الثلاثاء، 7 أكتوبر 2008

مفهوم النص الأدبي


                                                                         ذ.مولاي يوسف الإدريسي          

تمهيد:
يعد مصطلح النص الأدبي من أبرز المصطلحات التي سادت على نحو ملحوظ في الخطاب النقدي الحديث ، وقد تطورت دلالاته المفهومية وتعددت تأويلاته وتحديداته النظرية في السنوات الأخيرة نتيجة تطور العلوم المهتمة بدراسة الخطاب ونضج آلياتها التحليلية كاللسانيات والسيميائيات والأسلوبية وغيرها؛ إذ وقفت هذه العلوم عند النص الأدبي باعتباره ظاهرة لغوية، فتساءلت: ما الذي يحد ماهيته النصية؟ وما مقوماته وعناصره الأدبية؟

لقد بدى واضحا أن تقديم جواب جدي عن التساؤل المتعلق بالخصائص المميزة للنصوص الأدبية مرهون أساسا بالتساؤل عن خصائص النصوص بصفة عامة، وخصائص استعمال اللغة بصفة اعم، وقد لاحظ فان ديك أن هذا الأمر يقتضي عدم الاقتصار على استخراج الخصائص " الداخلية" للنصوص وتحديد مختلف البنيات التي تنطوي عليها، بل يجب البحث في المميزات " الخارجية" لهذه النصوص أيضا، أي أن البحث يجب أن يشمل الظروف التي تحكمت في ظهورها ضمن سياقات خاصة ويبرز وظائفها وآثارها ضمن هذه السياقات، ويحدد العلاقات القائمة بين النص ( بنية النص) والسياق الذي أنتج فيه[i].
1-             النص لغة:
تشير كلمة " نص" إلى أنماط مختلفة ومستويات متباينة من القول، يتحدد كل واحد منها بالنظر إلى حقله المعرفي أو جنسه الخِطابي. وتحيل كلمة " نص" في لسان العرب إلى معنى إظهار الشيء والكشف عنه؛ يقول ابن منظور: « النص رفعك للشيء،نص الحديث ينصه نصا رفعه، ووضع على المنصة، أي على غاية الفضيحة والشهرة والظهور. وقال الأزهري: النص أصله منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها. ومنه قيل: نصصت الرجل إذا استقصيت مسألته عن الشيء، حين تستخرج كل ماعنده، وكذلك النص في السير إنما هو أقصى ماتقدر عليه الدابة(…) ونص الشيء وانتصب إذا استوى واستقام.»[ii]
تدل كلمة نص هنا – في مستواها اللغوي العام- على معنى الإسناد؛ أي إسناد الحديث ورفعه إلى صاحبه، بيد أن المعنى الذي ينطوي على دلالة هامة يتمثل في إشارة الكلمة إلى معنى اكتمال الشيء وبلوغه منتهى الاستواء والاستقامة وإظهاره للناس ووضعه " على غاية الفضيحة والشهرة".
وبالرغم من أن هذا المعنى عام وفضفاض إلا أنه ينطوي على تصور خاص لماهية القول باعتباره تشكلا نصيا، ذلك أننا لو قصرنا تعريف ابن منظور على أنماط القول المختلفة، وخاصة الأدبية، لكان معنى النص الأدبي هو القول الذي يستقصي فيه صاحبه تصوره عن مسألة معينة، فيخرجه إلى الناس ويضعه على " غاية الفضيحة والشهرة والظهور" أو على المنصة، لينظروا فيه ويحكموا عليه ويقوموه.
ويبدو أن هذا المعنى كان في حاجة إلى وقت طويل ليبلغ مستوى النضج الاصطلاحي، لأن كلمة نص بالمعنى الذي تحيل فيه على نمط خاص من القول كانت وثيقة الارتباط بالنصين المقدسين: القرآن الكريم والحديث الشريف، وكانت تقتصر عليهما فحسبن جاء في المعجم الوسيط ضمن المادة نفسها: « ( …) النص صيغة الكلام الأصلية التي وردت من المؤلف، والنص مالا يحتمل إلا معنى واحدا أو لايحتمل التأويل، ومنه قولهم: لااجتهاد مع النص. وعن الأصوليين: النص هو الكتاب والسنة، والنص من الشيء منتهاه ومبلغ أقصاه، يقال نص الحديث: رفعه وأسنده إلى المحدث عنه.»[iii]
ومما لاشك فيه أن هذا التحديد للنص يتعارض جوهريا مع التصور الاصطلاحي الحديث لمفهوم النص؛ إذ إن كينونة النص وماهيته في الشعريات الحديثة تقوم على " الاجتهاد " وتنبني على التأويل وتعدد القراءات، فالنص الأدبي – طبعا- ليس له معنى واحدا وفريدا ، أو معنى مغلقا ومكتملا، فهذا الأمر يتعارض مع جوهره وطبيعته، ولكن له عدد غير محدود من التأويلات والمعاني الجديدة والمتجددة، وكلما تعددت معانيه وتجددت إلا وازدادت قيمته الجمالية والأدبية.
وليس معنى ذلك أن المعاجم العربية تفتقر إلى كلمة تعادل نظريا واصطلاحيا كلمة Texte الغربية، بل الأمر على العكس من ذلك، إذ ثم العديد من الكلمات التي تؤدي المعنى الذي تنطوي عليه كلمة Texte، فإذا كانت هذه الأخيرة تعني النص باعتباره بنية لغوية مركبة من عناصر أسلوبية ضمن نظام خاص من العلاقات البنيوية، فإنها تشير إلى أحد أبرز مشتقاتها ألا وهي textile  أي النسج، إذ النص بالمعنى السالف هو أساسا عملية نسج لمكوناته أو تركيب أو عقد أو تأليف أو نظم لها، وهذا ما يتطلب البحث في المعجم عن دلالات هذه الكلمات، لتبين التحديدات المفهومية التي تنطوي عليها والتي تحمل دلالات وتصورات جنينية أو مبكرة لمفهوم النص الأدبي في الشعريات الحديثة.
فبالنسبة إلى مادة " نسج " نقرأ في لسان العرب:  « النسج: ضم الشيء إلى الشيء، هذا هو الأصل(…) ونسج الحائك الثوب ينسجه وينسجه نسجا، من ذلك لأنه ضم السدى إلى اللحمة، وهو النساج، وحرفته النساجة(…) ونسج الكذاب الزور لفقه. ونسج الشاعر الشعر: نظمه. والشاعر ينسج الشعر ، والكذاب ينسج الزور(…).»[iv]
فالشاعر مثل النساج ، لأن عمله الشعري صناعة بالأساس يضم فيها الكلمات والتراكيب بعضها إلى بعضها، فينظمها بأسلوب شعري متماسك العناصر والمكونات، وقد كان هذا التصور الذي يعتبر الشعر صناعة تقوم على النسج راسخا عند العرب منذ البدايات الأولى لنشأة الشعرية العربية القديمة، وإذا كان هذا الأمر واضحا من إطلاق العرب قديما كلمات: " التأليف" و" العقد"و " النظم" على الشعر، فإنه يبدو بجلاء من قول أبي عثمان الجاحظ (ت 255هـ): « ( …) إنما الشعر صناعة، وضرب من النسج ، وجنس من التصوير.»[v]
تندرج أداة الحصر "إنما" في قول الجاحظ ضمن سياقي تدقيق ماهية الشعر وتحديد طبيعته؛ فالشعر ليس إلهاما لقوى غيبية أو عملا فنيا خارقا، ولكنه نشاط إبداعي بقوم على تحصيل مجموعة من الشروط الثقافية وامتلاك قدرات ذهنية وآليات تعبيرية ومهارات أسلوبية وذوقية تمكن الشاعر من نسج المكونات اللغوية والتصويرية لعمله الشعري على نحو متآلف ومتناسب.
ولاشك أن اعتبار الجاحظ الشعر ضربا من النسج ينم عن تصور نظري يقارب العمل الشعري من زاوية البنيات التركيبية والنظام العلائقي بين مكوناته اللغوية، وهو تصور يتقاطع في بعض جوانبه مع المفهوم الحديث للنص الأدبي الذي ينبني أساسا على استثمار الآليات التي أنتجتها اللسانيات، والتي تمكن من دراسة الأقوال اللغوية في كليتها، وضمن علاقاتها الداخلية.
وعلاوة على خاصيته اللغوية، تعتبر الكتابة شرطا رئيسا لتحديد ماهية النص، فحسب جون لي هود بين فالنص« هو الكائن الموجود أو العمل اللغوي المكتوب، فهو يمتلك استقلاله الذاتي، وذلك لأنه يبتدئ من نقطة معينة، وينتهي في نقطة معينة أخرى، وهو لكي يكون نصا، لابد له من وسيلة هي اللغة، وحتى يتميز عماهو غير نص،لابد أن يكون مكتوبا.»[vi]
يتبين من خلال هذا التعريف أن ثم فرقا بين المفهوم الحديث للنص عامة والنص الأدبي خاصة، والمفهوم العربي القديم للنص الذي لم يكن يعتبر الكتابة عنصرا جوهريا لتحديد ماهية النص الأدبي،نظرا لأن الثقافة العربية القديمة كانت تغلب عليها – خلال الجاهلية وصدر الإسلام- الشفاهية، فكانت النصوص تحفظ في الصدور بالدرجة الأولى.
وليس معنى ذلك إن الكتابة كانت غائبة كليا في تلك اللحظة، فالروايات التاريخية تؤكد أن العرب كانوا يعمدون أحيانا كثيرة- خلال الجاهلية والعصور الأولى للإسلام- إلى كتابة أشعارهم وتدوينها[vii]، ولكن المقصود بذلك القول إن الثقافة العربية القديمة كان لها تصور خاص للنص الأدبي يكرس مفهوما معينا للأدب، فقد كانت مقولة " النص الأدبي " تحيل إلى الشعر باعتباره " ديوان العرب"، ولكي يستحق قول منظوم صفة الشعرية، عليه أن يوافق المعايير الثقافية والقواعد الجمالية المتفق عليها، كأن تنتظم بنياته الشكلية على نسق أسلوبي خاص، وتتناسب مضامينه الدلالية مع الذوق الجمالي العام ويصدر عن كاتب له سلطة أدبية معترف بها أي مؤلف حجة ، حسب عبارة عبد الفتاح كيليطو، أما إذا خرق القول هذه الشروط، فستسحب عنه صفة النصية، ويصنف في إطار " اللانص" كما حدث مثلا بالنسبة إلى " ألف ليلة وليلة" و " الأزليات " التي لم يعترف بنصيتها ومن ثم قيمتها الأدبية إلا في مراحل متأخرة.[viii]
2-             مصطلح النص الأدبي:
الأدب هو بالدرجة الأولى نص تتحقق كينونته بواسطة نظام خاص من العلاقات اللغوية والأنماط التعبيرية. وإذا كان مصطلح النص يشير « إلى سلسلة مترابطة من مجاميع الجمل والملفوظات التي تشكل وحدة بفعل تماسكها للساني والدلالي»[ix]، فإنه يمثل «إشكالية معقدة وكبيرة في النقد الحديث، وذلك لأنه لم يعد يقتصر على دلالاته المعجمية والاصطلاحية المعروفة، بل راح يكتسب دلالات جديدة، ويتداخل مع عدد من المصطلحات المجاورة مثل مصطلحي الخطاب discoure  والعمل أو الأثر الأدبي Work[x]
وإذا كان المفهوم الحديث للنص عامة والنص  الأدبي خاصة قد تبلور بفضل الأبحاث الرائدة التي قدمتها اللسانيات المعاصرة بمختلف اتجاهاتهان فسيؤدي تباين طرائق تعامل تلك الاتجاهات ومقاربتها للبنيات اللغوية للنص إلى بروز تحديدات مفاهيمية متعددة له حاول كل واحد منها أن يركز على الجوانب والخصائص التي بدت مهمة في تصوره.
    2-1- مفهوم النص عند رومان ياكبسون:
يرى رومان ياكبسون أن تحديد النص الأدبي يتم انطلاقا من مجمل الصفات التي تشترك فيها جميع الأعمال الأدبية وتميزها عن سواها، وذلك عبر تحديد عنصر الأدبية فيها، إذ ان موضوع علم الأدب حسب قولته الشهيرة « ليس هو الأدب، بل الأدبية»[xi]، والمقصود بالأدبية مختلف المقومات والعناصر التي تجعل من عمل ما عملا أدبان وتتمثل أساسا في الخصائص البنيوية والوظائف الشعرية التي تميز مكوناته الصوتية والتركيبية والإيقاعية.
ويتحدد مفهوم ياكبسون  للنص الأدبي باعتباره رسالة انطلاقا من الوظائف الست التي يحددها للتواصل اللغوية وهي: الوظيفة الانفعالية وتتعلق بالمرسل، والوظيفة الافهامية وتتصل بالمرسل إليه، والوظيفة الاتصالية وترتبط بالقناة التي تتم عبرها الرسالة والوظيفة المرجعية وتهم السياق أو المرجع ، والوظيفة اللسانية الواصفة وتتعلق بسنن التخاطب، والوظيفة الشعرية وتركز على الرسالة بصفتها رسالة وعلى وسيلتها اللغوية في جميع مظاهرها ووجوهها[xii].
فحسب ياكبسون يبث المرسل رسالة إلى متلقي. وتتطلب الرسالة، حتى تحقق مهمتها، سياقا تحيل إليه وشفرة واتصالا[xiii]، وهذا مايتضح من خلال الخطاطة الآتية:
              سياق
             (مرجعية)
  مرسل                                           رسالة                                  مرسل إليه
        (انفعالية)                                        (شعرية)                                 (إفهامية)
 



                                                          اتصال
                                                          (انتباهية)
 
 


                                                           شفرة
                                                      (لسانية واصفة)
يشير ياكبسون، انطلاقا من تحليله لهذه الوظائف، إلى أن النص الأدبي خطاب مغاير للخطابات اللغوية الأخرى بالنظر إلى وظيفته الشعرية، لأنه لا يستهدف غاية تواصلية تروم الإخبار، وإنما هو "صياغة مقصودة لذاتها"، ذلك «أن الوظيفة الشعرية تقوم على لفت الانتباه إلى الرسالة بصفتها رسالة، والخيرة تكرر بانتظام وحدات متعادلة. ففي الشعر، مثلا، تتحول المقاطع أو النبرات إلى وحدات وزنية، ومن ثم، لم يعد الأمر يرتبط بنظم دلائل وحسب، وإنما بإبراز توازنات أو تعادلات في التسلسل المنطقي نفسه».
وإذا كان مفهوم ياكبسون للنص الأدبي يركز أساسا على تحديد مقوماته الأدبية، فإن جوليا كريستيفا لا تقف بالنص عند حدود انغلاقه الللغوي، واكتفائه بذاته البنيوية، بل تدرجه ضمن مشروعها السيميائي العام، وتنظر إليه في إطار علاقته بالإنسان والمجتمع والتاريخ بوصفها «نصوصا مرجعية لا يمكن للعمل الأدبي إلا ان يدخل معها في علاقة حوار وتناص intertextualité»[xiv].

2-2- مفهوم النص عند كريستيفا:
يتحدد مفهوم النص عند جوليا كريستيفا باعتباره جهازا يخرق اللغة، فيعيد توزيع نظامها عن طريق الربط بين كلام إبلاغي يروم الإعلام المباشر، وبين أنماط عديدة من الملفوظات السابقة عليه أو المتزامنة معه[xv]، الأمر الذي يعني أن النص – وكل نص ما – يمتص أجزاء من نصوص أخرى سابقة أو معاصرة ويستثمرها لحسابه، لتشتغل ضمن أفقه الأدبي الخاص.
فالنص عادة لا يتشكل من عدم، ولا يظهر من فراغ، وإنما ينجلي «في عالم مليء بالنصوص الأخرى، ومن ثمة فإنه يحاول الحلول محل هذه النصوص أو إزاحتها من مكانها. وخلال عملية الإحلال أو الإزاحة هذه، وهي عملية لا تبدأ بعد اكتمال النص، وإنما تبدأ منذ لحظات تخلق أجنته الأولى وتستمر بعد تبلوره واكتماله – قد يقع النص في ظل نص أو نصوص أخرى، وقد يتصارع مع بعضها. وقد يتمكن من الإجهاز على بعضها الآخر. وتترك جدليات الإحلال والإزاحة هذه بصماتها على النص...»[xvi].
يعتبر مفهوم التناص عنصرا مهما في تحديد ماهية النص الأدبي عند كريستيفا؛ إذ إن كينونة كل نص بصفة عامة، ونص أدبي بصفة خاصة تتحدد في تصورها من خلال تناصه او تعالقه مع ملفوظات سابقة؛ والتناص عند كريستيفا: «ترحال للنصوص وتداخل نصي، ففي فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى.»[xvii]، الأمر الذي يجيز القول «(...) إنه قانون جوهري» [xviii]في عملية البناء النصي، لأن كل النصوص «تتم صناعتها عبر امتصاص، وفي الآن نفسه عبر هدم النصوص الأخرى للفضاء المتداخل نصيا.»[xix].
ومن شأن هذا القول أن يضعنا أمام اتساع مجال الحقل التناصي، وذلك عبر الاهتمام بالنصوص المودعة في رحم نص مركزي ما، باعتبارها متضمنة لخطابات اجتماعية مختلفة ألوانها، مما يجعل التناص ليس مجرد وجود نص لاحق في علاقة مع نص سابق أو متزامن أعاد كتابته، بل يصبح علاقة بين كل ما يتشكل كنص وما هو خارج عنه، ومن هذا المنطلق يكتسب مفهوم النص مشروعية اتساع مجاله، ليشمل كل نتاجات الإنسان بصفتها دليلا أدلوجيا، يمكن تحليل ميكانيزماته بمفهوم التناص.[xx]
وبناء على ذلك، يتضح أن منتج النص لا يكتب تلقائيا من ذاته واعتمادا على فردانيته وطاقاته الإبداعية، ولكنه يستلهم -بوعي أو بدون وعي- وسائل أسلافه ،محولا الواقع من واقعيته ليعكسه على مستوى النص انعكاسا تغدو مرآته مكسورة، وهو في ذلك يوظف خريطة موروثه الثقافي والاجتماعي لأنه: «لافكاك للإنسان من شروطه الزمانية والمكانية ومحتوياتهما، ومن تاريخه الشخصي، أي من ذاكرته.»[xxi].
ويقوم النص الأدبي في تصور كريستيفا على أساس ثنائية النص الظاهر/النص التوليد: فالنص الظاهر لفظي يتمظهر من خلال المستويات الصوتية والتركيبية والدلالية؛ أما النص التوليد فيتم تكوينه من خلال عمليات الهدم والبناء والتحويل التي تلحق البنيات العميقة للملفوظات، بشكل يبرز إنتاجية الأثر وقابليته للقراءات المتعددة، مادام النص ملكا للجميع، وليس في مقدور أي كان ادعاء امتلاك حق تحديد معناه الأحادي الدقيق، وهو الأمر الذي نبه عليه رولان بارط.
2-3- مفهوم النص عند بارط:
يندرج توظيف رولان بارط لمصطلح النص الأدبي في سياق الرد على الاتجاه الكلاسي في النقد وتجاوز تصوره التقليدي للعمل الأدبي، ومن ثم يقوم مفهومه للنص الأدبي على اساس المقارنة بينه وبين مفهوم "العمل الأدبي"، وإبراز مزاياه وخصائصه مقارنة بهذا الأخير.
وفي هذا السياق لاحظ صبري حافظ أن مفهوم النص عند بارط تمخض عن إعادة نظره في العلاقات القائمة بين العمل الأدبي من جهة، والكاتب والقارئ والمؤلف من جهة أخرى، وقد أدى به ذلك إلى استنتاج أن الفرق بين مفهومي العمل والنص الأدبيين يعود إلى «أبعادهما المنهجية والشكلية والإشارية وعلاقتهما بمسألة الأصل والتعددية والمتعة والقراءة»[xxii].
فخلافا للعمل الأدبي، لا يعتبر النص شيئا ملموسا ومحددا، فهو يحتاج باستمرار إلى البرهنة عليه وتبينه باستمرار، لكونه «يبلور نفسه وفقا لمجموعة معينة من القواعد، إنه لا يوجد إلا في اللغة. فهو كتابة، نشاط، إنتاج، وهذا يعني أن النص يمكن أن يتجاوز العمل، أن يمتد عبر عدة أجزاء، وأن يتشكل في مراحل وصور وأشكال مختلفة»[xxiii]. كما أن النص الأدبي لا ينحصر ضمن التقسيمات المعروفة للأجناس الأدبية ولا يتقيد بالحدود القائمة بينها، لان ما يمكنه من الاستمرارية «قدرته على الإطاحة بكل التقسيمات السابقة عليه وتدميرها ومراوغتها (...) فالنص هو الذي يخترع الحدود، وهو الذي يجترحها ويعصف بها. إنه يؤسس نفسه فيما وراء الحدود المفروضة، ويعيد دائما تحديد ذاته من خلال هذا التجاوز المستمر، ومن خلال طاقته الفذة على الاستبعاد»[xxiv].
وعلى المستوى الدلالي يعد النص الأدبي إشارة مفتوحة على عدد غير متناه من المشيرات والمضامين، في حين «أن العمل الأدبي إشارة مغلقة على مشير قد يكون عرضة لعدد من التفسيرات المحدودة التي تتسم بالثبات كل مرة؛ بالانغلاق. إنها اللانهائية في مقابل المحدودية»[xxv]. ومن ثم، يكتسب النص الأدبي قيمته وخصوصيته من تنوع معانيه وانفتاحه على عدد غير متناه من القراءات والتأويلات، يقول بارط بهذا الصدد: «(...) إن تعريف الأثر الأدبي ذاته يتغير: فهو لم يعد واقعة تاريخية وإنما أصبح واقعة أنتروبولوجية نظرا لأن أي تاريخ لا يستنفذه، كما أن تنوع المعاني لا يترتب عن نظرة نسبية إلى العادات الإنسانية، ولا يدل على ميل المجتمع إلى الخطأ، وإنما يدل على استعداد الأثر الأدبي للانفتاح. وكون الأثر يمتلك في وقت واحد معاني متعددة، فذلك ناتج عن بنيته، وليس عن عطب في عقول من يقرؤونه»[xxvi].
فخلافا لتصورات النقد الكلاسي الذي توهم أن كل عمل أدبي ينطوي على معنى ثابت ومحدد، وأن مهمة الناقد تنحصر في اكتشافه وإبرازه وتفسيره، اعتبر رولان بارط أن النص الأدبي معطى غير مغلق أو مكتمل المعنى، وإنما هو نظام من العلامات والرموز الإيحائية المنفتحة والمتجددة التي توحي بمعاني مختلفة للإنسان الواحد، ذلك أن لكل نص عددا وافرا من المعاني، وان معانيه وتأويلاته تتعدد حسب تعدد قرائه واختلاف شروط قراءاته وسياقاتها التاريخية والمعرفية؛ إذ أن النص في تصوره «ليس موضوعا، ولكنه عمل واستخدام، وليس مجموعة من الإشارات المغلقة المحملة بمعنى يجب العثور عليه، ولكنه حجم من الآثار التي لا تكف عن الانتقال»[xxvii].
وانطلاقا من ذلك، أكد بارط أن من شروط تعدد معاني النص الأدبي وتنوع تأويلاته التخلص من سلطة المؤلف ووضع حد لتدخله في توجيه عملية قراءة النص وتحديد قصده، فالعلاقة – أي علاقة الأبوة – بين النص وصاحبه تنتهي بمجرد إخراجه إلى الناس وتقديمه للقراءة، إذ يوكل بعد ذلك أمر تحديد معناه إلى القراء، ويصبح من حقهم وحدهم تأويله وتفسيره، إلا أن «هذا لا يعني أنه لا يحق للمؤلف العودة إلى النص والتعليق عليه، ولكنه يفعل ذلك باعتباره ضيفا على النص كالآخرين. فالأنا التي كتبت النص ليست أنا حقيقية، وإنما انا ورقية.»[xxviii].
ومن الجدير بالملاحظة في هذا السياق أن التصور المفهومي للنص الأدبي لدى بارط يتقاطع مع شبكة من المفاهييم المركزية في نسقه النظري والمنهجي وينبني عليها كالنقد وعلم الأدب والقراءة، ومن ثم لن يتضح بجلاء مفهوم النص الأدبي عند بارط إلا في ضوء هذه المفاهيم. وإذا كانت السطور اللاحقة من هذا العمل ستتكفل بذلك، فمن الملائم الآن الوقوف عند مفهوم النص الأدبي عند تودوروف.
2-2-4- مفهوم النص الأدبي عند تودوروف:
يعتبر تزفطان تودوروف أحد أبرز النقاد الششكلانيين، وقد تميز تحديده لماهية النص الأدبي بالتركيز على نسقه اللغوي الفريد وبنياته الداخلية، يقول في هذا الإطار: «عن مفهوم النص لا يتموضع في نفس مستوى الجملة (أو العبارة أو المركب)، وبهذا وجب تمييز النص عن الفقرة التي هي وحدة مطبعية لمجموعة من الجمل (...) يتحدد النص باستقلاله وانغلاقه (...) وهو يشكل نسقا لا يجب مماثلته مع النسق اللغوي، بل يجب وضعه معه في علاقة تجاور وتشابه معا.»[xxix].
معنى ذلك، أن مفهوم النص في تصور تودوروف يتحدد انطلاقا من مبدأ انغلاقيته واكتفائه بذاته، إذ انه «صياغة تعبيرية مقصودة لذاتها، تتحقق بين مختلف عناصرها، علاقات انسجام وتناغم، تكسبها هوية جديدة، فيصبح النص حينها في مستوى خلق قوانينه الرمزية والإشارية الداخلية، بشكل يدفع إلى الاعتقاد بأنه مستقل تمام الاستقلال عن قوانين اللغة الطبيعية، وعن المتداول من مكوناتها الصوتية والنظمية والدلالية».[xxx]
إذا كان هذا التصور يحتم الاستغناء أثناء التحليل عن اعتماد المرجعية الخارجية للنص لكونها ذات طبيعة خارج لغوية، فإنه يلمح إلى المعيار الاساس الذي يميز النصوص الأدبية عن الخطابات العادية، إذ في تصور تودوروف يسمح الخطاب العادي للمتلقي بإدراك معناه بشكل مباشر دون أن ييكون هذا الخطاب قادرا على الانبناء بذاته في استقلال عن أيي سند معنوين في حين يكتفي الخطاب الأدبي بذاته، ويستوقف المتلقي بلغته وطريقة انتظام بنياته الصوتية والتركيبية والأسلوبية، لكونه لا يحيل على أي واقع مادي أو معطى خارجي، وإنما يحيل على ذاته ونسقه اللغوي وخصائصه التعبيرية[xxxi].
وتكمن أهمية هذه المقارنة بين الخطاب العادي والخطاب الأدبي في كونها تمثل مدخلا لطرح سؤال الأدبية.
3- الأدب والأدبية:
ظل الحديث عن المحددات النظرية والجمالية التي تمنح قولا ما صفة النصية وتجعل منه عملا أدبيا تقاطع مع سؤال أعم يتعلق بالمقومات الفنية والمعايير الجمالية والتداولية التي تجعل نصوصا معينة تنتقى – في حقبة تاريخية محددة وضمن سياقات ثقافية خاصة – وتتوج ادبا.
فمنذ البدايات الأولى للتفكير في الأدب اقترن التساؤل حول خصائصه الجمالية ومقوماته الفنية والأسلوبية بالبحث في محدداته الأدبية، فكانت تعتبر تلك المقومات والخصائص معايير للأدبية، وتشير الفقرة الأولى التي استهل بها أرسطو تنظيره للشعر إلى هذا الأمر، حيث يقول: «حديثثنا هذا في الشعر: حقيقته وأنواعه، والطابع الخاص بكل منها، وطريقة تأليف الحكاية حتى يكون الأثر الشعري جميلا.»[xxxii].
فجمالية الشعر في تصور أرسطو دليل على "أدبيته" أو على حقيقته باعتباره خطابا أدبيا، وتتولد أساسا من طبيعته الأسلوبية الخاصة، وشكل بنائه وتأليف عناصره.
وقد كان الجمال باعتباره خاصية تضفي على الكلام صفة الأدبية يتحدد انطلاقا من بعض المعايير والأحكام الذوقية والانطباعية، ذلك أن «معايرر اصطفاء الكلام وانتقائه والحفاظ عليه تبدو على صلة متينة بمعايير تقييم "الجمال" وتقديره، فهي جزء من كل يجسم نظرة الناس إلى الشيء الجميل وهذه النظرة في حاجة كذلك إلى أن يتناولها الباحثون بالدرس، فيجب ألا يغيب عنا أن الكلام الذي يختار إنما يختار لأنه "جميل" في نظر الناس الذين اختاروه. فالكلام الجميل إنما تفهم أسرار جماله في نظر الناس الذين اختاروه ضمن نظرتهم إلى الجمال وضمن معايير تقديره. وبالتالي فإن معرفة الباحث بنظرة الناس في عصر ما إلى الجمال شيء أساسي في فهم اختيارهم كلاما معينا وتتويجه أدبا.»
وتجدر الإشارة إلى ان مقولة الجمال لم تكن دائما ذات مقاييس ثابتة وموحدة عبر العصور، فقد كانت تختلاف المعايير والشروط الجمالية لتقييم الأدب من عصر ومن سياق ثقافي أو نظام اجتماعي إلى آخر. ويشهم تاريخ الأدب أن تم نصوصا كثيرة همشت في عصرها ولم يعترف بأدبيتها إلا في مراحل لاحقة، وبالمقابل هناك بعض النصوص التي منحت صفة الأدبية في عصرها، وحظيت بتقدير خاص، ونزعت عنها تلك الصفة فيما بعد.
ويدل تاريخ الشعريات القديمة على أن عنصر الجمال الذي يمنح النصوص صفة الأدبية ظل يقترن دائما ببعض المحددات والضوابط غير نصية، إذ هيمنت معايير وقيم أخلاقية ومذهبية (إيديولوجية) وتاريخية وعرقية في تحديد الأدبية. ففي الثقافة العربية مثلا كانت ثنائية الصدق والكذب أو الطبع والصنعة معيارا للتمييز بين الأقوال الشعرية ولتصنيفها ومنحها صفة الأدبية، كما لعبت الصراعات السياسية والمذهبية والعرقية دورا كبيرا في إقصاء العديد من النصوص وتهميشها، في حين عملت على فتح سبل التداول والانتشار أمام نصوص أخرى وتهميشها، في حين عملت على فتح سبل التداول والانتشار أمام نصوص أخرى لا يعارض أصحابها لسلطة الحاكمة.
وإضافة إلى ذلك، كان عنصر الزمن معيارا محددا للأدبية عند العرب قديما، فلم يكن يحتج اللغويون والعلماء الرواة بأشعار المحدثين، جاء عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: «لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت ان آمر فتياننا بروايته»، ويقول أبو الحسن الطوسي في السياق نفسه: «وجه بي أبي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعارا. وكنت معجبا بشعر ابي تمام: فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت عليه أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء بني هذيل:

فَظَنَّ أني جاهلُُ من جَهْله


وعاذلُُ عَذَلْتُهُ في عَذْله

حتى أتممتها فقالك اكتب لي هذه، فكتبتها له، ثم قلت أحسنة هي؟ فقال: ما سمعت أحسن منها. فقلت: إنها لأبي تمامن قال: خرق خرق».
يحدد عمرو بن العلاء معيارين لاصطفاء القول الشعري وانتقائه أولهما: بلوغه دررجة معينة من الحسن والجمال، وثانيهما: أن تكون لصاحبه قصائد أخرى كثيرة ذات قيمة فنية متميزة، فكما أن لا يعترف بشاعرية من ينظم قصيدة واحدة مهما بلغت من حسن وجمالن كذلك لا يستحق الشعر صفة "الشعرية" إلا إذا انطوى على بعض الخصائص الفنية المتميزة. بيد أن عمرو بن العلاء يضيف شرطا آخر للاعتراف للشعراء بالشاعرية، ومن ثم القبول باختيار نصوصهم وروايتها، ويتمثل في أن يكون شاعرا قديما، فلم يكن العلماء الرواة يقرون بشعرية اشعار المحدثين لكونهم تأخروا زمنيا عن عصر الشعراء الفحول الذين عاشوا في الجاهلية وصدر الإسلام، الأمر الذي أثر سلبا في لغتهم وأساليبهم الشعرية، يقول أبو سليمان محمد الخطابي في هذا الإطار: «صار العلماء لا يحتجون بشعر المحدثين ولا يستشهدون به كبشار بن برد والحسن بن هانئ ودعبل والعتابي وأحزابهم من فصحاء الشعراء والمتقدمين في صنعة الشعر ونجره. وإنما يرجعون في الاستشهاد إلى شعراء الجاهلية وإلى المخضرمين. وذلك لعلمهم بما دخل الكلام في الزمان المتأخر من الخلل والاستحالة عن رسمه الأول.»[xxxiii].
ولعل أبز مثال للدرجة التي بلغتها حدة التعصب للشعر القديم موقف ابن الأعرابي من شعر ابي تمام؛ فبعد أن أعجب به وانتقاه ضمن مختاراته الشعريةن تراجع كليا عن موقفه، ونقضه من أساسه بمجرد أن علم أنه لشاعر محدث.
وإذا كان تاريخ الشعر العربي القديم يبين ان الحكم على أدبية النصوص كان يتوسل بعدة معايير خارج نصية، فإن الأمر نفسه ينطبق على كل الآداب القديمة، إذ كانت الاعتبارات الأخلاقية والمذهبية والسياسية تتدخل في عملية الحكم على أدبية النصوص في الثقافات الأخرى، وقد ظل الأمر كذلك إلى العصر الحديث، حيث انبثق وعي نظري جديد يؤكد ضرورة القطع مع التأويلات الإيديولوجية أو العلموية التي تروم فرض معاني خاصة على النص الأدبي، والتي تحتكم في سياق تحليلها له إلى معايير وعناصر غير نصية، أو تقتصر على تحليل بعض جوانبه النصية لتأكيد طروحاتها وتصوراتها، ويعلن هذا الوعي النظري الجديد عن نفسه باسم الشعرية، يقول تودوروف محددا ماهيتها وخصائصها النظرية والمنهجية:
«وجاءت الشعرية فوضعت حدا للتوازي القائم على هذا النحو بين التأول والعلم في حقل الدراسات الأدبية. وهي بخلاف تأويل الأعمال النوعية، لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل إلى معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل عمل، ولكنها بخلاف هذه العلوم التي هي علم النفس وعلم الاجتماع (...) الخ، تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته».
تتحدد إذن الأهمية النظرية والمنهجية للشعرية في كونها تقطع الصلة مع كل صيغ الاقتراب من النص الأدبي التي تتعامل معه ليس بهدف فهمه، والإحاطة بالقوانين العامة التي تنظم تشكله، والخصائص النوعية التي تحدد أدبيته، وإنما تجعله مجرد "وثيقة" تؤكد بها تصوراتها وأطاريحها المسبقة، فتتعامل معه بمنطق انتقائي يحتفظ بالمكونات والعناصر التي تتفق مع منطلقاته النظرية وتدعمها، ويتخلص من تلك التي تتعارض معها أو لا تتفق معها كليا، الأمر الذي يجعلها تحيل باستمرار على خارج النص الأدبي، بدل ان تبقى داخله لتستكشف شعرية وجوهره التخييلي، وهذا ما يشير إليه جان كوهن في كتابه "بنية اللغة الشعرية"، حيث يقول:
«(...) عندما نعالج لغة الشاعر كما نعاج عرضا مرضيا او وثيقة، نخطئ ما يميزها، وهو الجمال. فليس للتحليل النفسي ولا لعلم الاجتماع ما يقولانه في مسألة خاصة بعالم الشعر، وهي ما وجه لاختلاف بين الشعر والنثر؟ فيمكن ان تكون استعارة ما علامة لهوس، ولكن ليس هذا هو مصدر شاعريتها، بل مصدرها هو كونها استعارة، أي طريقة للدلالة عن محتوى كان بالإمكان التعبير عنه بلغة مباشرة، دون ان يفقده ذلك شيئا من ذاته».
ومن ثمن لا تعنى "الشعرية" بتسمية معنى النص الأدبي وتحديده، إذ المعنى نتاج لضرب من التأويل ونوع من القراءة، ولذلك فهو يختلف باختلاف القراء وتعدد تأويلاتهم، ولكنها نششغل باستكشاف القوانين العامة التي تنظم تشكل كل عمل أدبي وإبرازها من خلال دراسة بنياته اللغوية وتحليل خصائصه الصوتية والتركيبية والأسلوبية، مادامت الشعرية خصيصة نصية. يقول تودوروف في هذا السياق:
«ليس العمل الأدبي في حد ذاته هو موضوع الشعرية، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي. وكل عمل عندئذ لا يعتبر إلا تجليا لبنية محددة وعامة، ليس العمل إلا إنجازا من إنجازاتها الممكنة. ولكل ذلك فإن هذا العلم لا يعنى بالأدب الحقيقي بل الأدب الممكن، وبعبارة أخرى يعنى بتلك الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي، أي الأدبية.».
ويمكن استعارة عبارة جان كوهن في هذا الإطار للقول إن الشعرية تعنى بدراسة البنية اللغوية للشعر، ومن ثم تنشغل بالبحث عن الأساس الموضوعي الذي يستند إليه تصنيف نص ما ضمن خانة النثر والشعر، وذلك من خلال التساؤل عن السمات التي تحضر في كل ما صنف ضمن "الشعر"، وتغيب في كل ما صنف ضمن "النثر".
وإذا كان تحديد "الشعرية" وفق هذا التصور يقتضي المقارنة بين الشعر والنثر، وبيان متى يصير نص ما شعرا ومتى يكون مجرد كلام منثور، فلا شك أنه ينطوي على صعوبة بالغة، لكون التغير المطرد لمفهوم الشعر في العصر الحديث، واتساع مجالات استعمال هذه الكلمة جعل من الصعب تحديد ماهية الشعر، خاصة مع ظهور كتابات نصية جديدة تمتع من النثر أساليبه وبنياته الشكلية، وتعلن انتماءها للشعر كما تشهد على ذلك القصائد النثرية.
وبالرغم من ذلك، فلاشك أن اعتبار الشعرية خصيصة نصية يروم التأكيد بالأساس أنها صفة كامنة في أسلوب النص الأدبي ومتحققة به؛ إذ "الشعرية هي علم الأسلوب الشعري" حسب عبارة جان كوهن، وهي تنتج بالدرجة الأولى عن انزياحه عن لغة النثر، وذلك من خلال طريقة اختياره للكلمات المفردة، وتأليفه لها ضمن نسق تركيبي ودلالي مميز يخضع لمنطق الإيحاء بدل أن يرتهن إلى وظيفة الإبلاغ الصرف الذي يطبع النثر.
فالكلمة كأصغر بنية دالة داخل النص الأدبي تمثل اول عنصر مكون لشعريته، لأنها حين تنتقل من مجالات استعمالها المختلفة وتوظف في العبارة الشعرية، تتجرد من كل معانيها المعتادة ووظائفها عن هوية دلالية جديدة وملامح إيحائية تنطوي على طاقات جمالية مخيلة، ولذلك فبمجرد ما تنعزل عن سياقها:
«تبدو راغبة في العيش بذاتها ولذاتها، وطالما لم يعد لها أي دور للإنجاز، فإنها تمتلئ بتعدد القيم التي لا توجد بينها ضرورة مباشرة للاختيار، والتي تجعل منها خزانا ضخما من الممكنات (...) ليست الدلالة هي التي تختفي بل "دقة" المدلول، ومن ثم سيصبح للكلمة "أكثر من معنى بقدر ما لها من وظائف"».
وبعبارة أخرى، ستنتقل الكلمة الشعرية من كونها وسيلة لأداء معنى معين لتصبح مقصودة لذاتها، ومن ثم ستظهر راغبة في التطهر والتخلص من كل الدلالات التي تحصرها ضمن مجالات تعبيرية محدودة، وستصير – داخل النسيج التخييلي للنص الشعري – اداة لتحرير الكلام، و«تجديد علاقات الإنسان مع ذاته ومع الآخرين ومع العالم»، وطريقة للكلام بأسلوب مغاير لقول أشياء مغايرة لم تُقل من قبل.
ولذلك لا يختار الشاعر من بين عدد وافر من المفردات المترادفة، إلا تلك التي تنطوي على طاقة إيحائية كبيرة، وتكون أكثر دقة وملاءمة للجملة الشعرية والبناء العام للنص، ليس على المستوى الدلالي فحسب، ولكن على المستوى الصوتي، الإيقاعي أيضا، ومن ثم كان يوجد – ومازال – لدى الأدباء المتميزين مبرر لا لكل كلمة فقط، ولكن لموقع كل كلمة أيضا.
كما يسهم التركيب من جانب آخر في تحديد شعرية النص وإثراء طاقته الإيحائية وقيمته الجمالية، وذلك من خلال طريقة نظم مقاطعه وترتيب مكوناته؛ إذ يستثمر الخصائص التعبيرية للكلمة الشعرية وطاقاتها الفنية، وينظمها في بنية علائقية تحفل بالكلمات المشابهة والمماثلة لها على مستوى وظيفتها الشعرية (التخييل)، لا من جهة وظيفتها الدلالية (التواصل)، ليصل في الأخير إلى مستوى تركيبي بديع يسهم بدوره في إثراء لاالطاقة الإيحائية للصور الشعرية، كما يسهم أيضا في تحريرها من الدلالات القارة والمحدودة التي تتساكن مع العالم ونظمه، وتؤدي المعاني ذاتها بلغة مباشرة ومألوفة.
وتتحدد الخصائص الجمالية التي تميز التركيب الشعري أساسا في ثرائه التخييلي وحركيته الدلالية وتفاعل مكوناته الأسلوبية؛ ذلك أن كل المكونات النصية في الشعر ترتبط ببعضها «وأن لا شيء بدون دلالة، وأن انبثاق معنى لا يمكن أن ينتج إلا عبر تقاطع شبكة من الدلالات. تقترح الصورة معناها الخاص في تبلر الصور التي تشيدها أو تؤسسها، غير أنها بدورها تعدل وتحرف بالصور التي تحيط بها والتي تجعلها تنحرف دون توقف وتقيدها بتحولات جديدة تجعل المعنى آتيا دوما (...) إن صورة لا تدل إلا عبر صور أخرى تتبادل معها التشكيل، وعبر تحولاتها المترابطة، وكذا عبر تركيب كامل لهذه التقاطعات وهذه التحولات.».
بناء على ذلك، لا تكتسب الصورة الشعرية – باعتبارها أحد المحددات الجوهرية الأدبية – قيمتها الجمالية إلا في اللحظة التي تقيم فيها داخل نسيجها النصي، فتندمج ضمن علاقات متماسكة ومتفاعلة بين مختلف مكوناته اللغوية والتخييلية، وتستجيب في علاقات متماسكة ومتفاعلة بين مختلف موكناته اللغوية والتخييلية، وتستجيب في ذلك للمنطق الفني للشعر الذي يظل منشدا باستمرار إلى المعاني المتجددة والعوالم العجيبة والمفاجئة، «المعطى الشعري يظل مجرى وسيرورة أكثر مما هو بنيات، لأنه تفرد دلالي متوالد باستمرار».
إذا كانت الشعرية تروم التنبيه - انطلاقا مما سبق – على أن النص يكتسب قيمته الأدبية بالنظر إلى طريقة انتظام بنياته اللغوية والتركيبية وتفاعلها مع السياق الأسسلوبي العام، فإنها تؤكد – إلى جانب ذلك – أنه لابد أن تتكاثف صوره الفنية فيما بينها وتتماثل على مستوى القيمة التخييلية والوظيفة الشعرية، وتتناسب مع مختلف العناصر اللغوية والخصائص الإيقاعية للنص الشعري، لتسهم في إنتاج أدبيته.
وعلاوة على المستويين اللفظي والتركيبي، تتحقق شعرية النصص على المستوى الدلالي كذلك، إذ الأدب – كما سبق القول – خطاب تعبيري يشكل عوالم فنية ورؤى تخييلية تنطوي على إيحاءات دلالية جديدة وجميلة، تنزاح عن المألوف وتخرق المتداول. وقد حظيت الصور الأدبية في الشعريات الحديثة بعناية بالغة، لكونها تمثل مكونا جوهريا للشعرية وعلامة دالة عليها.
ولذلك، تدعو الشعرية إلى تأمل أشكال انبناء الصور وتحليل سياقات ظهورها، وتتبع توالي إيقاعاتها وتنوعها ضمن النسيج التخييلي للنص الشعري، ومن ثم «النظر كيف أن الصورة، منفلتة باستمرار من كل دلالة ومحلية دائما على شيء آخر، تهيء أو تسهم في تهييء واقع آخر غير ذاك الذي كان من المفروض أن يمثله الكلام.».
معنى ذلك أن الصورة الشعرية تمكن من عيش واقع آخر لا يمكن للإنسان أن يعيشه بدونها، لكونها تهب فرصة نادرة للنظر إلى أشياء مغايرة بكيفية مغايرة أيضا، وترقى باللغة إلى اللحظة التي تكف فيها «عن قول الأشياء نفسها وتوشح بالواقعية ما يستعصي على القول.».
كما ان الصورة الشعرية لا تصنع ولا ينحصر متخيلها ضمن معنى ثابت ومكتمل الدلالة، بل إنها تتحرر وتنفلت باستمرار من كل محاولة لضبط دلالتها وتصنيفها، ويظل عالمها التخييلي في حال تكون متواصل بالنسبة إلى مبدعها وقارئها على حد سواء، وكل شيء يحدث فيها كما لو كانت تقع دائما أمام ما تقول، لأنها تحمل أكثر من منطوقها وتحيل على أبعد من موضوعها، ولأن العالم تقع الذي تشكله وتوحي به يظل غائبا وسريا وفي حال انفلات وتكون دائمين، ثم لأنها تخرجنا من منطوقها وتذهب بنا إلى خارج كل ما وجد قبلا.
وإذا كان هذا الأمر يعني أن لا مجال لربط العوالم الفنية التي تنطوي عليها الصور الشعرية خاصة ويشكلها النص الأدبي عامة بالأشياء والمعطيات المادية في الواقع المرئي، فإنه يحسم بصورة مطلقة مع أي خطاب يحكم على النص انطلاقا من درجة صدقه أو "كذبه" (خطئه) في نقل "الحقيقة"، لأن حكما من هذا القبيل يتعارض مع جوهر الأدب وحقيقته ألا وهي التخييل. يقول تودوروف في هذا الإطار: «القول بن النص الأدبي يعود إلى واقع ما وبأن هذا الواقع يمثل مرجعه يعني أننا نقيم بالفعل علاقة صدق بينهمان وأننا نخول لأنفسنا إخضاع الخطاب الأدبي إلى امتحان الحقيقة، أي سلطة الحكم عليه بالصحة أو الخطإ (...) وقد دحض المنطق الحديث (...) بشكل معين هذا الحكم. فليس الأدب كلاما يمكن، أو يجب، أن يكون خاطئا بخلاف كلام العلوم. إنه الكلام الذي يستعصي على امتحان الصدق. لا هو بالحق ولا هو بالباطل. ولا معنى لطرح هذا السؤال. فذلك ما يحدد منزلته أساسا من حيث هو "تخيل"...».
وجملة القول، إذا كانت الشعرية تمثل – في سيرورة الدراسات الأدبية – محاولة لفهم الظاهرة الأدبية وتحديد مقوماتها الفنية وقوانينها الجمالية، فإنها تؤشر على إحدى اللحظات البارزة والمتقدمة في تطور النقد الأدبي، والتي ينشد عبرها الرقي بخطابه وآليات اشتغاله إلى أقصى درجة ممكنة من العلمية والدقة المنهجية.
4- النقد الأدبي:
تتكون عبارة "النقد الأدبي" من مكونين لفظين "النقد" من جهة و"الأدب" من جهة أخرى، الأمر الذي ينم على أن الأول خطاب يجعل من الثاني موضوعا له. فما معنى النقد لغة واصطلاحا؟ وما طبيعة علاقته بالأدب؟ وما أسسه النظرية وآلياته المنهجية؟
4-1- النقدية لغة:
يستشف من المعاجم اللغوية أن الاستعمالات العربية الأولى لكلمة نقد كان يهيمن عليها معنى عام؛ هو: تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، جاء في معجم ابن منظور: لسان العرب: «النقد: خلاف النسيئة، والنقد والتَّنْقاد : تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، أنشد سيبويه:
نفيَ الدنانير تَنْقاد ا لصياريف


تنفي يداها الحصى في كل هاجرة

(...) وقد نقدها ينقدها نقدا وانتقدها وتنقدها ونقده إياها نقدا: أعطاه فانتقدها، أي قبضها، الليث: النقد تمييز الدراهم وإعطاؤها إنسانا، وأخذها الانتقاد، والنقد مصدر نقدته دراهمه. ونقدته الدراهم ونقدت له الدراهم أي أعطيته فانتقدها، أي قبضها. ونقدت الدراهم وانتقدتها إذا أخرجت منها الزيف (...) وناقدت فلانا إذا ناقشته في الأمر (...) ونقد بإصبعه، أي نقر. ونقد الرجل الشيء بنظره ينقده نقدا ونقد إليه: اختلس النظر نحو. ومازال فلان ينقد بصره إلى الشيء إذ لم يزل ينظر إليه. والإنسان ينقد الشيء بعينه، وهو مخالسة النظر لئلا يفطن له. وفي حديث أبي الدرداء أنه قال: إذا نقدت الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك؛ معنى نقدتهم، أي عبتهم واغتبتهم قابلوك بمثله، وهو من قولهم نقدتُ رأسه باصبعي: أي ضربته (...)».
يستشف من هذا النص أن الاستعمالات اللغوية الأولى لكلمة نقد عند العرب تدل على معاني متعددة، أبرزها: تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، مناقشة إنسان في أمر، النقر بالأصبع بحثا عن شيء ، اختلاس النظر نحوس شيء محدد، ذكر الناس بالعيب.
وبالرغم من أن استعمال كلمة نقد عند العرب ظل ينحصر – على الأقل إلى حدود بداية القرن الثالث الهجري – ضمن هذه التعريفات الدلالية العامة، إلا أن تحديداتها تكتسي – مع ذلك – أهمية خاصة، لكونها تنم عن قابليتها للتطور والنضج الاصطلاحي، وهذا ما سيتحقق فعلا في مرحلة لاحقة، إذ ستنقل تلك الدلالات من سياقاتها اللغوية العامة إلى مجال الأدب، فيصبح لكلمة نقد معنى جديدا، يشير إلى تمييز جيد النصوص الأدبية عن رديئها.
4-2- النقد اصطلاحا:
مثلما تعددت تعريفات الأدب واختلفت على مر العصور التاريخية وبحسب السياقات الثقافية والاتجاهات النظرية، تنوعت كذلك تعريفات النقد، فقد بدأ استخدام هذه الكلمة في أوربا بمعناها الحديث في القرن السابع عشر، إلا أن الأفكار التي تتضمنها انتشرت في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد.
ومن بين أبرز التعريفات التي تقترح للنقد قول نجيب فايق أنداروس في كتابه: "المدخل في النقد الأدبي": «النقد الأدبي هو التقييم الواعي لعمل أدبي معين سواء أكان هذا التقييم مبنيا على الذوق الشخصي للناقد، أو على بعض لقواعد الجمالية المحددة».
يشدد هذا التعريف على "الوعي" بصفته شرطا هاما لاعتبار عمبلية تقييم الأعمال الأدبية فعلا نقديا، فالفعل القصدي للحكم على نصص أدبي معين هو ما يجعل منه نقدا، ويميزه – من ثم – عن الأحكام والآراء العرضية التي تبدي موقفا من عمل أدبي، دون أن تستهدف تقويمه والحكم عليه.
ويلاحظ في التعريف الذي بين أيدينا أن صاحبه يميز بين نوعين من النقد: ينبني الأول على الذوق الشخصي للناقد، ويقوم الثاني على بعض التصورات النظرية والآليات المنهجية والتحليلية الدقيقة. ولا شك أن هذا الأمر يطرح عدة تساؤلات، من بينها مثلا: ما حدود العلمية والموضوعية في الخطاب النقدي الذي يقوم على معايير الذوق الشخصي والأحكام الانطباعية الخاصة؟ وهل يمكن للناقد – أثناء دراسته لعمل أدبي – أن يتخلص من ذاتيته وأذواقه الشخصية، فيحلله بموضوعية وتجرد؟ وإذا أمكنه ذلك فإلى أية حدود؟ وقبل ذلك متى نشأ النقد؟ هل نشأ مع الأدب وظهرا في لحظة واحدة؟ أم أنه أتى في مرحلة لاحقة لظهور الأدب؟ وما نوع علاقته بالأدب؟ ثم ما طبيعة علاقته بالعلوم الإنسانية؟

4-3- النقد: نشأته وعلاقته بالأدب
النقد خطاب واصف للأدب، إذ يأتي عقبه ليحلله ويدرسه ويبين مواطن الجمال فيه، مما يعني أن النقد ليس قائما بذاته، وأنه يتأخر زمنيا ومنطقيا عن الأدب، فمن الممكن ان تتصور – نظريا على الأقل – ادبا بدون نقد، بيد أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل تصور نقد بدون أدب.
وبالرغم من بداهة هذه العلاقة التراتبية بين النقد والأدب، إلا أن تعميق النظر فيها يبين أن أسبقية الأدب على النقد ليست مطلقة، فتاريخ النقد الأدبي سواء عند اليونان ام عند  العرب يششهد أن الحطاب حول الأدب ينشأ مع نشأة الأدب نفسه، ويمكن العثور على النماذج الأولى لذلك في مقاطع من فيداس أو هوميروس، كما أن العملية الإبداعية ذاتها تبين أن المبدع يظل أول ناقد لعمله، يقول تيسير شيخ الأرض في هذا الإطار: «مبدع الأدب ليس مجرد مبدع له؛ بل هو متذوق له وناقد أيضا: إنه متذوق وناقد له بالقوة وهو يبدعه؛ ولولا ذلك لما تمكن من تحقيق عمل أدبي يتميز بالإبداع؛ ولعجزنا أن نفهم لماذا يقوم في أثناء عمله، بالتغيير والتبديل، فيحذف شيئا ويضيف شيئا آخر، يقدم ما كان متأخرا، ويؤخر ما كان متقدما؛ يستبدل كلمة بكلمة، او جملة بجملة، أو فقرة بفقرة، وأحيانا يمزق ما كتبه ويعاود الكتابة من جديد».
يمكن التمييز في العملية الإبداعية بين لحظتين ذهنيتين: الأولة إبداعية خالصة، والثاني إبداعية ونقدية معا، ففي اللحظة الأولى تهيمن قوى الخيال الذهني على وعي المبدع وتوجه عمليته الإبداعية؛ أما في اللحظة الثانية فتعمل إلى جانب قواه الخيالية قوى فكرية أخرى، تقوم العملية الإبداعية وتوجهها؛ ذلك أن المبدع يفصل في هذه اللحظة عن أناه التخيلية الأولى "أنا" تخيلية أخرى تقوم – من زاوية التلقي – عمله الأدبي وتنقحه.
وإذا كان هذا الأمر يعني أن العلاقة بين النقد والأدب علاقة تلازم وتكامل، فإنه لا يعني بالمرة أنهما خطابان متماثلان أو أنه يمكن الاستغناء عن أحدهما لصالح الآخر، فلكل واحد منهما مميزاته الأسلوبية والوظيفة، فالأدب خطاب جمالي مغرق في الذاتية ويخاطب الخيال والوجدان، ويروم تأدية وظيفة فنية خالصة تقدم المتعة واللذة للمتلقي، في حين أن النقد خطاب فكري ينشد العلمية، ويحاول التجرد – ما أمكن – من الذاتية، ولذلك يتقيد بأسس نظرية وآليات منهجية دقيقة ومحدودة كما أنه لا يخاطب الخيال وإنما الفكر، ولا تنحصر غايته في تقديم المتعة، ولكنه ينششغل بإنتاج المعرفة، الأمر الذي يؤكد في النهاية أن النقد والأدب خطابان متمايزان بالرغم من بعض نقط التشابه والتقاطع بينهما. وهذاما يشير إليه رينيه ويليك في قوله: «(...) ومع ذلك فإنني لا أؤمن بان الناقد فنان، او ان النقد فن (بالمعنى الحديث الضيق). ذلك أن هدف النقد هو المعرفة الفكرية. وهو لا يخلق عالما خياليا مختلفا كعالم الشعراء أو الموسيقى. بل هو معرفة فكرية، او يهدف إلى التوصل إلى مثل تلك المعرفة. ولابد له في النهاية من أن يهدف إلى التوصل إلى معرفة منظمة تخص الأدب، أي إلى  نظرية الأدب».
وفي كتابه: نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر حصر محمد الدغمومي عناصر الاختلاف بين الأدب والنقد وحددها في ثماني نقط، هي:
1- «الأدب لا يوجد فرضيا دون نقد، لأن ما يحتاجه بالأساس هو القراءة، فهو موجود من خلالها، وهي التي تستجيب له وإن لم تعبر عن نفسها كتابة؛
2- إن الأدب بذاته نقد ضمني لنفسه، بحيث يختار كل نص موقفا من النص السابق وإن لم يصرح بذلك، أي بقيمة الأدب السابق؛
3-   إن مجال الأدب هو مجال الخطاطات اللاواعية من منظور تكويني: تكون الأدب؛
4-   أما النقد، فهو مشروط بوجود الأدب لكنه مستقل عنه بصفته ترجمة مفهومية له؛
5-   إن النقد معرفة واعية بمقاصدها ورغباتها وموضوعاتها (عكس الأدب)؛
6-   إن النقد له حاجان ومواقف مصرح بها (عكس الأدب أيضا)؛
7-   إن النقد نتاج بعدي دائما؛
8- إن النقد نتاج مركب، يصنع للأدب صورا تجرد هذا الأدب وتنقله إلى مستوى "النموذج" أو تشرح هذا الأدب بإعطائه غطاء ثقافية أو معرفيا أو أخلاقيا».
ومن جانب آخر، تثير العلاقة بين النقد والأدب سؤالا آخر يتعلق بطبيعة التفاعل وحدود التأثير والتأثر بين نمطين مختلفين من النظام، فإذا كان النقد يسعى إلى تحقيق أكبر درجة ممكنة من العلمية والموضوعيةن ويتوسل لذلك بـ «معايير موثقة ومدعمة بأوسع قدر من المعرفة، وأكبر قدر من الملاحظة الممحصة ومن الحساسية المرهفة، ومن التجرد في الحكم»، فإنه يظل – مع ذلك – مرتبطا بخطاب مغاير مغرق في الذاتية وينبني على الأهواء والأذواق الخاصة، ويتحدد جوهره الجمالي في كونه دائم الانفلات ويستعصي على الضبط والتحديد. ولذلك يجد النقد نفسه إزاء هذا الكائن اللغوي، الذي هو الأدب، في حالة تحدي مستمر لخطابه وآلياته، لأن تحليلاته ومقارباته تظل عاجزة عن الإحاطة بكل جوانب الظاهرة الأدبية وخباياها مهما حرص على ذلك.
وسعيا إلى التغلب على هذا الإشكال، وبالنظر إلى أن الأدب اساسا نتاج ثقافي يرتبط بالإنسان ويعبر عنه، انفتح النقد الأدبي على العلوم الإنسانية وحاول استثمار آلياتها وتوظيف تصوراتها ومفاهيمها ومناهجها. إلا أن ذلك خلق له إشكالا آخر، إذ دلت استعارة النقد لمناهجه ونظرياته من علوم أخرى على عجزه عن وضع وابتكار قواعد وقوانين خاصة به، يشتغل بها وحده ولا يستعيرها من العلوم الإنسانية و كشفت من ثم، كما يقول محمد الدغمومي: «أن "الدراسة" الأدبية حتى الآن لا تستطيع أن تزعم أنها "دراسة" واضحة المعالم، ولو في صورتها الموصوفة بالأكاديمية. فهي إما أن تكون دراسة ملحقة بعلم، مثل التاريخ او علم الاجتماع او علم النفس؛ وإما أن تكون مجرد نقد يستعمل بعض مبادئ المنهج».
4-4- أسس النقد الأدبي:
ينم تاريخ النقد الأدبي عن أن بداياته الأولى تتصف بهيمنة الأحكام الذوقية والانطباعية، إذا كان يتم الاكتفاء في الحكم على نص ما بالقول إنه جيد وجميل أو رديء دون أن يحلل هذا الحكم ويبرر على نحو علمي واضح ودقيق، وقد ظل هذا الاتجاه مسيطرا على حركة دراسة الأدب زمنا طويلا إلى أن انبثق وعي نظري جديد يؤكد ضرورة تعليل الأحكام وتفسيرها.
ويلاحظ أن حركة النقد الأدبي خلال العصور الكلاسية اتخذت منحى عاما؛ إذ كان يتم التركيز في دراسة العمل الأدبي على السيرة الشخصية لصاحبه باعتبار ذلك مدخلا لفهم قصده ورسالته، فلم يكن النقاد يتصورون آنذاك ان من الممكن تقويم نص أدبي والحكم عليه قبل فهم الدوافع الشخصية والنفسية التي دفعت صاحبه إلى كتابته وإبرازها، ودون شرح مضامينه الدلالية. ويتبدى هذا المفهوم للنقد في قول سانت بوف: «أريد أن يكون بمقدور هذه الدراسات الأدبية يوما ما أن تشيد تصنيفا»، وكذلك قول فردينان برونتيير: «موضوع النقد الحكم على الأعمال الأدبية وتصنيفها وتفسيرها».
لقد انبنى النقد التقليدي ضمنيا على بداهتين: قوام البداهة الأولى النظر في الأثر الأدبي بصفته انعكاسا للوسط ولشخصية الكاتب اللذان يمكن اكشتافهما عبر المناهج التاريخية؛ وقوام البداهة الثانية لاعتقاد بأن الكاتب يعبر عما يبغي قوله. وبهذا الشكل تسمح دراسة وسائل التعبير عند الفنان بإضاءة شخصيته، وتكون الشفافية تامة بين حرفية النص ومقاصد الكاتب.
من هذا المنطلق يعتقد النقد التقليدي أن النص الأدبي ينطوي على معنى واحد وثابت يمثل القصد الحقيقي لكاتبه، وتقوم مهمة الناقد على التوسط بينه وبين قرائه لكشف هذا المعنى وتحديده، ومن ثم بيان فحوى الرسالة التي أراد الكاتب تبليغها لقرائه. وإذا كان رواد هذا الاتجاه النقدي يبنون تحليلاتهم وشروحاتهم للنصوص الأدبية على دراسة السير الشخصية لكتابها، فلأنهم يتصورون أن النص يعبر ضرورة عن ذات صاحبه.
وقد أظهرت الدراسات الحديثة التي دشنها رواد النقد الجديد زيف هذا الادعاء وبطلانه، فمادام هناك قراء وسياق ثقافي للقراءة، إلا وتتنوع معاني النص وتنفتح على عدد هائل من التأويلات، يقول رولان بارط بهذا الخصوص: «(...) الأثر ينطوي على معاني متعددة. إن كل عصر يمكن أن يعتقد فعلا بأنه يمتلك المعنى الأصولي للأثر، لكن يكفي أن يوسع التاريخ قليلا حتى يتحول هذا المعنى المفرد إلى معنى جمع، والأثر المغلق إلى أثر مفتوح (...) وكون الأثر يمتلك في وقت واحد معاني متعددة، فذلك ناتج عن بنيته، وليس عن عطب في عقول من يقرؤونه.».
يؤكد بارط هنا أن النص الأدبي لا يحمل في ذاته أي معنى ثابت وحقيقي وفريدن ولكن القارئ هو من يكشف هذا المعنى ويحدده، وبقدر ما تختلف قراءاته ويتعدد قراؤه، إلا وتتنوع معانيه وتكثر، فكل قراءة تظل محكومة بزمنها الثقافي وتتأثر بالانتماء الإيديولوجي لصاحبها، ولذلك توحي بعض النصوص بمعاني مختلفة وأحيانا متعارضة من ناقد إلى آخر ومن حقبة تاريخية إلى أخرى. ولا مجال لرد هذا التنوع والتعدد إلى سوء فهم النصوص أو إلى عجز عن إدراك "مضمونها" لأنه ناتج عن بنية النص نفسها التي تنفتح وتدعو إلى قراءات متعددة وتاويلات متنوعة، وفي رأي بارط أن وحدها النصوص الخصبة والمتميزة هي التي تتعدد قراءاتها وتخلد عبر التاريخ، يقول معبرا عن ذلك: «إن الأثر لا "يخلد" لكونه فرض معنى وحيدا على أناس مختلفين، وإنما لكونه يوحي بمعاني مختلفة لإنسان وحيدن يتكلم دائما اللغة الرمزية نفسها خلال أزمنة متعددة: فالأثر يقترح والإنسان يدبر.».
من هذا المنطلق يصبح لمفهوم النقد معنى آخر يتجاوز الفهم التقليدي الذي كان يحصرها في الشرح والتفسير والضبط والتقييم، إذ ليس من مهمة الناقد، حسب بارط، فرض معنى على الأثر، ورفض المعاني الأخرى، ولكن المطلوب منه أن يكون كاتبا بمعنى الحقيقةن أي كاتبا منتجا للمعنى، ويتم ذلك عبر إنجاز كتابة ثانية بواسطة الكتابة الأولى النص الأدبي، يكشف من خلالها الجوهر الحركي للنص الأدبي الذي يجعله منفتحا على عدد غير متناهي من المعاني والصور الجديدة والمفاجئة. يقول بارط محددا هذا لمفهوم الجديد للنقد:
«(...) النقد (...) منتج معنى على عكس (علم الأدب الذي يعالج المعاني فقط) «إنه يعوم فوق لغة الأثر الأدبي لغة ثانية». وحينما يصل إلى صياغة معنى فإنما يعمل على فتح المجال «أمام إزهار جديد للمعاني»، إزهار غير عشوائي بل مضبوط بالنظام الرمزي العام الذي يوحد الأثر في إطاره. على أن ما يميز الناقد عن القارئ هو استعمال الأول لوسيط مخوف هو الكتابة، بينما لا يرتبط الثاني بالأثر إلا في علاقة شهوة.».
وبعبارة أخرى، لم يعد لنقاد يطمح أثناء دراسته للنص الأدبي إلى شرحه وتفسيره للعثور على "معناه العميق والوحيد"، فقد صار أكثر اقتناعا أن قراءتين اثنتين لعمل واحـــد لا يمكن أن تكونا متماثلتين، إذ إن الإنسان يعمل وهو يقرأ على إنشاء كتابة مخفية، فهو يضيف أو يحذف ما يريد أو لا يريد العثور عليه في النص، فما إن يوجد قارئ، كما يقول تودوروف، حتى تبتعد القراءة عن النص، ولذلك فطموحه أصبح منشدا إلى إنتاج قراءة انتشائية بالعمل الأدبي، تقيم معه علاقة عشق وشهوة، «فأن نقرأ معناه ان نشتهي الأثر وأن نرغب في أن نكونه»، بحيث كلما تلذذ القارئ بقراءة النص وانتشى بمعنى من المعاني التي اكتشفها فيه، إلا واستشعر رغبة جامحة في العودة إليه مرة أخرى لاكتشاف معنى مغاير، وللتلذذ والانتشاء به من جديد، مادام عالم النص ينفتح على عدد غير متناهي من المعاني والتأويلات الجديدة والمتجددة.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق