الأحد، 1 ديسمبر 2013

تصدير البحوث الجامعية: التقنيات والمنهجيات


منهجية البحث- الفصل الأول

تصدير البحوث الجامعية: التقنيات والمنهجيات

(مطبوع دراسي)

أ‌-       عناوين البحوث
ب‌-  مقدمات البحوث


ذ. مولاي يوسف الإدريسي
     « الواجب على من شرع في شرح كتاب ما أن يتعرض في صدره لأشياء قبل الشروع في المقصود يسميها قدماء الحكماء الرؤوس الثمانية : أحدها الغرض(...) وثانيها المنفعة (...) وثالثها السمة (...) ورابعها المؤلف(...) وخامسها أنه من أي علم هو (...) وسادسها أنه أية مرتبة هو (...) وسابعها القسمة (...) وثامنها الأنحاء التعليمية (...) »
التهانوي، كشاف اصطلاحات ا لفنون.


                         
     مقدمة :
     كما هو شأن الكتب النقدية والإبداعية، تحتل صدور البحوث الأكاديمية – بنسب متفاوتة - مواقع نصية استراتيجية، تشتغل بوصفها دليلا ينماز به كل بحث عن غيره ، ومنه يعلن الباحث نواياه ومقاصده، وعبره يشي بمحتوى موضوعه  دون أن يفصح عنه بكيفية كلية، ومن ثمة ، تنهض علاقة "صدور" البحوث بمتونها بوصفها علاقة تضمن متبادل إذا ما استعرنا لغة شارل غريفل[1] .
      والمقصود بالتصدير هنا المكونات اللغوية التي تقدم بها "الأعمال العلمية" المكتوبة أو الشفوية ويستفتح بها، فصدر الشيء هو أوله وبدايته، جاء في لسان العرب: «الصدر: أعلى مقدم كل شيء وأوله (...) وصدر الأمر: أوله. وصدر كل شيء: أوله. وكل ماواجهك: صدر (...) وصدر كتابه: جعل له صدرا (...) »[2] .
      ونوظف هنا مصطلح "تصدير" بدلا عن العتبات أو الهوامش أو العنوان بإطلاق المعنى تمييزا له عن المصطلحات التي قامت عليها أدبيات "عتبات النص" في اللغات الواصفة، والتي يعد من أبرز مشمولاتها: اسم المؤلف، والأيقونة، دار النشر، والعنوان، والمقدمة وغير ذلك من المكونات...لأن مجال حديثنا سينحصر في إطار محدود يتعلق بالبحوث الجامعية، والتي يتطلب استهلالها توافر جملة من العناصر التقنية والشروط المنهجية حتى يتحقق التواصل العلمي المنشود بين صاحبها والمتلقين المستهدفين بها .
     وإذا كانت عبارة البحوث الجامعية تشير إلى مجموع الأعمال العلمية التي تنجز في إطار الدرس الجامعي، وتختلف فيما بينها من ناحية حجمها، والحيز الزمني لإنجازها والآليات المنهجية والطرائق التقنية المتحكمة فيها، فتتفاوت بين العرض أو التقرير أو التلخيص أو البحث أو غير ذلك، فسيتم الاقتصار هنا على البحوث المتمركزة حول إشكالية أو قضية محددة، والتي تنجز لنيل درجة علمية (مشروع نهاية الدراسة، بحث الماستر).
       يستهل هذا النوع من الأبحاث بجملة عناصر تتصدر متنها، وتتكاثف وتتماسك معها لتنتج خطابا يمتد من العالم إلى النص ومن النص إلى العالم، ويشكل في امتداده نقطة الوصل وجسر اللقاء بينهما، وهي في ذلك – أي العناصر – تقول البحث ولا تقوله، تلوح بمعناه دون أن تكشفه وتعريه، إلا أنها مع ذلك تظل مرتبطة به ارتباطا وثيقا على الرغم من التباعد الظاهري الذي قد يبدو أحيانا بينهما...ومن أبرزها " العنوان" و" المقدمة" فضلا عن الإهداء وكلمات الشكر والمقتبسات وغيرها مما لا يدخل مجال اهتمامنا ...
           1- عناوين البحوث:   
         يعتبر العنوان من أول العناصر التي تتصدر البحوث، وتتأتى أهميته من جهات عديدة؛ فهو يمثل جزءا من العناصر المكونة للبحث، ويعتبر مكونا داخليا يجسد سلطة المتن/النص وواجهته الإعلامية، وهو الفيصل بين الصمت والكلام، والجزء الدال من النص الذي يؤشر على معنى ما[3]، ومن ثم يجسد وسيلة للكشف عن طبيعة البحث وإسهاما في فك غموضه[4] .
      وبهذا المعنى يشتغل بغاية تسمية معنى البحث، وإعلان قصد الطالب وغرضه من تناول موضوعه، وهـذا ما تشير إليه الدلالة اللغوية؛ إذ العنوان لغة « الأثر الذي يعرف به الشيء»[5]، وهو مشتق من قول العرب «ماعنوان بعيرك؟ أي ما أثره الذي يعرف به »[6]، ويقال عنوان الكتاب وعلوانه وعنيانه؛ و«العلوان باللام مشتق من العلانية، والعنوان بالنون مشتق من عن الشيء يعن إذا عرض»[7]، جاء في قاموس الزبيدي(ت1205هـ): «(...) سمي به لأنه يعن له، أي الكتاب، من ناحيتيه، أي يعرض (...) ويقال للرجل الذي يعرض ولا يصرح: قد جعل كذا وكذا عنوانا لحاجته (...)»[8] .
       معنى ذلك أن غاية تسمية معنى البحث هي المحدد الأساس لاختيار العنوان، لكون بنيته اللغوية تشتغل دائما في اتجاه اختزال مقوله، وكشف طبيعة موضوعه وتعيين حقله المعرفي. ومن ثمة تبقى محكومة بشرطي الاختصار والاقتضاب؛ إذ لا يصح لبنية العنوان أن تفرط في الطول، لأنه لا يعدو أن يكون «علامة دالة على النص»[9] الذي هو هنا " البحث"، وكلما كانت العلامة أكثر إيجازا واختصارا للمعنى كان أفيد وأجمل. وهذا ما وعى به التهانوي(ت 1158هـ) ونبه عليه حين أشار إلى أن العنوان يتصدر المتن «ليكون عند الناظر إجمال ما يفصله الغرض» [10].
       وكما هو الشأن بالنسبة إلى الأعمال الأدبية وكثير من الدراسات النقدية تتحدد وظائف عناوين البحوث الأكاديمية في أربع وظائف :
ü    إشارية Désignation
ü    وصفية  Descriptive
ü    إيحائية connotative
ü    إغرائية   Seductive
     إلا أن الإيحاء والإغراء في عناوين البحوث الأكاديمية ليسا بالدرجة نفسها في الكتب التي تنشر وتخضع لضرورات السوق والتسويق، لأن عليها أن تظل محافظة على شروط: الوضوح، والدقة، والتحديد التي تفرضها الروح العلمية؛ إذ من خصائص العنوان في هذا النوع من النصوص أن يكشف بجلاء عن طبيعة موضوعه ومجاله المعرفي، ويحدد بدقة القضايا والإشكالات، أو المصطلحات والمفاهيم، أو النصوص والنماذج، أو الشخصيات والأعلام، أو الحقب والأزمنة الثقافية التي يشتغل عليها البحث. فلغة العلم ليست فضفاضة ولامجازية ....بل إن قوامها الصرامة والضبط والمباشرة، ولعل لهذا السبب نلاحظ أن كثيرا من الباحثين الأكاديميين يتخلون عن عناوين رسائلهم الجامعية حين يصدرونها .
   وفي كل هذا وذاك ما ينبغي لعناوين البحوث الجامعية أن تتخلى عن طبيعتها الاستشكالية (استشكال المواضيع والقضايا)، فالأساس الذي يحكم البحث ويوجهه هو مساءلة قضية من القضايا وفحصها ودراستها، ولذلك يجب تفادي العناوين التي تشي بانحياز واضح لتصور معين، أو التي تفرض تفسيرا أحاديا لظاهرة من الظواهر، لأن من شأن ذلك أن يشي بتبني صاحب البحث لفكرة جاهزة، وهذا ما يتنافى مع الفعل التواصلي الذي يسعى إلى تحقيقه، والذي يقوم أساسا بين ذهنيتين مختلفتين في زاوية النظر وأساس التقييم، فحتما سيضيق بحث دائرة التواصل على نفسه إذا ماكان عنوانه يكشف عن تبنيه لجواب مسبق على القضية المراد دراستها، ولن يتمكن من خلق أرضية واسعة للتفكير فيها بينه وبين الآخر المستهدف.
    وإذا كان العنوان يمثل – بحكم موقعه الاستهلالي – نقطة بداية عملية توصيف النص، وإعادة إنتاجه بعبارات خاصة وبنية لغوية مغايرة، ويروم –بمختلف التقنيات التي تحكم صياغته– إثارة اهتمام المتلقي، واستدراجه للدخول في عملية تواصلية مع صاحبه عبر قراءته والتفكير في قضاياه وتصوراته، فإنه ينشد -بما يثير في أفق انتظاره من تساؤلات– دفعه على قراءة النص-البحث، لإزالة الغموض الذي ولده والإجابة عن الأسئلة التي أثارها، وهذا ما تتكفل المقدمة بإنجاز بعض منه.
                2- مقدمات البحوث:
      المقدمة نص استهلالي ينتج خطابا واصفا للنص الذي يليه، وبحكم موقعها – في الغالب وليس بالضرورة- عقب العنوان مباشرة فإنها تروم بيان طبيعة موضوع البحث، فتحدد مجاله المعرفي، وتكشف الدواعي الذاتية والموضوعية لاختياره، وتشير أحيانا إلى المنطلقات النظرية الموجهة لتصوراته وأحكامه، وإلى الضوابط المنهجية المتحكمة في طرق عرضها وتحليلها والدفاع عنها. كما تتضمن خطاطة مختصرة لأبرز مواد البحث، وأهم أبوابه وفصوله، وهي بهذا وذاك تهدف إلى وضع القارئ المفترض أو المستهدف في المدار المعرفي للبحث، وإلى تهييئه نفسيا وذهنيا للدخول في العملية التواصلية التـي يستهدفها، والتي تنشد تحقيق جودة الفهم وحسن التلقي.
    وانطلاقا من بنيات الخطاب المقدماتي وخصائصه سواء في الأعمال الأدبية أم الدراسات النقدية ومن ضمنها البحوث الجامعية موضوع هذا المطبوع الدراسي، يمكن حصر وظائف المقدمة في :
       1-ضمان قراءة جيدة للنص: إذ إن كل مقدمة تحاول تحقيق شكل من الإنتاج الأدبي والفكري الذي تتحدث عنه، و تسعى إلى "اقتراح" شكل معين لقراءة نصها، حيث تهدف إلى « يقرأ…ويقرأ جيدا»[11]، لأن النص الذي لا يقرأ جيدا يعني أن خللا حدث خلال العملية التواصلية بين الباث والمتلقي إما بسبب سوء الإرسال، أو خطإ في الوظيفة الإفهامية، ولذلك فخطاب المقدمة يسعى إلى تعيين كيف يقرأ البحث؟ وتفسيـر لماذا يقرأ؟     
       2- تنبيه القارئ: وذلك عبر إخباره بطبيعة البحث وظروف إنجازه ومراحل تكونه وتحريره ، ومقابل هذه الطريقة التي تعد مباشرة ، توجد أخرى غير مباشرة تتمثل في شكر صاحب البحث لكل الذين ساعدوه على إنجاز عمله بشتى الطرق والوسائل.
     3- اختيار القارئ: عبر الكشف عن الفئة أو الجمهور الذين يستهدفهما البحث، وتتحقق هذه الوظيفة بالنسبة للمشاريع الدراسة أساسا في تلك التي تشتغل على الثقافة الجهوية أو المحلية... 
     4-تحليل العنوان وتعليله: حيث يبرز الطالب لماذا اختار عنوانه دون غيره من العناوين الأخرى الممكنة.
     5- تنظيم القراءة وترتيبها : وذلك بتفسير الفهرس وتفصيله، وترتيب المواد التي يتناولها البحث ...
     6- أحيانا يتم الإخبار عن السياق العام الذي يندرج في إطاره الاشتغال على الموضوع، وبكونه لا يعدو أن يكون جزءا من مشروع علمي للطالب سيتم استكماله خلال الدرجات العلمية اللاحقة ( تصور الإصلاح البيداغوجي لمشروع نهاية الدراسة و د.د.ع.م )
     7- البوح بالقصد : حيث يؤول الطالب نصه ويعلن عن نيته وقصده .
     وانطلاقا من هذه الوظائف يمكن القول إن بنية الخطاب المقدماتي في البحوث والرسائل الجامعية تتحدد في العناصر الآتية :
ü    بيان طبيعة الموضوع وأهميته .
ü    ذكر مبررات اختياره الذاتية والموضوعية .
ü    تفصيل ما أجمله العنوان وإيضاحه وشرحه.
ü    عرض الأسئلة التي يثيرها والإشكالات التي يطرحها.
ü    عرض أبرز الدراسات السابقة التي تناولت الموضوع وبيان ما أنجزته وما هفت إليه .
ü    الكشف عن المنهج الذي سيتوسل به الطالب ويعتمده في تناوله لموضوعه .
ü    تقسيم أجزائه إلى أبواب وفصول ومباحث .
ü    ذكر أبرز الصعوبات المنهجية والموضوعية التي واجهته خلال مراحل اشتغاله عليه .
    وغالبا ماتختم المقدمة بعد هذه النقطة بتوجيه الشكر للذين ساعدوا الطالب على تذليل الصعوبات التي اعترضته فيذكر أصدقاءه وزملاءه وأستاذه المشرف. وإن كنت أميل وأفضل أن يخرج الطالب أستاذه المشرف من هذه الدائرة ، لأن أحسن شكر يمكن أن يقدمه إليه أن يهتدي بتوجيهاته وآرائه، وينجز بحثا رصينا وجادا... وجديدا . 
             


































                                                          




[1] Charles Grivel: production de l'intérêt Romanesque,Mouton,Paris,1973, p 160-181.
[2] ابن منظور: لسان العرب ، مادة (صدر).
[3] Charles Grivel,op.cit,p166.
[4] Ibid,p169.
[5] أبو بكر الصولي : أدب الكتاب ، تع : محمد بهجة الأثري ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، د.ت، ص143.
[6] نفسه،ص146.
[7] نفسه، ص147.
[8]  مرتضى الزبيدي : تاج العروس من جواهر القاموس ، تح: علي شيري ، دار الفكر ، بيروت ، 1994، 18/389-390.
[9]J.RICARDAU : Problème du nouveau roman, éd: Seuil,Paris, 1er  édition ,1975, p145.
[10] محمد علي التهانوي : كشاف اصطلاحات الفنون ،دار صادر ، بيروت ، د.ت، 1/10-11.
[11] G.Genette,Seuils,p183.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق