته المنطقية ـ عن رؤيته الجمالية للجانب التخييلي للشعر. فتحديده للعوامل الطبيعية والنفسية التي تؤثر في تكوين قوى الإبداع الفني، وفي طبيعة نشاطها الإيحائي، وتقسيمه تلك القوى إلى ثلاثة رئيسة، واعتباره أن لكل واحدة منها نشاطها الذهني الخاص بها الذي يختلف على مستوى الوظيفة الإبداعية والرتبة الزمنية في العملية التخيلية عن القوى الأخرى، كل هذا وذاك يندرج عنده في سياق البحث عن الشروط الإدراكية والحالات النفسية التي تمكن الشاعر من صياغة نص تخييلي قمين بنيل إعجاب المتلقين وبالتأثير في نفوسهم وعلى أفكارهم.
ولا نتفق هنا مع من يرى أن فهم حازم لعملية التخيل الشعري كان محدودا، ولم يلامس الجوانب الوجدانية من الحياة النفسية للشاعر التي تؤثر في تلك العملية، وأن المتلقي ظل هو مدار اهتمامه، وأنه لما حاول دراسة فاعلية التخيل عند الشاعر المبدع خرج بتصور يحول العملية التخيلية إلى أجزاء منفصلة، وتمثلات ذهنية متوالية بشكل آلي ([93]). لا نتفق مع ذلك لأن العملية الشعرية في تصوره، وقبل أن تكون نتاجا لقوى ذهنية ومؤثرات بيئية وثقافية، هي تعبير جمالي عن تفاعل الشاعر الخاص مع العالم الخارجي وانفعاله المختلف بالأشياء والأحداث التي تقع أمامه. وما لم يحصل أولا انفعاله الخاص والمختلف بظواهر العالم المادي ووقائعه. فلن يكون لتلك القوى والمؤثـرات أي غنى أو قيمة إبداعية. ويتضح هذا التصور من قوله:  «اعلم أن خير الشعر ما صدر عن فكر ولع بالفن والغرض الذي القول فيه، مرتاح للجهة والمنحى الذي وجه إليه كلامه لإقباله بكليته على ما يقوله وتوفير نشاط الخاطر وحدته بالانصباب معه في شعبه والميل معه حيث مال به هواه (…)»([94]).
فالأساس الأول الذي تتميز به عملية التخيل الشعري وترقى به إلى أعلى درجات الجمالية هو أن يكـون الباعث على قول الشعر نابعا من أعماق النفس الشاعرة ووليـد دافع غريزي ووجداني. وما يقوله حازم هنا مستمد من وصية أبي تمام للبحتري، وخاصة المقطع الذي ينصحه فيه قائلا: « (…) اجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين»([95]). ولئن كان هذا الأمر يروم إبراز القيمة الجمالية للتجربة الشعرية الصادقة والمسكونة بمغامرة البحث عن الأشعار التخييلية البديعة والساحرة، فإنه يندرج أيضا في سياق تأكيد فاعلية هذا النوع من الأشعار، باعتبارها تتضمن طاقة تخيلية غنية، وتمتلك قدرة تأثيرية قوية.
لقد استطاع حازم القرطاجني أن يقدم مساهمة نظرية ومنهجية دقيقة وعميقة في مقاربة قضية الإبداع الشعري، تجاوز بها تصورات النقاد والبلاغيين العرب السابقين، وتحرر فيها من سلطة المفاهيم والتقسيمات المنطقية والفلسفية التي وسمت الأبحاث النفسية لأرسطو والفلاسفة المسلمين.
ذلك أنه لم يكتف بوصف الظواهر النفسية والحالات الوجدانية التي تعتور الشاعر أثناء عملية الإبداع الشعري أو قبله، كما لم يجتر المصطلحات المحدودة وغير الدقيقة التي حاول البلاغيون والفلاسفة أيضا وصف العملية الشعرية بها، بل صاغ تصورا يحيط بمختلف العوامل النفسية والاجتماعية والطبيعية واللغوية التي تحيط بذات الشاعر وتؤثر فيه، فتابع تولد الشاعرية لدى الشاعر منذ أن يكون صبيا إلى أن يتحول إلى راو للشعر ثم شاعرا، ووصف الحالات واللحظات والأزمنة التي تؤثر في القصيدة، وهو في هذا وذاك أنتج جهازا مفهوميا خاصا به يتلاءم مع طبيعة الظاهرة المدروسة، فلا يسقط عليها مصطلحات لا تناسبها، ولا يفرض عليها توصيفا لا تتحمله، بحيث لم يوظف المصطلحات النفسية لدى أرسطو وشراحه، كما لم يقتصر على مصطلحات الرعيل الأول من اللغويين والمتأدبين والنقاد، فكانت مقاربته – بحق – دقيقة وعميقة وفريدة.





خاتمة:
تبين مما سبق أن التفكير في قضية الإبداع الشعري والانشغال بقضاياها النظرية وإشكالاتها الجمالية اتسم عند العرب بتعدد المقاربات واختلافها، إذ بدأ التفكير فيها أولا بطريقة خرافية، لكن سرعانما قطع العرب مع ذلك التفكير واتجهوا للبحث في الذات الشاعرة ومعاينة الحركات الذهنية والأنشطة الإدراكية التي تعبر بها عن رؤاها الجمالية وطرائق تفاعلها مع العالم والأشياء والذوات الأخرى.
وإذا كان العرب قد انتجوا في البداية جهازا مفهوميا وتصورا نظريا منسجما مع طبيعة ثقافتهم البيانية، فسرعانما ارتقوا بتلك التصورات إلى درجة عليا من النظر والتفسير، وذلك حين اطلعوا على آراء أرسطو في كتابه : في النفس الذي يقسم فيه قوى الإدراك الذهني، ويصف طرائق اشتغالها والعوامل المادية والنفسية المؤثرة في حركاتها.
وقد تبينا أن إدراكهم لقيمة تلك التصورات جعلهم يلاحظون أن صاحبها أغفل توظيفها واستثمارها في مجال تفسير العملية الإبداعية، فسعوا إلى القيام بذلك لسد الثغرة التي تعانيها شعريته، وهو ما دفعهم إلى قراءتها وتوظيفها بما يجيب عن أسئلتهم المؤرقة، ويحل مشاكلهم النظرية والمنهجية الخاصة، مما أدى في النهاية إلى صياغة نظرية نقدية في الإبداع الشعري لدى حازم القرطاجني ذات بعد تأصيلي، لأن هذا الأخير لم يتبع حرفيا مصطلحات أرسطو وتقسيماته، بل استوعبها واستوعب التصورات التي تنطوي عليها، فنحث مصطلحات أخرى مغايرة وصاغ تصورات وتفسيرات مغايرة تجيب عن واقع حال الشعرية العربية المتسمة بالغنائية، وتقدم من ثمة نموذجا لطبيعة التفاعل وحدوده بين الشعريتين العربية واليونانية ولاسيما الأرسطية منها، ومثالا لما ينبغي أن يكون عليه الحوار بين الذات والآخر من أجل إغناء التصورات والارتقاء بالفكر والنظر في قضايا شائكة مثل قضية الإبداع الشعري العصية على الفهم والإدراك...








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق