الأربعاء، 10 نوفمبر 2010

العصر الأموي والبيئات الشعرية



يتحدد العصر الأموي في الفترة الممتدة من 41 هجرية إلى 132 هجرية، وقد تمخض هذا العصر عن تحولات كبيرة وعاصفة ميزت حياة المسلمين، فبعد مقتل عثمان(ض) وُلِّيَ علي كرم الله وجهه الخلافة، فنشبت بينه وبين السيدة عائشة وطلحة والزبير موقعة الجمل، ثم نشبت معركة صفين بينه وبين معاوية ، وكان التحكيم، فخرج جمع كبير من جيشه ثائرين ضده، ولم يلبث أن قُتِل، فتحولت الخلافة إلى معاوية وبيته الأموي، وأصبحت وراثية في هذا البيت، وكان الأمويون في نظر كثيرين لا يمثلون الحكام الجديرين بالدولة الإسلامية، لأنهم عادَوُا الإسلام في أول ظهوره ، وبذلك كانوا يُعَدون مغتصبين للخلافة . وزاد في الغضب عليهم أن سيرة يزيد بن معاوية وابن أخته يزيد بن عبد الملك وابنه الوليد لم تكن مرضية. وأيضا فإن عمالهم(الحجاج مثلا) ظلموا الناس كثيرا [شوقي ضيف،144.]
وخلال عصر بني أمية، توزع الشعر بين ثلاث بيئات شعرية، هي: الحجاز، الشام، العراق، وقد تميزت كل بيئة من البيئات الثلاث بهيمنة نوع شعري خاص بها، ذلك أن بيئة الشام اشتهرت بهمينة شعر المدح، بينما اشتهرت بيئة  العراق بالشعر السياسي وانتشار شعر النقائض، أما بيئة بيئة الحجاز فعرفت انتشار شعر الغزل الفاحش في حين انتشر شعر الغزل العذري في باديتها.
      وتتوزع بيئة الحجاز  بين ثلاث حواضر كبرى، هي: مكة والمدينة والطائف، وهي حواضر عرفت انتشار الرفاهية والنعيم بسبب الثراء الواسع الذي «خلَّفَه فيها الصحابة الأولون لأبنائهم من أموال، جلبوها من الفتوح (...) وطبيعي أن يكثر في هذا المجتمع المتحضر المترف الشبابُ العاطل الذي يريد أن يقطع أوقات فراغه الطويل في لهو بريء ، وسرعان ما قدم له الرقيق الجنبي ما يريد من هذا اللهو، إذ عني بالغناء عناية بالغة(...) فنهضت المدينة في هذا العصر بفن الغناء نهضة واسعة، وشاركتها في ذلك مكة (...) وفي هذا الجو الرقيق الذي زخر بالغناء والمرح نهض الشعر في المدينة نهضة واسعة. وقد تعاونت على هذه النهضة عناصر كثيرة من الأنصار وممن هاجر إليهم من قريش وغيرهم وممن تعرب في بلدتهم من الموالي وأبنائهم تعربا تاما» [شوقي ضيف،141-143.]
      وقد تميز الشعر بالمدينة بطغيان موضوعة الحب ، وكان بذلك ينسجم مع الجو العام السائد فيها، ويغذي حياة الترف عند شبابها، وينسجم مع شيوع فن الغناء ؛ أما المديح والهجاء فلم يكونا غالبين على الشعر والشعراء «وفي الحق أن من يبحث عن هذين اللونين ينبغي أن يتجه ببصره إلى العراق أو إلى الشام، أما في المدينة فكانا يسقطان على هامش شعر الغزل الذي كان يتفق وترف البيئة ، والذي كان يطلبه المغنون والمغنيات ليضعوا فيه أغانيهم الجديدة»  [نفسه،144.]
     ولا يقتصر الأمر على المدينة، بل إن الشيء نفسه يسري على مكة؛ إذ تتطابق معها في كل مظاهر الحياة والحضارة وفن الغناء الجديد، وما اتصل بذلك من شيوع شعر الحب والغزل. وكانت مثلها تغرق في ثراء واسع ورثه الشباب عن آبائهم، وقد ورثوا عنهم ثروات كثيرة في الجاهلية، انضافت إليها أموال الفتوح الإسلامية، وما فرض لأهلها من أعطيات ورواتب في دواوين الخلافة وما قسم فيهم الأمويون دائما من أموال، وكان الحج يُفيءُ عليهم كل سنة بما يسدُّ خَلَّة كل محتاج.
أما بيئة العراق فتضم حاضرتين هما: الكوفة والبصرة، وقد كانت الكوفة موطن التشيع؛ إذ اتخذها علي بن أبي طالب موطنا له حين ذهب إلى حرب الخارجين عليه قبل أن يخلص أمر التحكيم لمعاوية؛ بينما كانت البصرة في البداية موطنا للسيدة عائشة وطلحة والزبير(ض)، قبل أن تدخل في طاعة علي بعد موقعة الجمل، وتعاود الخروج عليه، بعد معركة صفين، بحيث ستصبح موطنا للخوارج.
ذلك أن الخوارج  سيتمكون في بداية الأمر من نشر لهب ثوراتهم إلى مناطق « كثيرة في العراق والموصل وإيران واليمامة وحضرموت وعمان. وكان أول ظهورهم عقب التحكيم بين علي ومعاوية وما كان من رضا علي به، فقد تنادى فريق من جيشه: لا حكم إلا لله. وبذلك شقوا عصا الطاعة عليه، ولم يلبثوا أن عدوه ومن معه ضالين وتجب الهجرة عنهم كما هاجر رسول الله (ص) عن أهل مكة (...) وكان الذي أثارهم أنهم رأوا عليا ومعاوية يقتتلان على الخلافة، كأن الأمر ليس أمر الله إنما أمر أشخاص، فثاروا على ذلك ثورة عنيفة اعتبروها جهادا في سبيل الله وسبيل دينه الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وجاهدوا عليا، ولكنه نكل بهم في موقعة النهروان(...) وتحولت مقاليد الخلافة إلى معاوية فرأوا فيه إماما زائفا، وأخذت تتكون عقيدتهم بسرعة حول محور ثابت هو أن الخلافة ينبغي أن لا تحتجزها قريش لنفسها من دون المسلمين، فهي ليست حقا لقريش، إنما هي حق لله وينبغي أن يتولاها أكفأ المسلمين لها وخيرهم تقوى وورعا ولو كان عبدا حبشيا. ومضوا يعتقدون أنهم وحدهم الجديرون بوصف الإسلام(...)»  [شوقي ضيف،186.]
وخلافا للخوارج، دافع الشيعة: عن علي بن أبي طالب وحق آل البيت في الخلافة، وظلوا يعارضون - جهرا وسرا - طوال العصر بني أمية، وكان مركزهم الكوفة، وتقوم أسس مذهبهم على القول إن الرسول(ص) أوصى بالخلافة من بعده لعلي، فهي ليست مفوضة للأمة، وإنما تنتقل  بالوصية في علي  وأبنائه المعصومين من الأئمة انتقالا طريقه النص، ولذلك فمباشرة  بعد وفاة معاوية كاتبوا الحسين ليذهب إليهم لأخذ البيعة، فأقبل الحسين مستجيبا لذلك، إلا أنهم لم يسرعوا لنجدته، وتركوه يواجه مصيره وحده، فتحول قتله في نفوس  الشيعة نارا حامية لا تزال تسيل عويلا وحُرَقا لاذعة.

أما بيئة الشام: فقد كانت ومنذ عهد الخليفة عثمان بن عفان (ض) موطنا للأمويين، بحيث تولى معاوية إمارتها منذ عهد خلافته، ثم اتخذ من دمشق مركزا لحكمه وقاعدة له يدير منها حربه ضد علي. وحسب الدارسين المحدثين لم تنشئ هذه البيئة شعراء يعتد بشعرهم، خلافا للبيئتين السابقتين، وكل الشعر الذي أنتج فيها مصدره الشعراء الذين يفدون على الأمويين يمدحونهم من الحجاز والعراق و نجد؛ وذلك في سياق « حرص الأمويين على استدعاء الشعراء -بين الفينة والأخرى – على جمع الشعراء واستقبالهم في بلاطاتهم لإنشادهم شعرِهم»، وقد نجح الأمويون في أن يجعلوا من بيئة الشام سوقا رائجة تنفق فيها الأموال في حجور الشعراء كما تنفق القصائد في مسامع الخلفاء والأمراء، فكانت أشعارهم سلاحا يساهم في الدعاية لحكم بني أمية والتصدي للفتن والثورات الداخلية التي أشعلتها الأحزاب المعارضة لهم، ولمع من بين كبار شعراء بني أمية: الأخطل وجرير والفرزدق، وبخاصة الأخطل وجريرا  اللذين تحول المديح السياسي عندهما إلى حرفة يَفْرُغون لها ويمنحونها كل مايملكون من مواهب وطاقات فنية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق