الاثنين، 27 أكتوبر 2008

قضية الصدق والكذب




جامعة القاضي عياض                                  شعبة العلوم الإنسانية والآداب والفنون
الكلية متعددة التخصصات                                        مسلك الدرسات العربية
           آسفي                                          من قضايا النقد القديم- الفصل السادس




قضية الصدق والكذب في النقد العربي القديم
(مطبوع دراسي)




ذ. مولاي يوسف الإدريسي


     
  تمهيد :
   
           أولا- قضية الصدق والكذب في الشعر عبد  القاهر الجرجاني:

(...) في سياق مقاربة قضية المعاني قابل  عبد  القاهر الجرجاني ووازن بين المعاني العقلية و التخييلية ، فوسم الأخيرة  بالخداع  والسحر  والإيهام ، مما يطرح  سؤالا هاما  يتصل  بالقيمة "الأخلاقية" للصور  الشعرية  وطبيعتها  المرجعية.  بمعنى  هل ترتهن  صياغة موضوع  تخييلي  بالضرورة  إلى الانزياح  عن  الواقع المادي  وخرق  نظمه  وعلاقاته؟ أم أنه  يمكن  أن يتشكل  بالنقل  الأمين  والحرفي لظواهره ومعطياته؟ وبالتالي هل  المعاني  والأحكام  التي ينطوي  عليها التخييل  تكون  دائما  كاذبة؟ أم أنها تكون  صادقة؟ أو  تتراوح  بين الكذب  والصدق؟

لقد صاحب  هذا  الإشكال  التفكير  النظري في الظاهرة الشعرية خاصة، وفي  العملية  الإبداعية  ككل،  واتخذ  البحث فيه مستويات  كثيرة  وتمخضت  عنه  مقاربات  مختلفة  ومتفاوتة. وقد انبثق  في الشعرية العربية  القديمة منذ  البدايات  الأولى  لبزوغ  الوعي  النقدي عند العرب[1]. فكان  يعالج  في إطار  قضية  الصدق  والكذب  في الشعر.
     وتتميز مقاربة عبد القاهر  لهذه القضية  بأنه  ربطها  بموضوع  التخييل  الشعري  ونظر  إليها  من خلال  طبيعته  الدلالية  وفاعليته  الجمالية. ولا نعلم  أحدا من البلاغيين  والنقاد  سبقه إلى ذلك، هذا  إذا  استثنينا جهود  الفلاسفة  المسلمين التي أخذت  منحى  مغايرا  للمنحى الذي  ميز  مقاربته  للقضية.
وأول ما يستهل  به معالجته  لهذه  القضية  قول البحتري:             [من المنسرح]
كلفـتـمـونـا حــدود منطقكم
***
في الشعر  يكفي عن صدقه  كذبه[2]
وقد علق  عليه  بقوله: «أراد كلفتمونا  أن  نجري  مقاييس  الشعر  على حدود  المنطق، ونأخذ  نفوسنا  فيه  بالقول  المحقق، حتى  لا ندعي إلا ما يقوم عليه  من العقل  برهان  يقطع به،  ويلجئ إلى موجبه. ولا  شك أنه  إلى هذا  النحو  قصد ، وإياه  عمد، إذ  يبعد  أن يريد  بالكذب  إعطاء  الممدوح حظا  من الفضل  والسودد  ليس له،  ويبلغه بالصفة  حظا من  التعظيم  ليس هو  أهله،  وأن يجاوز  به  من  الإكثار  محله، لأن  هذا  الكذب  لا يبين  بالحجج  المنطقية، والقوانين العقلية، وإنما  يكذب  فيه القائل  بالرجوع  إلى حال  المذكور  واختباره  فيما وصف به، والكشف  عن قدره  وخسته،  ورفعته أو ضعته، ومعرفة  محله  ومرتبته»[3].
يستعيد عبد القاهر هنا  تصوره السابق  الذي أكد  فيه  تعارض  التخييلي  والعقلي  من جهة الماهية  الدلالية  والوظيفة  التداولية، ولذا  فهو يضع  "مقاييس الشعر" في مقابل "حدود المنطق" و"القول  المحقق" و"براهين  العقل". ويستمد  هذا  التقابل  مبرراته من طبيعة  الوصف الشعري  التي تقتضي  الخروج  عن المألوف  والمشهور  وبناء  الصور  على التخييل  لا على  المعقول ، لأن  الشعر  يقوم –كما هو الشأن  بالنسبة  للخطابة  مع اختلاف  جوهري في الأسلوب  والغاية- على مقاييس  مخادعة  ومموهة تدعي تماثل  موضوعين  وتشاركهما  في صفة أو حكم "وإن  لم يكن  كذلك  في المعقول  ومقتضيات العقول"[4].
وإذا كان  البحتري –فيما يرى عبد القاهر- قد قصد  هذا المعنى  وإياه أراد، فإنه  لم يقصد  الإيغال  في الوصف  والمجاوزة في التصوير  إلى حد الادعاء  الباطل  والكذب  المكشوف  الذي «ينحل الوضيع صفة  من الرفعة  هو منها عار، أو يصف  الشريف  بنقص وعار»[5]، بل الضرب  من التخييل  الذي  يرفع  من هو أهل  للتعظيم  ويحط  من قدر من  هو أهل  للتحقير، والذي  يصوغ  حكمه  الجمالي  بمقاييس التعليل  التخييلي.
ويلاحظ  أن القراءة  التي  يقدمها  عبد القاهر  لبيت  البحتري  تتنافى  مع  سياقه  النصي وتتعارض  مع المذهب  الفني  لهذا  الشاعر؛ فالبحتري  مثل في  الشعرية  العربية القديمة  رمزا  لاتجاه  "الطبع" في مقابل  اتجاه  "الصنعة" الذي مثله  أبو تمام[6]، كما أن  تتمة  البيت تعبر  عن تصور  مغاير  لما استخلصه  عبد القاهر[7]، حيث  يقول  بعده:
ولم يكن  "ذو  القروح" يلهج بالــ
***
المنطق  ما نوعه؟ ومـا سببه؟
والشعـر  لمـح  تكفي   إشـارته
***
وليس  بالهذر طولت  خطبه[8]
فالبحتري يقرن «طريقته  في الشعر  بمذهب  "العرب" الذي  يشير إلى نقيضه الغائب، ويصل  طريقته الشعرية  بطريقة  القدماء  في مقابل  طريقة المحدثين  من  خصومه  الذين  يصلهم  بمنطق  المناطقة»[9]، مما يعني  أن هذه  الأبيات «موجهة  -في المحل  الأول– إلى المحدثين  الذين  يميلون  إلى التدقيق وفلسفي الكلام»[10].
ويمكن التساؤل هنا: إلى أي  حد كانت  القراءة التي قدمها  عبد القاهر، والتي  اعتمدها في صياغة  موقفه  الأولي من  قضية  الصدق  والكذب في الشعر  علمية  وموضوعية؟ وهل يدل  قلبه  للسياق  النظري  الذي  يندرج  ضمنه  بيت البحتري على "قصور" معرفته  بالتراث الشعري؟ أم  أنه  ينم  عن شيء  آخر؟
لا شك أن من الصعب  جدا  وصم  بلاغي  لامع الذكاء  وواسع  المعرفة  مثل  عبد القاهر  الجرجاني بـ "الجهل" بالنصوص  المركزية  في الثقافة  العربية،  فكتاباته تدل  على أنه «كان  محيطا  بنماذج  الشعر  العربي  وفرائده، وكان  له حس  مرهف وبصيرة  فريدة»[11]. ولكن المسألة  تجد  تفسيرها  في الاستراتيجية  الخاصة  التي كان  يتبناها  ويصوغ  –وفقا لها-  خطابه، والتي  كان  يدافع  من خلالها عن تصوراته  وأفكاره.  وتقوم  هذه الاستراتيجية  هنا  بانتقاء  الحجج والشواهد التي من شأنها  أن تدعم  تصوره  وتؤكده،حتى ولو كان ذلك  على حساب  عزل  الشاهد  الشعري  عن سياقه  النصي والنظري  وتضمينه محتوى دلاليا  مغايرا .
ولا ينبغي هنا نسيان  أنه  كان يواجه أفكارا متزمتة  ترفض  الشعر بدعوى  أنه كذب  وخداع  وتضليل، وتدعو  في  المقابل  إلى توخي  الصدق  ولزوم  الصراحة  والصحة  في القول  الشعري،  وأنها كانت  تناهض  كل شعر  يقلب حقائق  الأشياء ويغير معانيها وعلاقاتها. وهذا  أمر  يتنافى –كما أكد ذلك- مع جوهر  الشعر  وغاياته التداولية، ولذا  فأحسن  وسيلة  لمواجهة  هذا التيار  ولدحض تصوره  هي  الرد عليه بلسان  شاعر «أعرابي  الشعر، مطبوع، وعلى مذهب  الأوائل، وما  فارق عمود  الشعر  المعروف،  وكان  يتجنب  التعقيد ومستكره  الألفاظ ووحشي  الكلام»[12].
وستتضح هذه الاستراتيجية  الخاصة  للخطاب بصورة  أكبر من خلال  طريقة عرضه  لطروحات أنصار  الكذب  في الشعر وأنصار  الصدق  فيه ودفوعات  كل واحد  منهم على أفضلية  مذهبه؛ حيث عمد  في البداية  إلى عرض تصورات  كل فريق  على حدة، ثم  واجه  بعضها  ببعض، وانتهى  في الأخير  إلى استخلاص  موقفه الثابت من القضية.
وفي هذا الإطار  ساق –بعد إيراده البيت  السابق للبحتري- دليل  أنصار  الصدق  في الشعر، وهو قول  الشاعر:                                             [من البسيط]                                                                  
وإن  أحسـن بيت أنت  قائله
***
بيت  يقال  إذا  أنشدته صدقا[13]
ففسره بقوله: « فقد يجوز  أن يراد  به  أن خير  الشعر ما دل  على حكمة يقبلها  العقل،  وأدب  يجب  به  الفضل،  وموعظة تروض  جماح الهوى وتبعث  على التقوى  وتبين موضع  القبح  والحسن  في الأفعال ، وتفصل  بين  المحمود والمذموم من  الخصال، وقد  ينحى  بها نحو  الصدق في  مدح  الرجال (…) والأول أولى، لأنهما  قولان  يتعارضان في اختيار  نوعي  الشعر»[14].
إن أول  ما نلاحظه  على هذا  التعليق  هو أن  عبد القاهر يستهله بعبارة  تدل  على الظن  والاعتقاد  غير الجازمين (فقد يجوز)، وهذه  العبارة تختلف كليا –من ناحية  الموقف  الذي تنطوي  عليه- عن تلك  التي استهل  بها  تفسيره  لبيت البحتري (أراد)، مما  يعني  أنه  يتحفظ  على التصور  الذي يعبر  عنه البيت  الأخير والذي يقرن  جمالية  القول الشعري  بالتزامه الحقيقة  وحثه  على الأخلاق  النبيلة  والأفعال  الطيبة لأن من شأن  ذلك أن يحول  الشعر إلى خطاب وعظي  وأن  يفرغ  معانيه  من  مضمونها  التخييلي. ولعل  هذا ما  حذى  به إلى أن  يستبعد هذا  التصور، وأن  يفضل –في إشارة عابرة- الكذب  على الصدق.
إن السياق  الذي يندرج  ضمنه قوله "والأول أولى" ليس هو  الحكم  بين المذهبين  بتفضيل  أحدهما  على الآخر ، بل  إنه يروم  تأكيد  الخاصية  الطبيعية للقول  الشعري  التي تقوم  على التخييل. ومن ثمة  فقوله  السابق  يعني  أنه  إذا كان  الصدق  في الشعر  يستلزم  التعبير عن الحكم  العقلية  والمواعظ  الأخلاقية، فمن  الأولى أن نختار  ما قام على "الكذب" وأن  نلزم  أنفسنا  بالابتعاد  عن اللغة  التقريرية  المباشرة.
وما يشير  إليه  عبد القاهر  هنا ليس  إلا مستوى  أوليا  من العرض يقدم  المقولات  الكبرى  دون  أن يفصلها  أو ينتهي إلى حكم  نهائي  بصددها، ولذلك سيستعيد  - في مستوى ثان- قضية  التضارب  في تفضيل الصدق أو الكذب  في  الشعر ليعرضها  ويفحصها  من جهة  الحجج  والمبررات  التي يقدمها  كل فريق  لتأكيد  قوة  مذهبه  وللانتصار  له. يقول  بهذا الخصوص: «فمن قال: "خيره أصدقه" كان ترك  الإغراق  والمبالغة  والتجوز  إلى التحقيق  والتصحيح، واعتماد ما يجري  من العقل على أصل  صحيح، أحب  إليه  وآثر  عنده، إذ  كان ثمره أحلى، وأثره أبقى ، وفائدته أظهر، وحاصله أكثر.  ومن قال: "أكذبه" ذهب  إلى أن  الصنعة إنما  تمد  باعها،  وتنشر  شعاعها، ويتسع  ميدانها، وتتفرع  أفنانها، حيث  يعتمد  الاتساع  والتخييل،  ويدعى الحقيقة فيما  أصله التقريب  والتمثيل ، وحيث  يقصد  التلطف  والتأويل، ويذهب  بالقول  مذهب  المبالغة  والاغراق في المدح  والذم  والوصف  والنعت  والفخر  والمباهاة وسائر  المقاصد والأغراض»[15].
فهذان  القولان  يفاضلان  بين شعريتين  مختلفتين: شعرية  الطبع  أو الوضوح والتشاكل  بين  الشعري  والواقعي، وشعرية  الصنعة  أو الغموض  والغوص  على المعنى  الخيالي العميق والبعيد. وتشير  إلى الشعرية  الأولى دوال:  التحقيق والتصحيح والعقل  والفائدة، بينما  تشير  إلى الشعرية  الثانية  دوال: الامتداد والانتشار  والاتساع والتفرع والادعاء  والمبالغة والإغراق. ويبدو واضحا  أن تمييز  عبد القاهر  بين هذين  المذهبين  يماثل  تمييزه السابق  بين المعاني  العقلية  والمعاني  التخييلية، مما  يعني  أن التخييلي عنده  يرادف  "الكذب"، مثلما  يرادف  العقلي  "الصدق".
ويبدو من خلال  الموازنة  والمقارنة  بين الدوال  التي يصف  بها  عبد  القاهر  كل شعرية  على حدة  أنه يميل  إلى القول الذي  يفضل  الكذب  على الصدق  في الشعر، وينساق  وراء حجج أنصاره. والسبب  في ذلك  هو أن في  التخييل: «يجد الشاعر  سبيلا  إلى أن  يبدع  ويزيد، ويبدي في  اختراع  الصور  ويعيد، ويصادف  مضطربا كيف  شاء  واسعا، ومددا من  المعاني  متتابعا، ويكون كالمغترف  من  عد  لا ينقطع، والمستخرج  من معدن  لا ينتهي»[16].
فالتخييل يمنح  الشاعر  إمكانات  غير متناهية  للإبداع والخلق  والتجديد، ويمكّن  رؤاه  من الوصول  إلى عوالم جمالية  يدق  المسلك  إليها  ويصعب الوعي بها، والسبب  في ذلك  أنه يمتلك  قدرة خاصة  على تخطي  العالم المادي وتفكيك  ظواهره  وأشيائه، ثم إعادة  تركيبها  على نحو  مغاير  لأصلها  وجوهرها الطبيعي. بخلاف  مذهب  الصدق  الذي يكون  الشاعر  فيه  مضطرا  إلى مراعاة  الجوهر  الحقيقي للأشياء  والظواهر، والتزام  الوصف  الصحيح والحرفي لها: « فهو  فيه  كالمقصور  المدانى  قيده، والذي  لا تتسع  كيف  شاء  يده وأيده، ثم هو  في الأكثر  يسرد  على السامعين  معاني  معروفة وصورا  مشهورة، ويتصرف  في أصول  هي  وإن  كانت  شريفة، فإنها  كالجواهر تحفظ أعدادها،  ولا يرجى  ازديادها، وكالأعيان  الجامدة التي  لاتنمي  ولا تزيد، ولا  تربح ولا تفيد، وكالحسناء  العقيم،  والشجرة  الرائقة لا تمتع بجنى  كريم»[17].
لكن  هل كل «المعاني المعرقة  في الصدق، المستخرجة  من  معدن  الحق،  في حكم  الجامد  الذي  لا ينمي، والمحصور  الذي  لا يزيد؟»[18].
إن قيمة هذا السؤال  تكمن  في  أنه  يضع  دعوى  عقم  المعاني  الصادقة  وضيق  مجاريها  الإبداعية  موضع  الفحص  والنظر،  لأن  الأمر  لا يتعلق   في كلام  مناصري اللتخييل  و"الكذب" في  الشعر  بإبراز  خصائصه  الإبداعية  وعد  صفاته  الامتدادية فقط، وإنما يتعلق  أيضا  بادعاء  اقتصار  الشعرية  على الإغراق  في الادعاءات التخييلية، وباتهام  المعاني  الشعرية  الصادقة  بالجمود  والابتذال، ولذلك  سارع  عبد القاهر  إلى دحض هذا  الزعم وكشف  بطلانه؛  فأكد  أن  للمعاني  الصادقة  والأوصـاف  الصحيحة قيمتها  الجمالية  وقـوتها  الإيحائية، ومثال  ذلك  قول  أبي فراس  الحمداني (ت 357هـ):                                                                      [من الوافر]
وكنـا  كالسهام  إذا أصابت
***
مراميها  فراميها  أصابا[19]
فهذا البيت  ينطوي  على طاقة شعرية  بديعة،  ويستمد  جماليته من كون  المشابهة التي يشكلها  تقوم  على مقارنة  واقعة حقيقية  بصورة  ذهنية  محسوسة  وعلى تمثيل  أحدهما بالآخر وهو الأمر الذي  يعني: « أن لك  مع لزوم  الصدق، والثبوت  على محض الحق، الميدان  الفسيح  والمجال  الواسع،  وأن ليس  الأمر على ما ظنه ناصر  الإغراق  والتخييل  الخارج إلى أن يكون  الخبر على  خلاف المخبر، من أنه  إنما  يتسع  المقال  ويفتن،  وتكثر  موارد الصنعة  ويغزر ينبوعها ، وتكثر  أغصانها  وتتشعب  فروعها، إذا  بسط  من عنان  الدعوى، فادعي  ما لا يصح  دعواه، وأثبت  ما ينفيه  العقل  ويأباه»[20].
ولا يعني دفاع  عبد القاهر  في هذا النص  عن شعرية  المعاني  الصادقة  أنه  يحط  من قيمة التخييل  ويسلبه  دوره  الوظيفي في العملية  الإبداعية،  أو أنه  يتراجع  عن موقفه السابق. كما  لا يعني  أن  موقفه النقدي يضطرب  ويتأرجح  بين سحب  صفة الشعرية  من المعاني  الصحيحة  والصريحة  وإثباتها  للمعاني  التخييلية، وبين  تفضيل  الصدق  في الشعر  على الكذب  فيه،  بل إنه  يروم  فقط  الدفاع  عن شعرية الصدق  وتفنيد دعوى "ناصر  الإغراق  والتخييل" الذي  يحصر  الإبداع  ويقصره  على التخييل كما  تشي  بذلك  أداة الحصر (إنما).
وقبل  تناول  موقفه  الحقيقي من هذه القضية  لا بد من التساؤل: من  المقصود بـ "ناصر  الإغراق  والتخييل"؟ وهل  كان  عبد القاهر  يرد هنا  على ناقد معين؟ أو على اتجاه  بأكمله؟.
إن  من  شأن  الإجابة  عن هذا التساؤل  أن تضع  حدا  لمزاعم  كثيرة  يرى  أصحابها  أن موقف  عبد القاهر  من قضية  الصدق  والكذب في الشعر  ليس  إلا صياغة  لآراء  الفلاسفة  المسلمين  وتصوراتهم.  وأنه  يحيل  بتلك العبارة  إلى ابن سينا  خاصة[21]. ذلك أن  مقاربة  أولئك الفلاسفة لهذه القضية  كانت  مغايرة  للمواقف  التي سادت  قبلهم  في التفكير  النقدي  العربي؛  إذ  أكدوا  أن النظر  في الشعر  لا يكون  من جهة  صدق  معانيه  أو كذبها، بل  من حيث  هو كلام  مخيل[22]، ومن  التجني  على عبد القاهر  إخراجه  عن سياقه  المعرفي، وإقحامه  ضمن  منظومة  فكرية  بعيدة  عن انشغالاته  المذهبية  وأسئلته  البلاغية. ويبدو أن المقصود بتلك العبارة هو  قدامة  بن جعفر،  لأنه  هو الذي اشتهر  في النقد  العربي  بتفضيل  مذهب  الإغراق  والغلو في  الشعر بالدفاع عنه،  كما يدل  على ذلك قوله: «إن الغلو عندي  أجود المذهبين»[23]. ومن شأن  ربط  طريقة  مقاربة  عبد القاهر  لهذه القضية  بالأصول  العربية الخالصة أن يكشف  أنه  يستثمر منهجا  متعارفا لدى  القدامى  نشأ  في علم  المناظرة، ويتلخص  في عرض  موضوع  الخلاف  وتقديم  الحجج  والادعاءات  لإحدى  المواقف منه، قبل  الخلوص  إلى الحكم  النهائي عليه.
وقد تسرب  هذا المنهج  من المناظرات  الكلامية  إلى  المطارحات  النقدية، ويمكن  أن تلمس  بعض  تمظهراته  في طريقة  مناقشة  قدامة  لقضية  الغلو  والاعتدال  في الوصف  والتصوير[24]،  وفي طريقة عرض  المرزوقي (ت 421هـ) لحجج  أنصار  الصدق  أو الكذب  في الشعر[25]، كما يبرز  بصيغة  مغايرة  لدى  الآمدي (ت 370هـ) في إطار  مناقشته  لقضية  الطبع  والصنعة  في الشعر، وفي سياق  عرضه  لدفاع  كل فريق  على قضيته[26].
وبالعودة إلى تمييز  عبد القاهر  بين مذهبي شعرية  الصدق  وشعرية الكذب وقراءته  على ضوء  تصوره  لجمالية التخييل  الشعري، يستنتج أنه  ينطلق  في تأكيده  أن الصدق  لا يتنافى مع  الإبداع، وأنه  يمكن  أن  يخلق  عوالم  خيالية  بديعة  وممتعة، ينطلق  في ذلك  من تصور نظري  هام  مؤداه  أن الشاعر  الذي يلتزم  بـ "الحقيقة الموضوعية" ويتقيد  بحدودها  ويتمكن  مع ذلك من صياغة  صور جديدة وابتكار معاني  جميلة  هو شاعر  مقتدر  وقوي  الغريزة  الإبداعية  «لأن  تجويد  قائله  مع كونه  في  إسار  الصدق  يدل  على الاقتدار  والحذق»[27].
وبالإضافة  إلى هذا  فاعتباره الصدق  كخاصية  محددة  لشعرية  التصوير، يروم  بالأساس  تأكيد أهمية  التعبير  الصادق  عن الانفعالات  والرؤى  التي  يعيشها  الشاعر، وبالتالي بيان فاعلية  نقل  التجارب  الوجدانية  والخيالية  إلى المتلقي  وجعله  يستشعر  صدق  القول  الشعري، لأن «عاطفة  الشاعر  إذا كانت  قوية  صادقة  تركت  أثرها  قويا  واضحا  في شعره،  وبعثت  فيه  من  الحرارة  وصدق  التأثير  ما هو  جدير  بأن  يحرك عواطف الناس، وأن  يشعل  في نفوسهم  من  الانفعالات  مثل  ما لدى  الشاعر»[28]. وهذا  بالضبط  ما قصده  حسان  بن ثابت  في  بيته  السابق؛  حيث  إن  معنى  أن يقول المتلقي  حين سماعه الشعر "صدق"؛ هو  أن الشاعر  عبر عن  موضوعه الفني  وصور حالته  النفسية  بطريقة  تجعل  قارئه  يستشعر  كما لو  أنه –أي الشاعر- يتحدث  عن تجربته هو ويصور  انفعالاته  العاطفية، وبالتالي  ينوب  عنه  في التعبير  عن الأحاسيس  والأفكار  التي  تخالج  نفسه، والتي  لا يجد سبيلا  لينقلها إلى الآخرين  بأساليب جمالية صادقة ومؤثرة.
ويبدو  أن عبد القاهر  كان  واعيا  بهذا الأمر، لأنه  أشار  في سياق  رده  على ناصر  الإغراق  في التصوير إلى ما يدل  على ذلك؛  حيث يقول: «هذا  ونحوه  يمكن  أن يتعلق  به في  نصرة التخييل  وتفضيله، والعقل  بعد  على تفضيل  القبيل  الأول  وتقديمه، وتفخيم  قدره وتعظيمه، وما  كان  العقل  ناصره، والتحقيق شاهده، فهو  العزيز جانبه، المنيع  مناكبه»[29].
فقوله «العقل  ناصره، والتحقيق شاهده» يقصد  به حالة التماثل التي  يستشعرها  الإنسان  بين تجاربه  الموضوعية  وانفعالاته العاطفية  بها  من جهة، والتعبير  الجمالي  الذي يصورها  ويوحي  بها من جهة  أخرى.
والصدق  الفني  الذي  يتحدث  عنه  عبد القاهر ويفضله على "التخييل" لا علاقة  له  بالنقل  الحرفي  والتصوير  المباشر  للواقع  العيني، ولا يهم  كل المواضيع  والمضامين  الشعرية، بل يتصل  ببعضها فقط، وخاصة  النسيب  والرثاء  مما  يحتاج  فيه  الشاعر  إلى أن  يصف  صبابته  واحتراقه  بفراق  عشيقته  أو بموت  إنسان  عزيز عليه، ومن ثمة  فهو  لا يناسب  بعض  الأغراض  الشعرية  ويتنافى مع جوهرها  الفني  الذي  يقوم  على ادعاء  صفات  ومعاني  غير ثابتة  أصلا  ولا سبيل  إلى التحقق  منها. وخاصة غرضي  المدح  والهجاء  اللذين  يقتضيان  اختلاق  صور مغرقة  في المبالغة  والادعاء  لتحسين  شخصية  الممدوح  أو تقبيح  شخصية المهجو.
ومعنى  ذلك أن  من المعاني  الشعرية  ما لا  يمكن  تصويره  والتعبير  عنه  إلا بالصدق، كما  أن منها  ما لا  يحتمل  الصدق  ولا يمكن  التعبير  عنه إلا بالإغراق  والغلو  في التخييل. ولعل  هذا  ما يفسر لماذا  أكد من جديد  عبد  القاهر  في نهاية  مقاربته لقضية  الصدق  والكذب في الشعر الأهمية  الجمالية  للكذب  الشعري وعلى  قيمته  الإيحائية. حيث يقول: «وكيف  دار الأمر،  فإنهم  لم يقولوا: "خير  الشعر أكذبه"، وهم  يريدون  كلاما  غفلا  ساذجا  يكذب  فيه  صاحبه  ويفرط،  نحو  أن يصف  الحارس  بأوصاف الخليفة،  ويقول  للبائس  المسكين: "إنك  أمير  العراقين" ولكن  ما فيه  صنعة  يتعمل  لها، وتدقيق  في المعاني يحتاج  معه إلى فطنة  لطيفة وفهم  ثاقب، وغوص  شديد»[30].
فكما  أن الصدق  الفني  لا يعني  في التصور  الجمالي  لعبد القاهر  نقل  ظواهر  الواقع ومعطياته المادية  وإعادة  صياغتها  بصورة  مباشرة  خالية  من أية  متعة  فنية  أو قيمة  جمالية، كذلك  "الكذب" في الشعر  الذي  يسمه ويسميه بالتخييل لا يعني  عنده  الإغراق في التصوير  والإيغال  في الادعاء  إلى  الحد الذي  يظهر  فيه الحكم  الجمالي  الذي  تنطوي  عليه الصورة  الشعرية  واضح  الكذب  ومكشوف  الخداع، بل  يقصد به  الصور التي تكون  وليدة  رؤية خيالية  عميقة يقارب  فيها  الشاعر  بطريقة عجيبة  وغريبة  بين  موضوعين متنافرين  ومتباعدين، والتي تولد  في نفس  المتلقي  متعة  فنية  عميقة  وتحمله  على الانسياق  لمقتضاها  الإيهامي  والتخييلي دون أن يشعر  بطابعها  الخداعي.
وتدل عودة  عبد القاهر  إلى تأكيد  القيمة  الجمالية  لـ "الكذب  الشعري" التي  سبق  أن أشار  إليها في سياق تفسيره لبيت  البحتري  على موقفه  الحقيقي من التخييل، والذي  يتميز –كما يشير  إلى ذلك جابر  عصفور- بالانحياز  إليه  والإعجاب  بقدرته الإبداعية[31]. ويتجلى  هذا الموقف  بوضوح  من خلال  تقسيمه  لأنواع التخاييل الشعرية  وترتيبه  لأساليبها الإيحائية  والجمالية.

ثانيا - قضية الصدق والكذب في الشعرعند حازم القرطاجني:
سبقت الإشارة في محاضرة سابقة إلى أن تفكير الرعيل الأول من البلاغيين والنقاد العرب في مفهوم التخييل قد اتسم بالارتياب والتشكيك في قيمته الإدراكية ووظائفه النفسية والجمالية. فكان يعتبر في أحيان كثيرة مرادفا للخداع والتضليل والكذب. كما تدل على ذلك مواقف أبي عثمان الجاحظ (ت 255هـ) وأبي بكر الأصبهاني (ت 297هـ) وأبي هلال العسكري (ت 395هـ) والشريف المرتضى ( ت 436هـ) وغيرهم.
وبالرغم من أهمية المجهود الذي قام به عبد القاهر الجرجاني لفهم الطبيعة الفنية للتخييل الشعري وإبراز خصوصيته الدلالية إلا أنه لم يستطع أن يخصله من الأحكام السلبية والمواقف التنقيصية التي ترسبت في ذاكرته خلال لحظات استعماله الأولى، فظل يعتبره ضربا من الخداع والتضليل، ووسيلة يحتال بها الشاعر على الوعيين الإدراكي والعقلي للمتلقي، ليوهمه بصدق الأحكام والمعاني الخيالية التي يعرضها عليه.[32]
وقد شعر حازم القرطاجني أن عليه أن يواجه كل الظلال السيئة التي تعتور التخييل الشعري و«أن يتصدى للهجوم على المصطلح نفسه، وينفي عنه ما يتهم به، ويرد على سوء فهم المتكلمين للشعر، خاصة أولئك الذين قرنوا التخييل بالكذب وافترضوا أن القول المخيل هو القول الكاذب بالضرورة.»[33]. ولذلك فقد حرص على التأكيد أن النظر في الشعر ينبغي أن ينصب أساسا على الغاية الجمالية التي يسعى إلى تحقيقها، وأن يقوَّم على ضوء درجة نجاح الشاعر في إدماج المتلقي في السياق التخييلي لتجربته الإبداعية. يقول بهذا الصدد:
     «الرأي الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة وتكون كاذبة، وليس يعد شعرا من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب بل من حيث هو كلام مخيِّل»[34].
ويقول أيضا في السياق نفسه:  «الاعتبار في الشعر إنما هو التخييل في أي مادة اتفق، لا يشترط في ذلك صدق ولا كذب، بل أيهما ائتلفت الأقاويل المخيِّلة منه فبالعرض، لأن صنعة الشاعر هي جودة التأليف وحسن المحاكاة؛ وموضوعها الألفاظ وما تدل عليه»[35].
فالشعر باعتباره خطابا جماليا يمثل الموجودات المادية والأحوال النفسية التي لها علاقة بالإنسان لا تتحدد غايته الجمالية وطبيعته الفنية في نقل معطيات العالم الخارجي بصورة حرفية مطابقة لوجودها العيني، أو بصورة أخرى مغايرة لحقيقتها الموضوعية، بل المطلوب منه أولا وأخيرا أن يثير خيالات المتلقين، وأن يحـرك نفوسهم وانفعالاتهم، ويدفعهم للانسياق الـذهني والتجاوب العاطفي أو السلوكي مع المواضيع والعوالم الخيالية التي يمثلها لهم من غير اشتراط أن تكون صادقة أو كاذبة.
وما يشير إليه حازم هنا يكتسي أهمية نظرية كبيرة؛ لأنه يخرج الصدق والكذب من طبيعة الشعر جملة ويركز على القيمة الفنية للتخييل وعلى وظيفتيه النفسية والجمالية، ولأنه يرى تبعا لذلك أن على التفكير النقدي في القصيدة أن يتجاوز النظر في مدى صدق التخاييل والمحاكيات التي تتضمنها وتشكلها، وأن يتجه بالأحرى للبحث في «موقعها من المتلقي وتأثيرها في انفعالاته، وقدرتها على توجيه سلوكه، طالما أن الغرض النهائي من الشعر هو التأثير الموجه للسلوك»[36].
وتكمن قيمة هذا التصور الذي يتبناه حازم في أنه يحسم الصراع الذي دار بين أنصار الصدق أو الكذب في الشعر لصالح الغاية التخييلية للعملية الشعرية. ولئن كانت أصوله تعود ـ كما اتضح في الفصل السابق ـ إلى الفلاسفة المسلمين الذي أدى تصنيفهم للشعر ضمن فروع المنطق إلى تخليصه من إسار النظرة التي كانت تقوّم العوالم الفنية والمعاني الإبـداعية التي يختـرعها باعتبـار صدقها أو كذبها، لئن كان الأمر كذلك، فإن حازما لا يكتفي بعرض تصور الفلاسفة المسلمين، بل إنه يغنيه بموقف آخر يتمثل في النظر في مادة التخاييل والمحاكيات الشعرية، وبحث طبيعة المعاني التي تنطوي عليها ونوعيتها من زاوية صدقها في تمثيل ظواهر الواقع المادي أو كذبها في ذلك. وقد حاول حازم ـ كما لاحظ جابر عصفور ـ أن يخرج هذا السؤال من دائرة البحث النقدي، إلا أنه وجد نفسه ملزما بالإجابة عنه«لأن التخييل وإن كان يهدف إلى التأثير لن يفصل عن مادة تؤدي إليه، وموضوع يساهم في تحقيقه ولا مفر من البحث في قيمة مادة التخّيل وموضوعها، من حيث كونها صادقة أو كاذبة»[37].
فالصدق والكذب قيمتان تلازمان الطبيعة التمثيلية للتخييل وتحددان أسلوبه الإيحائي؛ «لأن الشيء قد يخيَّل على ما هو عليه وقد يخيَّل على غير ما هو عليه»[38]. والمطلوب هو الإحاطة بمناحي وقـوع كل واحـد منهما في الأساليب الشعرية، ومعرفة الطرق والصيغ المناسبة لاستعمـال أحدهما أو كلاهما في صياغة الصور الفنية حتى تكون أكثر جمالا وأشد تحريكا للخيالات وتأثيرا في النفوس. وفي هذا الإطار يرى حازم أن الكلام الشعري ينقسم بالنسبة إلى الصدق والكذب ثلاثة أقسام رئيسة، يوضحها بقوله: «إن الأقاويل الشعرية منها ما هو صدق محض، ومنها ما هو كذب محض، ومنها ما يجتمع فيه الصدق والكذب»[39].
أما بالنظر إلى الطرق المناسبة لوقوع الصدق والكذب في الشعر، فيشير حازم إلى أن ثمة خمس جهات لكل واحدة موقعها الخاص والملائم في عملية التمثيل الفني؛ إذ يقول:
      «إن الشعر له مواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الصادقة، ومواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الكاذبة، ومواطن يصلح فيها استعمال الصادقة والكاذبة واستعمال الصادقة أكثر وأحسن، ومواطن يحسن فيها استعمال الصادقة والكاذبة واستعمال الكاذبة أكثر وأحسن، ومواطن تستعمل فيها كلتاهما من غير ترجّح فهي خمسة مواطن، لكل مقام منها مقال»[40].
فالشعر يكون صادقا حين تتماثل المعاني والأحكام الخيالية التي تتضمنها صوره الفنية مع الحقيقة العينية للموضوع المادي الذي يشتغل عليه. ويتجلى هذا النمط من التخييلات في الأشعار التي تصف الظواهر والأشياء المادية وصفا مباشرا مطابقا لخصائصها الطبيعية وسماتها الحركية، أي في الأغراض الشعرية التي تروم أساليبها التصويرية تحسين صور الأشياء الحسنة أو تقبيح صور الأشياء القبيحة. يقول بهذا الصدد: « فأما إذا قصد [الشاعر] تحسين حسن وتقبيح قبيح، فإنه متمكّن من القول الصادق والمشهور فيهما. وأكثر أقوال الشعراء في هذين القسمين، إذا لم يقصدوا المبالغة في ما يحاكونه ويصفونه، صادقة»[41].
كما تكون أيضا صادقة الأشعار التي تصف الأشياء بطريق غير مباشر فتحاكيها بغيرها من الأشياء المقاربة لها في الطبيعة المادية والخصائص الحركية، وذلك بغاية إبراز جمالها إن كانت جميلة أو قبحها إن كانت قبيحة، ويرتهن الصدق في هذا النمط من الصور الشعرية بلزوم الاعتدال في الوصف؛ حيث إن على الشاعر ألا يخرج من إطار تقرير المشابهة والتماثل بين الشيئين موضوعي المقارنة إلى ادعاء اتحادهما وتساويهما في درجة الوجود وطبيعته. بل لابد أن يضمِّن محاكاته قرينة لفظية أو معنوية تبقي تمايزهما واضحا في مخيّلة المتلقي. يقول حازم موضحا هذا الأمر:  «(…) وكذلك أيضا إن اقتصد في محاكاته بغيره واقتصر به على المشابهة دون الغاية التي يطمح فيها عن محاكاة الشيء بالشيء إلى قول هو هو. وفرق بين قولك في الشيء: إنه الشيء  الآخر، وبين قولك: إنه مثله وشبهه، إذا لم ترد في نفسك معنى التشبيه، وتكون قد حذفت الحرف الدال عليه إيجازا، بل أردت أن يصير به اثنينية  شيئين اتحادا. وهذا يكون في المشابهة وغيرها (…) فما وقع من الأوصاف والمحاكاة مقتصدا فيه غير متجاوز فهو قول صدق. فإذا قيل في الشيء: إنه كالشيء، وكان فيه شبه منه، فهو قول حق. لأن الكاف وحروف التشبيه إنما وضعت لأن تدل على الشبه من حيث إنه موجود، قل أو أكثر، لا من حيث الكمية؛ فقد يقوى الشبه ويضعف وتكون المحاكاة مع ذلك صادقة إلا أنها في أحد الحالين أوضح»[42].
فأما الكذب فإنه يقع في الشعر  حين يمحو الشاعر الفواصل المنطقية والطبيعية القائمة بين الأشياء والظواهر المتنافرة والمتباعدة في الحس، فيقارب بينها بأسلوب يوهم باتحادها وتطابقها في جميع الصفات. ويندرج هذا النمط في سياق أسلوب تصويري شامل يتميز بالإيغال في الوصف والمحاكاة؛ حيث يقلب فيه الشاعر مظاهر الأشياء وخصائصها المادية، فيمثل ما هو حسن بصورة قبيحة، وما هو قبيح بصورة حسنة. يقول حازم في هذا الإطار: « لكن الشاعر يضطر حيث يريد تحسين قبيح أو تقبيح حسن أو تتميم ناقص بالنسبة إلى ما يراد منه بالمبالغة في وصفه لتزيد النفوس زيادة الوصف تحريكا، فيستعمل حينئذ الأقاويل الكاذبة وما لا يوقع الصدق كما يستعمل الحوشي والعامي من الألفاظ مضطرا في ذلك، أو مسامحة للفكر في ما يقتضيه من المعاني أو يجتلبه من الألفاظ عفوا دون كد؛ أو لأن يرى بعض الأحوال المقدّرة التي يتخيلها أهز من الأحوال التي وقعت له، فيبني قوله على الحال المخيِّلة الممكنة دون الواقعة. ليكون الكلام بذلك أشد موقعا من النفس وعلوقا بالقلب»[43].
فالاستدراك في قول حازم مرتبط بالاضطرار وناتج عنه كما تدل على ذلك عبارة «لكن الشاعر يضطر»، وهذا الأمر محكوم كما يتضح من نهاية النص بطبيعة الإثارة الجمالية التي يتوخى الشاعر تحقيقها. وبعبارة أخرى فالغاية الأساسية للشعر تظل هي تحريك خيالات المتلقين ودفعهم إلى التفاعل النفسي والوجداني مع المواضيع الفنية والمعاني الإيحائية التي يتضمنها. ولذلك فحين لا تسعف الشاعر معطيات الواقع المادي وظواهره المشهورة والمحدودة بتمثيل معناه الخيالي وبتشكيل رؤيته الجمالية، فإنه ينزاح عن هذا الواقع ليخلق أشياء جديدة ويتخيل حالات نفسية وأشكال مادية مغايرة للمألوف وتنطوي على طاقات إمتاعية وقدرات تأثيرية بديعة وعميقة.
وقبل تناول المـوقف النظـري الذي ينطـوي عليه هذا التصور تجدر الإشارة إلى أن حازما لا يرى أن الكذب الفني يقع في الشعر كلما دار كلامه على تحسين قبيح أو تقبيح حسن. فقد يكون الشاعر صادقا في ذلك أيضا: « لأن كل شيء حسن يقصد محاكاته وتخييله، وإن كان أحسن ما في معناه، فقد يوجد فيه وصف مستقبح. وكذلك الشيء القبيح، فإنه وإن كان لا أقبح منه، قد يوجد فيه وصف مستحسن»[44].
ويمثل هذا المستوى من التصوير القسم الثالث من الكلام الشعري الذي قال عنه إنه يجتمع فيه الصدق والكذب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تقسيم حازم للأقاويل الشعرية إلى نوع كاذب بالمرة، وآخر صادق، وثالث يجتمع فيه الصدق والكذب لم تمله عليه ثقافته المنطقية التي لا ينكر أنه كان متشبعا بها، ولكنه توسل بآلياتها التفريعية والتصنيفية ليرد على سوء فهم بعض علماء الكلام للطبيعة الدلالية للشعر ولمستويات تعبيره الجمالي عن العالم والإنسان. وهذا ما يتضح في قوله:  «وإنما غلط في هذا ـ فظن أن الأقاويل الشعرية لا تكون إلا كاذبة ـ قـوم من المتكلمين لم يكن لهم علم بالشعـر، لا من جهة مـزاولته ولا من جهة الطرق الموصلة إلى معرفته»[45].
لكن حازما لا ينكر مع ذلك أن حيز الكذب في الشعر أكثر اتساعا من حيز الصدق فيه؛ لأن التخييل باعتباره جوهر العملية الشعرية يقترن التمثيل الفني فيه بالإيهام والاحتيال ويقوم عليهما وبواسطة ذلك يتمكن من دفع المتلقي إلى التوهم بأن شيئا ما يحمل صفات وملامح شيء آخر مغاير له في الطبيعة المادية والخصائص الحركية. وهذا الأمر لا يقتصر  على الكذب وحده، بل يشمل أيضا الأقاويل الشعرية الصادقة التي يفرط فيها الشاعر في الوصف؛ لأن الشاعر يحتاج فيها لكي يكون قوله جميلا ويقع موقعا حسنا في النفوس أن يضيف إلى وصفه المطابق للموضوع المادي معنى جماليا آخر. وهذا المعنى الذي يضيفه الشاعر لا يكون مرتبطا ارتباطا عضويا بذلك الموضوع، كما أنه لا يحدد حقيقته المادية والواقعية ولكنه يورده على جهة الاقتران والتمثيل. الشيء الذي يعني «أن الشاعر إذا وصف الشيء بصفة موجودة فيه، فأفرط فيها، كان صادقا من حيث وصفه بتلك الصفة، وكاذبا من حيث أفرط فيها وتجاوز الحد»[46].
وقد توقف حازم عند البنية الدلالية والتمثيلية للصور الشعرية التي تنطوي على معاني وأحكام تخييلية كاذبة، وحاول أن يميز بين مختلف تشكلات الكذب ودرجات وقوعه فيها، وأن ينظر إلى ما يصلح استعماله من ذلك في الشعر مما لا يصلح، فرأى أن الكذب في الشعر ينقسم إلى نوعين رئيسين: أحدهما يعلم أنه كذب من ذات القول، والآخر لا يعلم كذبه من ذات القول. فالنوع الأول لا يثير كذبه أي إشكال لأنه واضح الخداع والادعاء الباطل. أما النوع الثاني فيحتاج إلى تأمل وتصنيف، لأن منه ما لا يوجد في القول الشعري ولا في الواقع العيني ما يدل على أنه كذب، ومنه كذلك ما يعلم أنه كذب بالرجوع إلى الواقع المادي وعرض ما يدعيه الشاعر على ظواهره ومعطياته الحسية يقول موضحا ذلك: « فالذي لا يعلم كذبه من ذات القول، وقد لا يكون طريق إلى علمه من خارج أيضا: هو الاختلاق الإمكاني، وأعني بالاختلاق: أن يدعي الإنسان أنه محب ويذكر محبوبا تيَّمه ومنزلا شجاه، من غير أن يكون كذلك. وعنيت بالإمكان: أن يذكر ما يمكن أن يقع منه ومن غيره من أبناء جنسه، وغير ذلك مما يصفه ويذكره. والذي يعلم من خارج القول أنه كذب ولابد الاختلاق الامتناعي، والإفراط الامتناعي والاستحالي. والإفراط: هو أن يغلو في الصفة فيخرج بها عن حد الإمكان إلى الامتناع أو الاستحالة (…) فأما الإفراط الإمكاني فلا يتحقق ما هو عليه من صدق أو كذب، لا من ذات القول ولا من بديهة العقل؛ بل يستند العقل في تحقق ذلك إلى أمر خارج عنه وعن القول، إلا أن يدل القول على ذلك بالعرض. فلا يعتد بهذا أيضا. وإنما نسميه إفراطا بحسب ما يغلب على الظن»[47].
ويعتبر الاختلاق الإمكاني، مقارنة بالاختلاق الممتنع أو المستحيل، أكثر الأساليب التمثيلية ملاءمة لطبيعة التصوير الشعري عند العرب؛ لأن المتلقي لا يستشعر إزاءه بأي تنافر أو تعارض بين التخاييل التي يتضمنها والحقائق المادية الماثلة في الحس. ولا يشك بالتالي بأنه معرض للخداع والتضليل؛ لأن أدنى شك من هذا القبيل من شأنه أن يفسد العملية التخييلية برمتها، وأن يحول دون تحقيق غايتها الجمالية. وهذا ما يقصده حازم بقوله: «وإنما ساغ في الشعر وقوع الكذب في الممكنات ولم يسغ في المستحيلات لأن الأمر إذا كان ممكنا سكنت إليه النفس وجاز تمويهه عليها، والمحال تنفر عنه النفس ولا تقبله البتة، فكان مناقضا لغرض الشعر إذ المقصود بالشعر الاحتيال في تحريك النفس لمقتضى الكلام بإيقاعه  منها بمحل القبول بما فيه من حسن المحاكاة والهيئة بل ومن الصدق والشهرة في كثير من المواضع»[48].
فوضوح الكذب يفضح الطبيعة الاحتيالية للعملية الشعرية، ويحول دون اندماج المتلقي في سياقها التخييلي. ولذلك لا ينبغي للكذب الإفراطي في الشعر أن يخرج عن حد الإمكان إلى حد الامتناع أو الاستحالة؛ لأن إمكانية وقوع الأحداث ومشاكلة الصور المتخيلة في القصيدة للواقع «تضعف سبيل المعارضة العقلية، وتفسح المجال لعملية الإيهام، حتى يتقبلها المتلقي وينفعل بها ويعمل تبعا لمقتضاها»[49]. أما إذا كان مجال الصدق لا يتسع أمام الشاعر ولا يناسب رؤاه الخيالية، فعليه أن يخفي موطن الكذب في قوله الشعري بأن يصوغه في بنية تركيبية بديعة تشغل ذهن المتلقي عن الانتباه إلى بطلان دعوى القياس التخييلي، وتوهمه بصحة أحكامه ومشابهتها للكلام الصادق والمعاني المشهورة. يقول حازم بهذا الصدد:       «والتمويهات تكون بطي محل الكذب من القياس عن السّامع، أو باغتراره إياه ببناء القياس على مقدمات توهم أنها صادقة لاشتباهها بما يكون صدقا، أو بترتيبه على وضع يوهم أنه صحيح لاشتباهه بالصحيح، أو بوجود الأمرين معا في القياس أعني أن يقع فيه الخلل من جهتي المادة والترتيب معا، أو بالهاء السامع عن تفقد موضع الكذب وإن كان إلى حيز الوضوح أقرب منه إلى حيز الخفاء بضروب من الإبداعات والتعجيبات تشغل النفس عن ملاحظة محل الكذب والخلل الواقع في القياس من جهة مادة أو من جهة ترتيب أو من جهة المادة والترتيب معا»[50].
وما يشير إليه حازم هنا يدل على أنه يعتبر التخييل الشعري قياسا مخادعا؛ لأنه ينبني على مقدمات خيالية ويفضي إلى نتائج وأحكام وهمية. ولئن كان هذا التصور  مستمدا من فهم الفلاسفة المسلمين للشعر باعتباره نوعا من أنواع الأقيسة المنطقية، فإن أصوله الحقيقية تعود ـ كما اتضح في الفصلين السالفين ـ إلى البدايات الأولى لتشكل مفهوم التخييل عند العرب؛ حيث كانت تشبه فاعلية التمثيل البياني وقدرته التأثيرية بالسحر، كما كانت كلمات الاحتيال والإيهام والخداع ترتبط بكلمة التخييل وتعد من أبرز مرادفاتها. الأمر الذي يعني أن مفهوم التخييل عند حازم ظل مرتبطا بتلك الأصول الدلالية التي ترسبت في ذاكرة الكلمة خلال المراحل الأولى لتوظيفها ولتشكل مضمونها الاصطلاحي.
ولاشك أن فهم حازم للتخييل على هذا النحو يقوده إلى التسليم ضمنيا «بكل الأسس المعرفية والأخلاقية التي هونت من قيمة التخيل الإنساني، والتي تركت آثارا ضارة على مفهوم التخييل الشعري نفسه»[51]. إلا أن ذلك لا يعني أنه يتبنى في نهاية المطاف المواقف السلبية ذاتها التي صاغها البلاغيون قبله، والتي تتفق على التنقيص من قيمة التخييل والتشكيك في ضرورته النفسية ووظيفته الجمالية؛ فحازم ما فتئ يؤكد في منهاجه أن التخييل هو جوهر الشعر والمكون النوعي الذي يميزه عن المستويات الأخرى للخطابات اللغوية، ولذلك فهو يرى «أن الاعتبار في الشعر ليس بالنظر إلى الصدق والكذب بل بالنظر إلى التخييل، وأن الصدق والكذب أمران يرجعان إلى المفهومات لا إلى الدلالات»[52]. وهو لم يهاجم ـ كما هو الشأن بالنسبة للبلاغيين الآخرين ـ كل أنواع التخييل وضروبه التصويرية، بل رفض فقط تلك التي تكون واضحة الكذب ومفضوحة الاحتيال، والتي يتحرر فيها خيال الشاعر من كل الضوابط والحدود الفنية التي تحكم حركته الإبداعية وتوجهها، فيتوهم أشياء لا يمكن وقوعها في الوجود أو تمثلها في الذهن كتركيب يد أسد على رجل أو كادعاء وجود إنسان يمكن أن يقوم ويقعد في حال واحدة[53].
ففساد هذا النوع من الصور يعود إلى أنه يتناقض مع الطبيعة التمثيلية للشعر ومع غايته الجمالية التي تروم إحداث التخييل في ذهن المتلقي ودفعه إلى التفاعل النفسي مع العوالم الفنية التي يصورها له الشاعر. ولذلك يرى حازم أن الشاعر إذا لم تعسفه المعاني المشهورة والصادقة، واضطره غرضه الشعري ومعناه الخيالي إلى المبالغة في الوصف والتصوير، فعليه أن يستعمل «المبالغات التي يمكن أن تتصور لها حقيقة وأن تصرف إلى جهة الإمكان (…) وإن لم تكن واقعة»[54]، وعليه أيضا أن يخفي كذبه، ويصوغ حكمه المخادع في بنية لغوية وتركيبية توهم المتلقي بصحته وصدقه كما أشار في النص السابق. أما إذا تساوى المعنى الصادق والمعنى الكاذب في التمثيل الفني وكانت لهما نفس القدرة على تحريك الخيالات وإثارة الانفعالات، فعلى الشاعر أن يختار الصادق ويقدمه على الكاذب. وهذا ما يوضحه بقوله:  «وليست تحرك الأقاويل الكاذبة إلا حيث يكون في الكذب بعض خفاء أو حيث يحمل النفس شدة ولعها بالكلام لفرط ما أبدع فيه على الانقياد لمقتضاه، وإن كان مما يكره ولا يصدق الخاص عليه، ومع هذا فتحريكها دون تحريك الأقاويل الصادقة إذا تساوي فيهما الخيال وما يعضده مما داخل الكلام وخارجه. فتحريك الصادقة عام فيها قوي، وتحريك الكاذبة خاص فيها ضعيف. وما عم التحريك فيه وقوي كان أخلق بأن يجعل عمدة في الاستعمال حيث يتأتى»[55].
وما يشير إليه حازم هنا يدل على أن موازنته بين الصدق والكذب في الشعر من ناحية درجة ملاءمة كل واحد منهما لطبيعة التخييل الشعري تشي بأنه يميل إلى الصدق. وهذا ما يعبر عنه صراحة بقوله:       «(…) المعاني التي تكون الأقاويل فيها صادقة أو مشتهرة، أفضل ما يستعمل في الشعر لكونها تحرك النفوس إلى ما يراد منها تحريكا شديدا»[56].
غير أن الصدق الذي يتحدث عنه حازم هنا لا يعني مطابقة القول الشعري للمعطيات المادية كما تبدو للوعي الإدراكي المباشر. وإنما هو «تمثيل تخيلي أو موازاة تخيلية، تبدو فيها الحقيقة من خلال علاقات واقترانات، لها مجالها المتميز»[57].
وتفضيل حازم للصدق في الشعر ليس أمرا طارئا في تفكيره النقدي، ولا ينم عن أي اضطراب أو غموض في تبني موقف واضح ومتسق من قضية الصدق والكذب في الشعر كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين[58]. بل إن موقفه بهذا الخصوص واضح وثابت كما اتضح من قبل في معرض حده للشعر؛ حيث اعتبر أن قوة صدق التخييل أو قوة شهرته من العناصر الأساسية التي يستعين بها الشاعر لكي يحبب إلى نفس المتلقي ما قصد تحبيبه إليها ويكره إليها ما قصد تكريهه، وليحمله بالتالي على طلبه أو الهروب منه.
ومن الجدير بالملاحظة أن موقف حازم من قضية الصدق والكذب في الشعر لا يختلف كثيرا عما انتهى إليه عبد القاهر الجرجاني. بل إن مقاربة الرجلين لهذه القضية تتماثل من ناحية المواقف والتصورات الكبرى؛ حيث إنهما يجمعان على أن الشاعر لا ينبغي له أن يلجأ إلى الكذب إلا حين تنعدم أو تضيق أمامه إمكانية الصدق في القول، ولا يجد بدا من تصوير الأشياء بمظهر مغاير ومناقض لحقيقتها المادية، وأن عليه أن يراعي في ذلك ما يتطلبه الغرض الشعري ويتناسب مع غايته الجمالية. كما أنهما يتفقان على ضرورة أن يتوخى الشاعر القصد والاعتدال في الوصف والتصوير وألا يخرج بمبالغته في التخييل إلى الادعاء الباطل والكذب المكشوف والمفضوح[59].
وبغض النظر عن المواقف والتصورات الكبرى التي خلصا إليها واتفقا فيها معا، يلاحظ أن حازما يتميز عن عبد القاهر وعن غيره من النقاد الذين تناولوا هذه القضية بشمولية العرض ودقة الفصل بين الجهات التي يكون فيها التخييل الشعري كاذبا أو صادقا، أو يجتمع فيه الصدق والكذب فيتساويان من ناحية القيمة الجمالية أو يفضل أحدهما على الآخر. وقد تحقق له ذلك بفعل إلمامه بأبرز المقولات والتصورات التي سادت قبله بين الشعراء والعلماء الرواة والنقاد، وتمثله لها على ضوء ثقافته الفلسفية؛ حيث ربط قضية الصدق والكذب في الشعر بمقولات الواجب والممكن والممتنع والمستحيل في المحاكاة الشعرية التي أفادها من شراح كتاب الشعر[60]، وأعاد صياغة كل ذلك وترتيبه على أسس منطقية واضحة ودقيقة، وبأسلوب «ينم عن عقلية نقدية ناضجة»[61].
إن حرص حازم على تأكيد الجوهر التخييلي للشعر لا يقتصر فحسب على اعتباره عنصرا رئيسا يحدد ماهية الخطاب الشعري ويميزه عن غيره من المستويات الأخرى للخطاب، كما أنه لا يقتصر فقط على توضيح طبيعة علاقته المفاهيمية بمقولتي الصدق والكذب. ولكنه يتعدى ذلك إلى مستوى آخر من البحث يروم بيان طرق تحقق التخييل في البنية النصية للخطاب الشعري من خلال مكوناته اللفظية والدلالية والتركيبية والإيقاعية. ويعكس هذا المستوى جانبا آخر من النضج النظري في التفكير النقدي والبلاغي عند حازم القرطاجني؛ لأنه استقصى فيه ـ بكيفية شاملة ودقيقة ـ أبرز تصورات البلاغيين السابقين بخصوص المميزات الجمالية والخصائص الفنية التي تحدد فصاحة الكلام وبلاغة مضامينه وعباراته، وتأمل ذلك على ضوء تصورات ابن سينا  للشروط التي تجعل القول مخيلا، فأعاد صياغة هذا وذاك بالصورة التي تثري مفهوم التخييل، وتبرز وسائل تحققه في النص الشعري.

خاتمة :




[1]  من بين أبـرز  الشواهد  الدالة على ذلك  قول  النابغة الذبياني ( ت ؟ ): «أشعر الناس من استجيد كذبه» (ابن رشيق: العمدة، 2/53). وكان يقابل هذا الموقف المناصر للكذب في الشعر موقف آخر يفضل الصدق فيه، ومن الشواهد الدالة عليه قول الشاعر:  [من البسيط]                                                                                   
وإن أحسن بيت أنت قائله     ***     بيت يقال  إذا  أنشدته صدقا       (أنظر أسرار البلاغة، ص 271)
[2] هكذا  يروى هذا البيت، وقد ورد  شطره  الثاني  في ديوان  كالتالي:  "في  الشعر  يلغى  عن  صدقه  كذبة". البحتري: الديوان، 1/209.
[3] عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 270-271.
[4] نفسه، ص 270.
[5] نفسه، ص 271.
[6] أنظر الآمدي: الموازنة، 1/3-5.
[7] طارق  النعمان: اللفظ والمعنى، ص 164.
[8] البحتري: الديوان، 1/209.
[9] د. جابر عصفور: قراءة  محدثة  في ناقد  قديم، ضمن  قراءة  التراث  النقدي، ص 143.
[10] نفسه، ص 144.
[11] د. شوقي  ضيف: البلاغة تطور وتاريخ، ص 218.
[12] الآمدي: الموازنة، 1 / 4.
[14] عبد القاهر  الجرجاني: اسرار البلاغة، ص 271-272.
[15] عبد القاهر  الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 272.
[16] نفسه.
[17] نفسه، ص 272-273.
[18] عبد القاهر  الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 272.
[19] أبو فراس الحمداني: الديوان،
[20] المصدر السابق، ص 274.
[21] د. مصطفى الجوزو: نظريات الشعر عند العرب، ص  .
[22]  أنظر ص       من هذا البحث.
[23] قدامة  بن جعفر: نقد  الشعر، ص 94.
[24] نفسه، ص 91-92.
[25] أبو علي  المرزوقي: شرح  ديوان  الحماسة، مقدمة  الشارح، 1/11-12.
[26] الآمدي: الموازنة، 1/6-11.
[27] أبو علي المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، مقدمة  الشارح، 1/11.
[28] د. محمد طاهر  درويش: النقد  الأدبي عند العرب، ص 223.
[29] عبد  القاهر  الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 273.
[30] عبد القاهر  الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 275.
[31] د. جابر عصفور: الصورة  الفنية، ص 356.
[32] انظر ص   من هذا البحث.
[33] د. جابر عصفور: الصورة الفنية، ص 78 – 79.
[34] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 63.
[35] نفسه، ص 81.
[36] د. جابر عصفور: الصورة الفنية، ص 79. انظر كذلك: د. تامر سلوم: نظرية اللغة والجمال، ص 191.
[37] د. جابر عصفور: الصورة الفنية، ص 81.
[38] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 62.
[39] نفسه،  ص 76.
[40] نفسه، ص 85.
[41] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 73.
[42] نفسه، ص 74 – 75.
[43] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 82. انظر كذلك ص 72.
[44] نفسه، ص 73.
[45] نفسه، ص 86، انظر أيضا ص 83.
[46] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 79.
[47]  نفسه، ص 76 – 77.
[48]  حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 294، انظر أيضا ص 135.
[49] د. جابر عصفور: مفهوم الشعر، ص 204.
[50] المصدر السابق،  ص 64، انظر أيضا ص 71 – 72.
[51] د. جابر عصفور: الصورة الفنية، ص 84.
[52] د. إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 555.
[53] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 76 ، 133.
[54] نفسه،   ص 135.
[55] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء،  ص 82.
[56] نفسه، ص 82.
[57] د. جابر عصفور: مفهوم الشعر، ص 212.
[58] انظر  د. مصلوح: حازم القرطاجني ونظرية المحاكاة والتخييل في الشعر، ص 171. د. مصطفى الجوزو: نظريات الشعر عند العرب، ص 180 – 181.
[59] انظر ص    من هذا البحث.
[60] تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أن محمد مفتاح يرى أن حازما استوحى تلك المقولات من الأحكام الشرعية ونقلها إلى أحكام الشعر، أنظر  محمد مفتاح: مشكاة المفاهيم، ص 104.
[61] د. صفوت الخطيب: نظرية حازم القرطاجني النقدية والجمالية، ص 150.

























هناك 4 تعليقات:

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  2. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  4. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف