الثلاثاء، 4 يناير 2011

اللغة العربية والفكر: ترجمة الكتب الأرسطية أنموذجا



اللغة العربية والفكر:  ترجمة الكتب الأرسطية أنموذجا
1- تقديم:
تعتبر العلاقة بين اللغة والفكر من أبرز الإشكالات التي عنيت بمقاربتها الدراسات اللغوية والفلسفية والنفسية وغيرها، فسعت إلى البحث في أوجه التفاعل بينهما وحدوده، وبيانِ أسبقية أحدهما على الآخر، كما حرصت على كشف أبرز العمليات الذهنية والنفسية التي يقوم بها الإنسان خلال لحظة إنتاجه لخطاب ما، والنظر في طرائق انتقال الأفكار والتصورات من لغة إلى أخرى وشرائطه العلمية والمنهجية الدقيقة .
ولئن كانت الدراسات الحديثة أكدت أن اللغة وسيلة للتواصل، فقد انتهت أيضا إلى أن من العلامات الدالة على قوتها وحيويتها قدرتها على استيعاب علوم عصرها ونقل المصطلحات والمفاهيم المتصلة بمعارفها؛ فحياة اللغة رهينة بتفاعلها مع شرطها التاريخي ومواكبتها لمستجداته العلمية والفنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها... وحين تكف عن نقل المعرفة المتجددة عبر ابتكار "أسماء" وتوصيفات جديدة لمعطياتها وعناصرها تصبح جامدة وفاقدة لأية فاعلية.

بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا: هل يمكن نقل فكر من لغة إلى أخرى نقلا أمينا ودقيقا متى ما توافرت الشروط العلمية الضرورية من امتلاك لناصيتي اللغتين معا وحسن فهم للأفكار والتصورات المراد ترجمتها في سياقاتها الأصلية؟ أم تتدخل في ذلك أيضا عناصر أخرى غير لغوية تجد سندها في المعتقدات الدينية والشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية ؟ ثم هل المشاكل التي يمكن أن تعانيها اللغة في لحظة زمنية ما تعود إليها ذاتها أو إلى تاريخها أو إلى المتكلمين بها؟ أم أنها ترجع إلى ذلك كله، فضلا عن شروط موضوعية أخرى متشابكة ؟
إن ما يجعل هذه التساؤلات تطرح بإلحاح هنا هو أن اللغة العربية عرفت في تاريخها وضعيتين متباينتين: تمثلت الأولى في تفاعلها مع علوم الأمم القديمة من يونان وفرس وهند وغيرهم وحسن إفادتها منهم ومن معارفهم؛ بينما تجسدت الثانية في "عجزها" عن مواكبة المعارف والعلوم التي ينتجها الغرب اليوم، فاكتفى أهلها بتلقيهم لها في أصولها وبلغاتها الغربية، فلم يقدروا على نقلها إلى لسانهم، وحتى وإن فعلوا تظل نقولهم محدودة وغير فاعلة في حياتهم الثقافية والعلمية بالشكل المطلوب .
فماذا تغير في واقع اللغة العربية حتى صارت "عاجزة" إلى هذا الحد؟ وهل من أسباب تأخرها عن مواكبة العصر ارتباطها بالنص القرآني الكريم وتوقف تطورها عند فترة زمنية محدودة لا تتجاوز القرن الثالث للهجرة؟ أم أن السبب في ذلك يعود إلى المتكلمين بها والحاملين لها؟ أو أن الأمر يتجاوز كل هذا وذاك ويجد تفسيره في عوامل أخرى نفسية وتاريخية ؟
للإجابة على هذه الأسئلة وكثير غيرها نقترح العودة إلى اللحظة التي بدأت فيها اللغة العربية تتفاعل –لأول مرة في تاريخها- مع علوم الأمم الأخرى ومعارفها، ولئن كنا سنركز هنا على "عصر الترجمة"، وعمليات نقل الكتب الأرسطية وشرحها خاصة، فذلك لأن فلسفة أرسطو الدقيقة والعميقة مثلت تحديا كبيرا لها، ولأن من شأن متابعة كيفية انتقاله من لغته الأصلية أو من اللغة السريانية إلى العربية، والبحث في شروط ذلك الانتقال وصعوباته وكيفية تجاوزها أن يجلي الكثير من الحقائق، ويفيد في استخلاص العديد من العبر التي قد تفيدنا اليوم .
2-             اللغة العربية وعصر الترجمة :
تمثل أهم وأخطر امتحان حقيقي عاشته اللغة العربية في الفترة الممتدة من الربع الأخير من القرن الثاني للهجرة –أي الثامن الميلادي- إلى أواسط القرن الرابع للهجرة –أي العاشر الميلادي-  (بدوي، 1987، ص 5.) ، وهي مرحلة اتسمت بظهور "حركة الترجمة" وازدهارها، بحيث أدى اتساع حدود الإمبراطورية العربية الإسلامية، ودخول الأمم والشعوب المجاورة لشبه الجزيرة العربية الإسلام إلى اصطدام العرب بثقافاتهم وحضاراتهم، فكان ضروريا للحضارة الناشئة أن تستكمل هيمنتها وتفوقها العسكري والسياسي والاقتصادي بالهيمنتين الثقافية واللغوية على غيرها من الحضارات الأخرى حتى تؤكد جدارتها بقيادة العالم، وذلك عبر استيعاب علومها ومعارفها وحسن توظيفها والاستعانة بها.
ومما جعل الترجمة ملحة ظهور العديد من « النحل والإيديولوجيات التي كانت تحارب الإسلام، وتريد الإطاحة بالدولة العربية» (أرحيلة، 1999، ص 27.)، فكان ضروريا الانفتاح على الثقافة اليونانية أساسا والاستعانة بالمنطق الأرسطي لتوظيف آلياته التحليلية في مُحَاجَّة خصوم الدين والدولة الذين يتربصون بهما في السر والعلن، وما حلم المأمون الشهير الذي كان فاتحة عهدِ ترجمةِ كتبِ المتقدمين إلا مطية للتصدي لهم وهزمهم فكريا بعد أن هزموا عسكريا (أرحيلة، 1999، ص 89.).
وبقدر ما كان انفتاح العرب على الفلسفة والفكر اليونانيين لحظة للتفاعل الحضاري والثقافي، كان أيضا وأساسا لحظة المواجهة بين ثقافتين متباينتين قوام الأولى البيان؛ بينما أساس الثانية البرهان والعرفان. وقد وضعت هذه المواجهة في المحك قدرات اللغة العربية على احتواء مختلف الأنشطة الذهنية والثقافية للعجم، ومواكبة مجمل الأنساق النظرية والمفهومية الواردة على العرب، وذلك من خلال تمثلها ذهنيا وتسميتها لغويا، فاستلزمت ترجمة الكتب الأرسطية إلى العربية الانتقال باللغة والفكر من مستوى تعبيري متداول، ونشاط ذهني مألوف إلى آخر جديد يختلف كليا عن السابق، وينفتح من ثمة على مصطلحات وأنساق مفهومية غير مفكر فيها من قبل، وأسئلة أنطلولوجية وميتافيزيقية غير مطروحة سلفا، وهو أمر كان ضروريا بالنسبة إلى اللغة العربية لتبسط سيطرتها على العالم وتصبح لغة تواصله الكونية .
ويسجل الباحث في تاريخ اللغة العربية أن تفاعلها مع غيرها من اللغات الأخرى لم يبدأ في القرن الهجري الثاني، بل هو قديم جدا، ويمكن التأريخ له انطلاقا من أواخر صدر الإسلام، فقد ترجم الحارث بن كلدة الطبيب (ت 33 هـ) كتابا في الطب، كما ترجم خالد بن يزيد بن معاوية (ت85هـ) -الذي كان يلقب بالحكيم- كتابا في الكيمياء ([1])، وفي عهده استقدم جماعة من علماء الإسكندرية، ووكل إلى بعضهم ترجمة بعض آثار اليونان، في علوم الطب والكيمياء والفلك، كما ترجمت آثار يونانية طبية أخرى أيام مروان بن الحكم، وفي أيام هشام بن عبد الملك ترجمت رسائل أرسطو إلى الإسكندر (ابن النديم، د.ت، ص 303.).  
ولم تكن حركة الترجمة هاته إلا إيذانا ببداية انفتاح العربية على فكر الآخر وعلومه، وهو ما لبث أن ازدهر وتطور مع انطلاق الدولة العباسية، التي يمكن اعتبارها بحق الحاضن الرسمي والمشجع الفعلي للترجمة، فقد أمر المأمون بإنشاء "بيت الحكمة" وهو مؤسسة ثقافية اعتنت بترجمة علوم الأوائل وخاصة اليونان، فأرسل «بعثة إلى بلاد الروم (بيزنطة) بحثا عن المخطوطات اليونانية، كان من أعضائها الحجاج بن مطر، ويوحنا بن البطريق، وسَلّم صاحب بيت الحكمة. كما أرسل بنو شاكر (محمد، وأحمد، والحسن) بعثة من أبرز أعضائها حنين بن إسحق، لتحصيل مخطوطات من بلاد الروم فجلبوا من هناك "طرائف الكتب وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والأرثماطيقي (الحساب) والطب- ومن ناحية أخرى كان المترجمون يأتون إلى بغداد ومعهم المخطوطات التي سيتولون ترجمتها، كما فعل قسطا بن لوقا، وابن البطريق، وسلام الأبرش وهم من أوائل المترجمين في النصف الثاني للهجرة وأوائل القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).» (بدوي،1987، ص8-9.).
وكان أبو زيد حنين بن إسحق (ت260 هـ) أحد أبرز المترجمين الذين تولوا الإشراف على الترجمة والتخطيط لها، وتولى المهمة بعده ابنه وتلميذه إسحق بن حنين (ت 298هـ) الذي سهر على إكمال مشروعه ورعايته، وقد تنوعت الكتب المترجمة في عهدهما بين تآليف جالينوس وبقراط في الطب، وكتب أرسطو خاصة: "المقولات" و"العبارة" والتحليلات" و"طوبيقا" و"الكون والفساد" و"النفس"... وغيرها (بدوي، 1987، ص 8.) .
 وتفيد المصادر أن عمليات النقل والترجمة كانت تخضع لخطة منهجية دقيقة، بحيث كان يحرص القائمون بها على الحصول على أكبر عدد ممكن من المخطوطات للكتاب الواحد، لمقابلة بعضها ببعض، وحين يتعذر الوقوف على أكثر من مخطوط لمصنف هام يترجمونه، بل إنهم كانوا يعيدون ترجمة بعض الكتب التي سبق لهم نقلها وذلك إذا وجدوا فيها أخطاء تحتاج إلى تقويم، أو إذا وقفوا على مخطوط آخر فيه إضافات جديدة، ولعل هذا ما يفسر سبب تعدد ترجمات بعض الكتب لنفس المترجمين، كما يتبين من حديث ابن النديم عن ترجمة كتاب النفس لأرسطو، قال: «الكلام على كتاب النفس: وهو ثلاث مقالات. نقله حنين إلى السرياني تاما، ونقله إسحق (إلى العربي) إلا شيئا يسيرا، ثم نقله إسحق نقلا ثانيا تاما، جود فيه (...) قال إسحق بن حنين: نقلت هذا الكتاب إلى العربي من نسخة رديئة، فلما كان بعد ثلاثين سنة وجدت نسخة في نهاية الجودة، فقابلت بها النقل الأول وهو شرح ثامسطيوس» (ابن النديم، د.ت، ص 311-312). وعلاوة على ذلك كانوا يحرصون على مراجعة ترجمات غيرهم وتصحيحها، فقد عمد الكندي وإسحق بن حنين وغيرهما إلى تصحيح بعض ترجمات غيرهما ومراجعتها لكي توائم « دقة الأداء البياني، وتسير وفق أصول وقواعد تُوافق روح اللغة المنقول إليها، على عادة ذلك الزمان.» (الإدريسي، 2008، ص 19.).
ويلاحظ المتتبع لحركة الترجمة والمترجمين خلال هذه الفترة أن اللغة العربية عانت كثيرا في نقل تلك العلوم والمعارف، وهي معاناة لم تنجم عن ضعفها وعجزها عن استيعاب اللغات الأخرى، بل نتجت عن أن تلك اللغات لم تكن متداولة في تلك المرحلة، وكانت تحتاج عباراتها ومصطلحاتها إلى معاجم خاصة ودقيقة تشرحها وتقربها إلى الأذهان، فضلا عن كون المترجمين لها لم يأخذوا تلك العلوم ومصطلحاتها من مصادرها الأصلية، بل عبر وسائط متعددة، بحيث حلت المصطلحات الآرامية والسريانية محل المصطلحات الإغريقية، فواجهت العربية اصطلاحات غريبة في معانيها وطرقها في الأداء البياني، وبعيدة عن الأصل الإغريقي (الإدريسي، 2008، ص 17-18).
ولئن كان ذلك قد ولد صعوبات متعددة للغة العربية، فقد أدى في الوقت نفسه إلى ظهور اتجاهات مختلفة في الترجمة، يمكن إجمالها في اثنين أساسين أشار إليهما صلاح الدين الصفدي (ت 764 هـ) في قوله: «وللتراجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما؛ وهو أن يُنظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية، وما تدل عليه من المعنى، فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية تُرادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى، كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه، وهذه الطريقة رديئة لوجهين: - أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية، ولهذا وقع في خلال هذا التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها؛ - الثاني: أن خواصّ التركيب والنّسب الإسنادية لا تُطابق نظيرها من لغة أخرى دائما، وأيضا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات. الطريق الثاني في التعريب: طريق حنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما؛ وهو أن يأتي إلى جملة فيُحصّل معناها في ذهنه، ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها؛ سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها. وهذه الطريق أجود، ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية؛ لأنه لم يكن قيما بها بخلاف كتب الطب والمنطق الطبيعي والإلهي؛ فإن الذي عرّبه منها لم يحتج إلى إصلاح.» ( الصفدي، 1990، ص79).
إن حديث الصفدي عن طريق يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما في مقابل طريق حنين بن إسحق والجوهري وغيرهما يعني وجود اتجاهين متباينين في الترجمة خلال المراحل المبكرة لتفاعل اللغة العربية مع علوم الأوائل، يُعنى الأول بالترجمة الحرفية التي تتقيد بنقل دلالة الكلمة المفردة وبالمحافظة على البنية التركيبية للجملة؛ بينما يتحرر الثاني من ذلك، ويهتم بترجمة الدلالة العامة دون عناية بالبنيتين الأسلوبية والتركيبية في لغة النص الأصلية.
والواقع أن هاتين الطريقتين في الترجمة تعكسان مظهرا من مظاهر مواجهة العربية للغة الفلسفة التي لم يكن لها عهد بها من قبل، وذلك في إطار ما عرف بالغارة الهيلينية على اللغة والحضارة العربية الإسلامية، وهي غارة استطاعت اللغة العربية أن تقف صامدة في وجهها، بل إنها نجحت في استيعابها والاستفادة منها في إغناء رصيدها المعجمي وتطوير قدراتها الفكرية وأبعادها المعرفية، وهو ما يمكن إبرازه من خلال متابعة بعض النماذج من ترجمة مجالات معرفية لم يكن للعرب عهد بها من قبل، مثل المباحث النفسية، والشعريات اليونانية.
3- اللغة العربية وكتاب النفس لأرسطو :
مثل كتاب النفس لأرسطو أحد أبرز وأخطر التحديات التي واجهت العربية قديما، لأنه تناول موضوعا ظلت تحيط به هالة وغموض كبيران، فقد انشغل العرب منذ الجاهلية بأمر النفس، فتساءلوا عن ماهيتها وطبيعتها الغريزية، وكيفية تفاعلها مع العالم الخارجي، فعبر القرآن الكريم عن جهلهم بأمرها وحيرتهم الكبيرة إزاءها في قوله تعالى ردا على سؤال الكفار لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ويسألونك عن الروح  قل الروح من أمر ربي﴾ [الإسراء، 85.] ، كما أن كلمة "نفس" قد تكرر ذكرها في القرآن الكريم اثنين وثلاث مائة مرة.
وحرصا منهم على الإحاطة بأسرارها وكشف غوامضها خص الفلاسفة المسلمون كتاب أرسطو: في النفس بعناية بالغة، فبعد أن ترجمه إسحق بن حنين إلى العربية مرتين كما سبقت الإشارة إلى ذلك، تعمق الفارابي (ت339هـ) في دراسته وأطال نظره فيه، فكان يرجع إليه باستمرار كما تدل على ذلك العبارة التي وجدت مكتوبة على ظهر الكتاب بعد موته، وفيها يقول: « إني قرأت هذا الكتاب مائتي مرة» ( ابن خلكان، د.ت، 5 /154.)، ولم يكتف ابن سينا بشرحه وتلخيصه، فقد ألف في موضوعها حوالي ثلاثين رسالة، بل إنه استهل حياته الفكرية برسالة في النفس هي: "رسالة القوى النفسانية"، واختتمها بعد أربعين سنة برسالة أخرى في النفس هي "رسالة في الكلام عن النفس الناطقة" ( ابن سينا،  1952، ص 5.).
ولا تنحصر عناية العرب الكبيرة بكتاب النفس وموضوعه في اعتقادهم أنه يمثل المدخل لإدراك ملكاتها وفهم كيفيات اشتغالها وشروطه، بل تجد تفسيرها أيضا في كونهم اعتبروا معرفة النفس وسيلة إلى معرفة قدرة الخالق وقوته؛ لأن من عرفها فقد عرف جوهر الإنسان، ومن عرف جوهر الإنسان عرف ربه كما يعبر عن ذلك ابن سينا (ت 428 هـ) وابن رشد (ت 595 هـ) بقولهما: « من عرف نفسه، عرف ربه» ( ابن سينا، 1952، ص 147. ابن رشد، 1950، ص 93). من ثمة كان « العلم بالنفس أكرم من سائر العلوم وأحسن، أما كرمه فلأنه يقود الإنسان إلى علم ذاته، فإنه إذا علم ذاته علم سائر الأشياء التي تعلوه، والتي هي أدنى منه، وأما حسنه فلاستصفائه وصحته. فعلم النفس أعلى من سائر العلوم الحسنة، ومنه يرقى إلى علم الجوهر الشريف الحقي. والدليل على أن من علم ذاته، علم سائر الأشياء، أن الأشياء لا تخلو من أن يكون العلم بها واقعا تحت القوى، والقوى كلها للنفس، والذي يعرف النفس يعرف قواها، والذي يعرف قواها، يعرف الأشياء الواقعة تحت قواها، فمن عرف النفس عرف الأشياء كلها» ( أرسطو، 1950، ص 133.).
ولئن كان هذا الوعي بقيمة معرفة النفس وأهمية إدراك كنهها يفسر العناية البالغة بكتاب النفس، فإن نقل مباحثه ومصطلحاته إلى العربية خلق تحديا كبيرا وحقيقيا للمترجمين، لأن موضوعه لم يكن للعرب عهد به من قبل، ويكفي للتدليل على ذلك الوقوف عند الجوانب المتعلقة بقواها الباطنية، والتي وظف فيها أرسطو تشريحا دقيقا لدماغ الإنسان وشرحا لكيفية اشتغاله وإدراكه للعالم الخارجي، وما يقتضي ذلك من عرض لمصطلحات تقنية دقيقة يصعب فهمها في لغتها الأصلية، بله في اللغة المترجم إليها.
فقد ذهب أرسطو في المقالة الثالثة من كتابه إلى التمييز بين مستويين في الإدراك: ظاهري وباطني، تقوم بالأول الحواس الخمس، وتنهض بالثاني قوى الخيال وملكة العقل. ولم يطرح هذا التقسيم مشكلا بالنسبة إلى المترجمين والشراح بنفس القدر الذي طرحته النقطة المتعلقة بقوى الإدراك الخيالي، فالعرب كانت تعرف -قبل أرسطو- الحس والعقل، وكانت تسمي ملكاتهما بالمصطلحات الدالة عليها، لكنها كانت "تجهل" ملكة الخيال والقوى المرتبطة بها حتى اطلعت على كتاب النفس، فاقتضى منها النقل البحث عن مقابلات عربية دقيقة للمصطلحات التي يستعملها أرسطو.
ولعل أول ملكة عانت في ترجمتها ووضع المصطلح الملائم لها هو: "الحس المشترك"، وهو أول قوى الإدراك الباطن، ويقع في التجويف الأول من الدماغ (ابن سينا، 1975، ص 35-36.)، ويمثل نقطة الاتصال بين الإدراكين: الظاهر والباطن، لأن فيه تلتقي ما تنقله الحواس من صور وإدراكات، الأمر الذي يجعله القوة الفعلية للإدراك الحسي، فــــ« القوة الباصرة تبصر ولا تسمع ولا تشم ولا تذوق، والقوة التي هي الحاسة المشتركة تبصر وتسمع وتشم وتلمس وتذوق » ( ابن سينا، 1975، ص 133.). وفضلا عن ذلك، يتميز الحس المشترك عن الحواس الخمس بقدرته على تجريد المدركات عن موادها، وهذا ما يشير إليه الكندي (ت252هـ) بقوله: «الحاس: قوة نفسانية مدركة  لصورة المحسوس مع غيبة طينته. الحس: إنية إدراك النفس صور ذوات الطين في طينتها بأحد سبل القوة الحسية(…)» ( الكندي، 1950، 1/167.).
إن من شأن متابعة "مصطلح الحس المشترك" أن تبرز الصعوبات التي عاناها المترجمون والشراح للفلسفة الأرسطية في إيجاد المقابلات الأمينة لمصطلحاته، وتبين طبيعة الجهد الذي بذلته اللغة العربية لاستيعاب كلمات وعبارات مغرقة في التجريد والغموض لتدرجها ضمن سجلها المعجمي والتداولي؛ فقد  أدرك المترجمون والشراح معا أن ذلك المصطلح يشير إلى النقطة الذهنية التي تتمركز فيها المعلومات المتأدية إلى الدماغ البشري من العالم الخارجي، لكنهم اختلفوا في تسميتها، بحيث أطلق عليها الكندي كما هو واضح في النص السابق مصطلح "الحاس" ، وسماها قسطا بن لـوقا (ت 300 هـ)، الجـزء الرئيس( فلوطـرخس، 1954، ص 60 ،163، 169، 171.)، والحاسة المشتركة ( فلوطـرخس، 1954، ص 163.)، والعضو الرئيس( فلوطـرخس، 1954، ص 162.)، بينما ترجمها إسحق بن حنين بـ"الحس العامي" (أرسطو طاليس ، 1954، ص 162، 170-171.). وأول من نجده يستعمل مصطلح "الحس المشترك" هو الفارابي، لكنه يسميه مع ذلك بالحاسة الرئيسة (الفارابي ، 1973، ص 88-89، 92، 100.).
والمتأمل في هاته الكلمات يجد أنها –وبالرغم من اختلاف صيغها الصرفية والاشتقاقية- تعني أمرا واحدا وتشير إليه، ألا وهو تمثل أبعاد معينة في الموضوع المحسوس لا تتصل بالحاسة المدركة له وحدها، بل تتعداها إلى حواس أخرى، فحين نرى مثلا العسل ببصرنا نعي في الوقت نفسه أن طعمه حلو بالرغم من أننا لم نتذوقه. ولذلك فاختلاف تسميات الرعيل الأول من الفلاسفة والمترجمين لهاته الملكة لا يمس جوهر الملكة، بل شكل التعبير عنها، مادام كل واحد منها يشير –ضمنا أو صراحة- إلى الخاصية الإدراكية التي تميزها، والتي تجعلها ملقى الحواس الخمس ومركزها.
وعلاوة على "الحس المشترك"، يعتبر الخيال الملكة الذهنية التي تبرز إلى أبعد الحدود الجهد الجبار الذي بذله المترجمون والفلاسفة العرب في نقل فلسفة أرسطو عامة، وكتابه في النفس خاصة، ذلك أن العرب كانت تستعمل الكلمة منذ الجاهلية وإلى القرن الثالث للهجرة بمعان لا علاقة لها بالإدراك الباطني، بل كانت تعني الطيف والظل وغير ذلك من الدلالات اللغوية الصرف (عصفور، 1992، ص 15.)، وحين وجدوا أرسطو يفرد عناية بالغة للخيال، ويرجع إليه خلق العوالم والأشياء غير الواقعية، ووعوا فاعليته الذهنية وقيمته النفسية حاروا في ترجمته وتعبوا كثيرا في إيجاد الكلمة المقابلة له، فترجمه الكندي بالتوهم، قائلا: «التوهم: هو الفنطاسيا، قـوة نفسانية ومدركة للصور الحسية مع غيبة طينتها، ويقال: الفنطاسيا، وهو التخيل، وهو حضور صور الأشياء المحسوسة مع غيبة  طينتها.» (الكندي، 1950، 1/167.) ، أما إسحق بن حنين فقد ترجمه بالوهم وذلك في قوله: «(…) الوهم (…) هو حركة الحس الكائن بالفعل وذلك أن الحس الكائن بالفعل يحركه المحسوس ويحرك هو الوهم، فلهذه العلة لا يمكن أن يكون وهم بلا حس، وذلك أن الحس([2]) يأخذ أوائل علمه من الحواس. فإن قال قائل: إنا ربما توهمنا شيئا لم نره قط. فقال قد يمكن أن تكون دابة من عنـز وأيل، ويكون  إنسان طيرا، قلنا: إنا إنما نتوهم أشياء مفردة أولا، ثم نركبها ثانيا بأوهامنا. وكذلك إذا توهمنا الصورة  المجردة، فإنا إنما نتوهمها جسمانية. والدليل على أن الوهم لا يقدر أن يتوهم شيئا إلا أن تؤدي إليه الحواس أن الذين عدموا أبصارهم لا يقدرون على أن يتوهموا أمر الألوان، فحال الوهم شبيه بحال الحواس (…)» (أرسطو، 1954، ص 162.).
يعطي هذان النصان صورة واضحة عن كيفية تفاعل اللغة العربية - خلال العهود الأولى لاحتكاكها بالفلسفة اليونانية - مع الفكر الأرسطي، كما يكشفان المجهود الكبير الذي بذل في سبيل الإحاطة به وإزالة ما يتسم به من تجريد وغموض، وصياغته بلغة واضحة وفصيحة. ولئن كان الكندي قد "اضطرب" في ترجمة ملكة Phantasia[3] ، فعربها مرة بـ"فنطاسيا" ، وترجمها أخرى بــ "التوهم"، و"التخيل" و"المصورة"، فمن الملاحظ أن إسحق بن حنين اقتصر على مصطلح "الوهم" وحده، وهو أمر يمكن إرجاعه إلى منهجه في الترجمة والنقل الذي يقوم -كما أسلفنا- على جمع أكبر عدد ممكن من النصوص والمصادر والمقابلة بينها بحثا عن الترجمة الأكثر ملاءمة للنص وسياقه، هذا فضلا عن أنه جاء في مرحلة متأخرة عن الكندي، وهي مرحلة بدأت تنحو صوب تدقيق المصطلحات وضبطها، ولعل مما يؤكد ذلك أننا نجد معاصره قسطا بن لوقا يترجم نصا يعنى ببيان الفوارق الدلالية بين تلك المصطلحات وتحديدها، وفيه نلاحظ تمييزا دقيقا بين  الخيال والتخيل والمخيل والتخييل ونحو ذلك ( فلوطرخس، 1954، ص 164.).
والواقع أننا حين نبحث في مختلف العصور التي تم خلالها نقل علوم الأوائل وخاصة فلسفة أرسطو، نلاحظ أن "عصر الترجمة" مر بمراحل مختلفة من التهذيب والتشذيب والتنقيح، فكانت كل مرحلة من مراحله بمثابة مراجعة للمرحلة أو المراحل السابقة، فالطور الأول للترجمة الذي يبدأ مع خلافة أبي جعفر المنصور (ت 158 هـ) ويستمر إلى نهاية خلافة الرشيد (ت 193هـ) كان بمثابة مراجعة للمرحلة السابقة التي بدأت –كما سبق القول- مع الحارث بن كلدة وخالد بن يزيد بن معاوية، وقد سعى هذا الطور إلى تأطير "حركة الترجمة" ضمن مشروع حضاري منظم ومهيكل، فوضعت فيه التصورات والمناهج الأولى للنقل والتعريب، إلا أن هذا الطور سرعانما تمت مراجعته خلال الطور الثاني الذي يبدأ مع المأمون ويمتد إلى أوائل القرن الرابع، وذلك من خلال التخلي عن التعريب والترجمة الحرفية واستبدالهما بالترجمة الدلالية.
ويبدو أن هذا النوع من الترجمة -الذي سبق أن وقفنا عنده مع الصفدي- قد أثمر وعيا جديدا لدى العرب، أدى بهم إلى التخلي عن المتابعة الحرفية والنقل الدقيق لكتب الأوائل، فاستبدلوها بالنقل عبر الشرح والتلخيص، وهو ما تجسد في أعمال الفارابي وابن سينا وابن رشد، الذين مثلت مرحلتهم إيذانا بانطلاق عهد جديد في تفاعل اللغة العربية مع فكر يونان وفلسفتها، وهو عهد تميز بحرصهم على الإحاطة بأفكار الأوائل وتصوراتهم والتعبير عنها بلغة عربية واضحة وفصيحة.
ولذلك فإذا عدنا إلى كتاب النفس الأرسطي نلاحظ أن الفلاسفة المسلمين أغنوه بشروحهم وتلاخيصهم، فبسطوا كثيرا من عباراتهم الدقيقة وشرحوا العديد من مصطلحاته الغامضة والمعقدة، بصورة جعلته مرجعا هاما في الإحاطة بماهية النفس الإنسانية ومعرفة حقيقتها وجوهرها الطبيعي، فكان من أبرز نتائج ذلك أن استفادوا منه في شرحهم لكتابي الشعر والخطابة وتلخيصهما .
4-  اللغة العربية والشعرية اليونانية :
إذا كان العرب قد احتفلوا كثيرا بكتاب النفس فترجموه وشرحوه غير مرة بسبب توقهم لكشف أسرارها وإزاحة الحجب التي تلفها، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح بخصوص كتابي الشعر والخطابة لأرسطو هو ما مبرر عنايتهم بهما خاصة وأن البيان عندهم –بنوعيه الشعر والخطابة- كان عنوان هوية وعلامة فخر ومباهاة ؟ وهل كانت ترجمتهم للكتابين تروم الإجابة على أسئلة ظلت معلقة في الشعرية العربية القديمة ولم يكن من سبيل لمقاربتها وفهمها إلا من خلال الاستعانة بشعرية أرسطو؟ أم أنها اندرجت ضمن رؤية أعمق وغايات أبعد ؟
يبدو أن ترجمة الكتابين تداخلت فيها ثلاثة أسباب: يتمثل الأول في حرصهم على الإحاطة بمختلف علوم الأوائل ومعارفهم؛ ويتجلى الثاني في رغبتهم في مقارنة الشعرية العربية بغيرها من الشعريات لاستنباط القوانين الكلية لصنعة الشعر التي تنطبق على أشعار كل الأمم مهما اختلفت لغاتهم وتجاربهم وأزمنتهم؛ ويتبدى الثالث في تصنيفهم للكتابين ضمن مؤلفات أرسطو في المنطق، بحيث اعتبروهما من الصنائع التي تستعمل القياس في المخاطبة (أرحيلة، 1999، ص 361-362.).
وإذا تابعنا كتابي الشعر والخطابة الأرسطيين في أجواء الثقافة العربية الإسلامية، فإننا نلاحظ أن ترجمتهما عرفت - كما هو الشأن بالنسبة إلى كتاب النفس - العديد من الصعوبات التي لم تنتج عن عمق تصوراتهما ودقة مصطلحاتهما فحسب، بل ساهمت فيها أيضا المحطة السريانية التي عَبَر من خلالها الكتابان إلى العربية، والتي كان لمترجميها القسط الوافر في تضليل العرب بخصوص مفهومي الشعر والخطابة عند أرسطو.
فمن المعلوم أن المترجمين السريان كانوا يجهلون الخلفية الحضارية التي يدور في فلكها الكتابان، والتي جعلت أرسطو ينظِّر في كتاب الشعر للملحمة والمسرح، ويعالج في كتاب الخطابة هندسة القول الخطابي وأسلوبه في المحافل السياسية والقضائية والتجمعات العامة لدى اليونان، فأدى بهما ذلك إلى تقديم نصين غريبين وبعيدين عن أصولهما، وإلى إفراغ مصطلحاتهما من حمولتهما النظرية. وهو ما يشير إليه محمد العمري بقوله: «ترجمة متّى بن يونس وما شاكلها، مما لم يصلنا، هي محاولة نقل من لغة إلى لغة، وهي عملية قد تكون ممكنة حين توجد مقابلات، ولو كانت نسبية، أو على مستوى المبادئ والأوليات، فحينئذ يكون الحوار ممكنا في اتجاه التعديل أو الإضافة أو حتى المعارضة والنقض(…) أما حين تكون هناك قطيعة تمنع تصور الخلفيات والمرجعيات، فضلا عن الأنساق المراد ترجمتها فحينئذ تصير الترجمة اللغوية مستحيلة، أو مجرد إسقاط مفاهيم على أخرى، أو نحتا  لفظيا أصم أبكم» (العمري، 1995، ص 72.).
ويتجلى هذا التشويه أساسا من خلال متابعة تصورات الكتابين ومصطلحاتهما التي تبدو غريبة عن موضوع تفكير أرسطو وبعيدة عن أساليب اللغة العربية، بحيث يتبين أن مترجمي الكتابين –اللذين يجهلان اللغة العربية واليونانية معا، ولا تتوافر فيهما الشروط الضرورية للترجمة – كانا يتبعان الترجمة الحرفية التي أشار إليها الصفدي كما تبينا سابقا، وحين يستعصي عليهما إيجاد مقابلات عربية دقيقة لمصطلحات أرسطو–وكثيرا ما كان يحدث لهما ذلك- يعمدان إلى تعريبها.
ولذلك فإذا وقفنا عند الترجمة العربية القديمة لكتاب الخطابة نلاحظ أن صاحبها -الذي نجهله للأسف الشديد- كان يترجم الشعر بالفيوئطي والخطابة بالريطورية ويعرب الكثير من المصطلحات التي لم يهتد إلى مقابل لها في اللغة العربية، وهو ما يتبين من قوله: « إن الفيوئطيين قد كانوا يتكلمون بالبسيطة أو العامية، ويظنون أنهم يكتسبون المدح من قبل المقالة. وبهذا كانت تكون تلك الألفاظ الأولى فيوئطية كمثل كلام جرجياس. ثم الآن أيضا قد يظن كثير من الذين لا أدب لهم أنهم مصيبون حين ينطقون بهذا النحو من الكلام مزينا أو مزخرفا. وليس يجوز هذا إلا لأصناف أخر من الكلام سوى الفيوئطية، أعني أن يكون الوصف بألفاظ كائنة ما كانت؛ ولا هم إذا صنعوا الطراغوديات أيضا يستعملون هذا النحو بعينه....» (أرسطو، 1979، ص 185.)، وقوله أيضا: « ثم إن المثال أيضا تغيير، لكنهما يختلفان قليلا. فقول القائل في أخيلوس إنه وثب وثبة أسد هو تغيير. فمن أجل أنهما جميعا كانا شديدين، سمى أخيلوس بالتغيير والاختلاف أسدا. وما أنفع المثال في الكلام أيضا! ولكن ينبغي أن نقل استعماله لأنه من الفيوئطي» ( أرسطو، 1979، ص195-196.).
يعكس هذان النصان بجلاء الصعوبة الكبيرة التي عانتها اللغة العربية في ترجمة كتاب الخطابة، والتي لم تنتج عن ضعف أو عجز فيها، بل بسبب جهل المترجم السرياني باللغة اليونانية،  وعدم تمكنه من اللغة العربية ومحدودية اطلاعه على علومها التي كانت في طور التشكل، ولذلك فقد ترجم الشعر بالفيوئطي، وسمى الشعراء بالفيوئطيين، وعرب التراجيديا بالطراغوديات، كما ترجم التشبيه بالمثال والمجاز بالتغيير. وقد كان من نتائج ذلك أن قدم نصا غريبا شوه الأصل اليوناني وعبر عن مضامينه بلغة أعجمية لا تشبه العربية إلا في شكل كتابتها فحسب. ويبدو أن ركاكة عبارات الترجمة وغموض أفكارها هو ما جعلها مرفوضة عند القدامى، إذ أشار ابن سمح (؟) -وهو أحد أقدم نساخ الترجمة- إلى ذلك بقوله في نهايتها: « هذا كتاب لم يبلغ كثير ممن قرأ صناعة المنطق إلى درسه، ولم ينظر فيه أيضا نظرا شافيا. فلذلك ليس توجد له نسخة صحيحة أو معنى مصحح ما (...)» (أرسطو، 1979، ص 254.) .
يدل هذا النص على أن الترجمة العربية القديمة لكتاب الخطابة ظلت مهملة لدى مترجمي كتب أرسطو وشراحها، فلم يعره الفلاسفة ولا غيرهم أية عناية، لكونهم اعتبروه ركيك اللغة وسقيم العبارة، ولئن كان هذا الأمر يعني أن من الشروط الأولى التي كان يضعها " أصحاب صناعة المنطق" لقبول ترجمة أو شرح لكتب أرسطو سلامة لغتها ووضوح عباراتها، فضلا عن حسن نقلها لأفكاره وتصوراته، فإنه يدل أيضا على وعيهم بإشكالية العلاقة بين الفكر واللغة، فالأفكار لا تنقل إلا بلغة مطابقة لمضامينها وملائمة لدلالاتها.
ويبدو أن المترجمين والفلاسفة المسلمين كانوا واعين بالمشاكل التي يطرحها نقل كتاب الخطابة في ظل غياب أي تصور عن طبيعة المجتمع الإغريقي وتقسيمه الطبقي، فقابلوا إهمال الترجمة القديمة بشروحات وتلاخيص كثيرة، حرصوا فيها على بسط جوانبه القيمة والهامة التي من شأنها أن تفيد الدرس البلاغي العربي في زمنهم؛ فقد أولى الفارابي عناية بالغة بالكتاب؛ ففسره وشرحه، بل وترجمه كما يذكر ابن النديم، وترك فيه كتابا كبيرا يقع في عشرين مجلدا (أرحيلة، 1999، ص 381.)، كما أن ابن سينا خصه بعملين: جاء الأول مقتضبا ومركزا سماه المجموع؛ بينما كان الثاني مستفيضا، أما ابن رشد فقد قدم تلخيصا هاما للكتاب حاول فيه الاستفادة من النصوص المختلفة التي لم يتح الاطلاع عليها لغيره من المترجمين والفلاسفة السابقين.
وحين متابعة تلاخيص الفارابي وابن سينا وابن رشد وشروحاتهما للكتاب نلاحظ الجهد الكبير الذي بذلوه في سبيل التخلص من غموضه ودقة تصوراته وركاكة عبارات مترجمه السرياني. ذلك أنهم أدركوا أن جانبا منه يخص الحضارة اليونانية ونظمها السياسية، فأولوا عنايتهم للقسم الثالث المتعلق بجمالية الأسلوب وشروطه الفنية، مقدمين بين ثناياه جملة من التصورات التي ساهمت في ظهور البلاغة المعضودة بالمنطق عند العرب مع ابن وهب الكاتب، والمطرف بن عميرة وحازم القرطاجني وابن البناء المراكشي وأبو القاسم محمد السجلماسي (أنظر الإدريسي، 2009، ص8-25.).
ويعتبر تعريف الخطابة من أول وأهم ما ركزوا عليه في تلاخيصهم، إذ حددها الفارابي بقوله: « الخطابة هي القدرة على المخاطبة بالأقاويل التي بها تكون جودة الإقناع في شيء شيء من الأمور الممكنة التي شأنها أن تؤثر أو تجتنب.» ( الفارابي، 1971، ص 62-63)، ولم يخرج ابن سينا وابن رشد عن هذا التحديد بحيث عرفاها بقولهما: « الخطابة قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور المفردة» ( ابن سينا، 1954، ص 28، ابن رشد، د.ت، ص 15.).
فخلافا لصاحب الترجمة القديمة يبدو أن الفلاسفة المسلمين أدركوا الطبيعة الإقناعية للخطابة، فحرصوا على التنبيه عليها في تعريفهم لها، وهو أمر يجد تفسيره في ترتيبهم لها ضمن سلم المنطق، وتصنيفهم لها ضمن الصناعات القياسية، كما يتضح من قول الفارابي: « الخطابة: صناعة قياسية، غرضها الإقناع في جميع الأجناس العشرة، وما يحصل من تلك الأشياء في نفس السامع من القناعة هي الغرض الأقصى بأفعال الخطابة.» (الفارابي، 1971، ص7.).
بيد أن قيمة تلخيصهم للخطابة لا تنحصر في هذا الإطار، بل تكمن أيضا في إدراكهم أن طبيعتها الانفعالية ووظيفتها التأثيرية تقتضي من الخطيب معرفة دقيقة وعميقة بأحوال النفوس وطبائعها وكيفيات التأثير فيها، حتى يختار الأسلوب المناسب لموضوع خطبته والكفيل بإقناعهم والتأثير في نفوسهم، وهو ما عبر عنه ابن سينا بقوله: « وأما استدراج السامعين فيكون بالأقاويل الانفعالية التي توقع في نفوسهم محبة له أو ميلا إليه أو طمعا فيه أو غضبا وسخطا على خصمه. فلهذه المعاني يجب أن يعرف الريطوريقي الأخلاق والفضائل. ويجب أيضا أن تعرف الانفعالات وكيف ومماذا تكون. » (ابن سينا، 1950، ص 22).
وإذا كان ابن سينا يستعمل هنا كلمة "الريطوريقي" للإشارة إلى الخطيب، فليس معنى ذلك أنه ينتمي إلى اتجاه المترجمين الذين يتبنون الترجمة الحرفية، بل الأمر غير ذلك، فقد لخص هذا النص - كما يشير محقق الكتاب- وهو ابن الثامنة عشر من عمره، وهي لحظة بدأ فيها بالاحتكاك بالنصوص الفلسفية، ولم تتبلور عنده رؤية خاصة في نقلها وتفسيرها، ولعل ما يؤكد ذلك تخليه عن هاته الكلمة المعربة حين لخص كتاب فن الخطابة في مرحلة لا حقة من حياته (ابن سينا، 1954 ، ص 34.) . 
وعلاوة على ربطهم الخطابة بالجانب الانفعالي من النفس، أكد الفلاسفة المسلمون أن جماليتها وفاعليتها التأثيرية لا تتأتيان بمعرفة أحوال المتلقين فحسب، ولكن أيضا بحسن بناء عباراتها وصياغة أساليبها، وهو أمر يقتضي العناية ببنياتها التركيبية والأسلوبية صياغتها بطريقة ملائمة لمقصديتها وغير مماثلة لغيرها من الخطابات الفنية الأخرى وخاصة الشعر، يقول ابن سينا في هذا الإطار: « واعلم أن الاشتغال بتحسين الألفاظ في صناعة الخطابة والشعر أمر عظيم الجدوى. وأما التعاليم فإن اعتبار الألفاظ فيها أمر يسير، ويكفي فيها أن تكون مفهومة، غير مشتركة، ولا مستعارة، وأن تطابق بها المعاني. ولا يختلف التصديق في التعليم بأي عبارة كانت إذا عبرت عن المعنى. وأما الإقناع في الخطابة والتخييل في الشعر فيختلف في المعنى الواحد بعينه بحسب الألفاظ التي تكسوه. فينبغي أن يجتهد حتى يعبر عنها بلفظه يجعله مظنونا في الخطابة، ومتخيلا في الشعر. فإن اللفظ الجزل يوهم أن المعنى جزل؛ واللفظ السفساف يجعل المعنى كالسفساف؛ والعبارة بوقار تجعل المعنى كأنه أمر ثابت؛ والعبارة المستعجلة تجعل المعنى كشيء سيال.» ( ابن سينا، 1954، ص 199-200.) .
يبرز هذا النص أن جمالية الخطابة تتحدد بحسن اختيار الألفاظ  الملائمة للمعاني الإقناعية، ويؤكد أن الفرق بين الخطابة والشعر –بالرغم من طبيعتهما اللغوية المشتركة- يكمن في قيام الخطابة على الإقناع والشعر على التخييل، ويعتبر هذا التمييز من أبرز النتائج التي انتهى إليها الفلاسفة المسلمون وظلت غائبة عن المترجمين السريان، والتي تدل على أن نقلهم لكتب أرسطو لم يكن حرفيا ولا آليا، بل كانوا يسعون إلى سد ثغراتها وإغنائها بتصورات هي صميم اجتهاداتهم ونظراتهم الثاقبة، خاصة وأن نقل تراث الآخر وشرحه لم يكن في تصورهم عملية نسخ حرفي، بل قراءة تحرص على تأطير النص في سياقه الأصلي مع استثمار آرائه وتصوراته في السياق الثقافي الذي تنجز فيه، وبالصورة التي تخدم أسئلته وتفيد في الإجابة عليها.   
ولا تقتصر هذه الملاحظة على كتاب الخطابة، بل تشمل كذلك ترجمة كتاب الشعر وتلاخيصه، إذ لا يختلف كثيرا متى بن يونس القنائي عن صاحب الترجمة العربية القديمة لخطابة أرسطو في طبيعة الترجمة وقيمتها، فقد ترجم المصطلح الجوهري في كتاب الشعر ألا وهو "المحاكاة" بالتشبيه، وكان يعمد إلى تعريب الكثير من المصطلحات التي استعصى عليه نقل معناها إلى العربية، فعبر عن ذلك بجمل ركيكة وعبارات سقيمة، ومن أبرز النماذج الدالة على ذلك قوله: « إن الشاعر خاصة يكون شاعر الخرافات والأوزان بمبلغ ما يكون شاعرا بالتشبيه والمحاكاة، وهو يشبه ويحاكي الأعمال والأفعال الإرادية وإن عرض أن يعمل شيء في التي قد كانت، فليس هو في ذلك شاعرا بالدون من قبل أن التي كانت: منها ما لا مانع يمنع يكون حالها في ذلك مثلا كالتي هي موضوعة بأن توجد، كحال ذلك الذي هو شاعرها»( أرسطو، 1967، ص 104-105.)؛ وقوله أيضا: «صناعة الشعر هي أكثر فلسفية وأكثر في باب ما هي حريصة من إيسطوريا الأمور من قبل أن صناعة الشعر هي كلية أكثر، وأما إيسطوريا فإنما تقول وتخبر بالجزيئات، وهي بالكلية التي في الكيفية، والكيفيات كل التي كأنها يعـرض أن تقـال أو تعمل: إما التي بالحقيقة، وإما تلك التي هي ضرورية، كالتوهم الذي يكون  في صناعة الشعـر عندما  تكون صناعة الشعر نفسها تضع الأسماء» (أرسطو، 1967، ص 103-104.).
يعطي هذان النصان صورة واضحة عن قيمة ترجمة متى بن يونس لكتاب الشعر ويبين أنها اتسمت بسقم المعنى وركاكة العبارة فضلا عن تشويه الأصل اليوناني. وكما هو الشأن بالنسبة إلى كتاب الخطابة عمل الفلاسفة المسلمون على تنقيح كتاب الشعر وإصلاح عباراته وبسطها، مقدمين بذلك تلخيصات أكدوا فيها استحالة فهم الكتاب دون إدراك للخلفية الحضارية والثقافية التي يقوم عليها، كما يتبين من قول ابن سينا: « والآن، فإنا نعبر عن القدر الذي أمكننا فهمه من التعليم الأول، إذ أكثر ما فيه اقتصاص أشعار ورسوم كانت خاصة بهم، ومتعارفة بينهم يغنيهم تعارفها إياها عن شرحها وبسطها. وكان لهم –كما أخبرنا به- أنواع معدودة للشعر في أغراض محدودة، ويخص كل غرض وزن.» (ابن سينا، 1973، ص 167.)
لقد أدرك ابن سينا من خلال العديد من الإشارات المقتضبة والتلميحات السريعة إلى أعمال "مسرحية " وأسماء "ممثلين" أن أرسطو يتحدث عن شعر مختلف شكلا ومضمونا عن طبيعة الشعر العربي، فأوضح صعوبة نقل كتابه دون معرفة مسبقة بما يتحدث عنه، كما يدل على ذلك قوله: " القدر الذي أمكننا فهمه" الذي يعبر صراحة عن وجود قدر لم يحصل فهمه؛ وبالإضافة إلى ذلك فقد وعوا بأن الكتاب ذاته غير كامل وأن جزءا بتر منه وضاع، وهو ما عبر عنه الفارابي بتنبيهه في مستهل تلخيصه: «قصدنا في هذا القول إثبات أقاويل وذكر معان تفضي بمن عرفها إلى الوقوف على ما أثبته الحكيم في صناعة الشعر، من غير أن نقصد إلى استيفاء جميع ما يحتاج إليه في هذه الصناعة وترتيبها، إذ الحكيم لم يكمل القول في صناعة المغالطة فضلا عن القول في صناعة الشعر (الفارابي، 1973، ص 149.) .
وإذا كان ذلك قد مثل عائقا أمام النقل الدقيق للكتاب، فإنه لا يعني أن الفلاسفة المسلمين عجزوا عن تلخيصه والإفادة منه، فقد استطاعوا فهم كثير من أفكاره وآرائه، وشرح العديد من قضاياه وتصوراته، بل إنهم تمكنوا من إدراك بعض الثغرات التي ظل يعانيها الكتاب فعملوا على سدها.
وتكفي الإشارة هنا إلى أنهم أحسنوا فهم تصور أرسطو لماهية الشعر وأجادوا التعبير عنه، كما أنهم أدركوا تمييزه الدقيق بين الشعر والخطابة وغيرهما من فنون القول ومستوياته، فصار عندهم التخييل علامة محددة لجوهر الشعر ومميزة له، وهو تصور استطاعوا نقله وفهمه من كتاب الشعر، وتمكنوا من خلاله من التمييز بين الشعر والنظم، مؤكدين بذلك أن الشعر ليس مجرد صياغة الكلام في قالب إيقاعي مؤلف من وزن وقافية، بل هو قبل ذلك خطاب تخييلي، يقول ابن سينا بهذا الصدد: «الشعر كلام مخيل، مؤلف من أقوال ذوات إيقاعات متفقة، متساوية، متكررة على وزنها، متشابهة حروف الخواتيم. فـ "الكلام" جنس أول للشعر يعمه وغيره مثل الخطابة والجدل وسائر ما يشبهها؛ وقولنا "من ألفاظ مخيلة"، فصل بينه وبين  الأقاويل العرفانية، التصديقية التصورية (…)، وقولنا: "ذوات إيقاعات متفقة" ليكون فرقا بينه بين النثر؛ وقولنا: "متكررة" ليكون  فرقا بين المصراع والبيت؛ وقولنا: "متساوية" ليكون فرقا بين الشعر وبين نظم  يؤخذ جزآه من جزئين مختلفين، وقولنا: "متشابهة الخواتيم" ليكون فرقا بين المقفى وغير المقفى. فلا يكاد يسمى عندنا بالشعر ما ليس بالمقفى» (ابن سينا، 1956، ص 122-123.).
يعتبر ابن سينا هنا " التخييل" جوهر العملية الشعرية وأساسها، مؤكدا أن بدون تخييل يخرج الشعر من مدار الجمالية والفنية ويدخل في محض التكلم، وهو بذلك يوجه نقدا لاذعا للأشعار المنظومة التي استشرت في المشرق منذ القرن الثالث للهجرة، والتي يركز أصحابها على المكونات الشكلية في الشعر ويهملون المكونات الجمالية فيه.
ولا يقف حسن توظيف مصطلح التخييل لدى شراح أرسطو عند هذا الحد، بل إنهم صححوا من خلاله رأيا ساد في الكتب النقدية كان يرمي أصحابه الشعر والشعراء بالكذب والتضليل، فأوضحوا أن الشعر إنما ينظر فيه إلى جانبه التخييلي المتعلق بمدى قدرة صوره ومعانيه على تحريك خيالات المتلقين والتأثير في نفوسهم، وأنه متى ما تحققت هذه الوظيفة الجمالية لا ينظر إلى صدقه أو كذبه، يقول ابن سينا معبرا عن ذلك : «والشعريات إنما يلتفت فيها إلى أن تكون مخيلة، كانت صادقة أو كاذبة في الكل أو لا في الكل إذا كانت النفس تنفعل عنها انفعالا نحو انقباض أو انبساط، لا لأنها صدقت بشيء منها، بل من جهة حركة تخييلية تعرض لها عندها، كمن إذا سمع  قول قائل للعسل إنه مرة مقيئة اشمأز عن تناوله، وربما سمع الثناء على جميل كان يعرفه جميلا، أو الذم لقبيح كان يعرفه قبيحا، وكان التصديق لا يحرك منه شيئا؛ فإذا سمع الشعر الموزون هاج  تخيله فانبعث نزاعه أو نفوره إلى موجب تخيله طاعة للتخيل لا للصدق» (ابن سينا، 1964، ص 5).
لقد تمكن الفلاسفة المسلمون- بحسن فهمهم لمصطلح التخييل وجودة توظيفه- من مراجعة الكثير من الأحكام  النقدية التي كانت تحول دون إدراك حقيقة الشعر وبيان جوهره الطبيعي، فصححوا نظرة الكثير من النقاد والبلاغيين العرب الذين كانوا يولون الإيقاع قيمة فنية على حساب الإيحاء، ويقومون الصور والمعاني الجمالية بمقياس الحقيقة والكذب، فأكدوا بدل ذلك أن خصوصية الدلالات الشعرية تتمثل في كونها ليست "واقعية" بل جمالية وفنية، وأن أي قراءة لها في ضوء معطيات الواقع وعناصره يفقدها قيمتها وخصوصيتها، كما أبرزوا أن الإيقاع في الشعر ليس غاية في ذاته، بل هو مجرد وسيلة لتحقيق التخييل.
 ومن الملاحظ أن شدة عنايتهم بهذا المصطلح وعمق إدراكهم لقيمته النظرية وفاعليته الجمالية جعلهم يربطون كل مكونات الخطاب الشعري بعنصر التخييل ويعتبرونها وسائل له،  فصار عندهم اللفظ والمعنى والوزن والتركيب وغير ذلك من عناصر الشعر مجرد أدوات له، وهو ما يتضح من قول ابن سينا: «الأمور التي  تجعل  القول مخيلا: منها  أمور تتعلق  بزمان وعدد زمانه، وهو الوزن؛ ومنها  أمور تتعلق  بالمسموع من القول؛ ومنها أمور تتعلق بالمفهوم من القول؛ ومنها أمور تتردد بين المسموع والمفهوم –وكل واحد من المعجب بالمسموع أو المفهوم على وجهين: لأنه إما أن يكون من غير حيلة بل يكون نفس اللفظ فصيحا من غير صنعة فيه، أو يكون  نفس المعنى غريبا من غير صنعة إلا غرابة  المحاكاة  والتخييل الذي فيه. وإما أن يكون التعجب منه صادرا عن حيلة في اللفظ أو المعنى (…)» ( ابن سينا، 1956، ص 163.).
ويلاحظ المتابع لشروح الفلاسفة المسلمين وتلاخيصهم لكتاب الشعر أنهم اعتنوا إلى حد كبير بمصطلح التخييل، وهمشوا في المقابل مصطلح المحاكاة الذي اعتبر مركزيا في الكتاب، بل إنهم حولوه بدوره إلى مجرد وسيلة للتخييل، بالرغم من أن أرسطو عده جوهر العملية الشعرية، وأبرز من خلاله خصوصية الجوانب الأسلوبية والتركيبية والإيقاعية في الشعر.
وقد رأى بعض الباحثين أنهم أكدوا بذلك سوء فهمهم وشرحهم للكتاب، فأسقطوا طبيعة الشعر العربي على الشعر اليوناني، وأقحموا كثيرا من المصطلحات النقدية والبلاغية العربية القديمة في الكتاب لم تكن موضوع تفكير أرسطو. بيد أن ما غاب على كثير من منتقديهم أنهم كانوا يقدمون قراءة نوعية للشعرية الأرسطية ذات طبيعة تفاعلية، فلم يكن يهمهم النقل الحرفي الدقيق والبسيط لكتاب الشعر، بل التخلص أولا من ركاكة لغة المترجمين بتقديم نص واضح وفصيح، وتقريب الكتاب إلى أجواء الثقافة العربية الإسلامية، وفي هذا الإطار لا حظوا أن أرسطو اقتصر في توظيفه لمصطلح المحاكاة على الجوانب الشكلية، فلم يربطه بالجوانب الخيالية، كما انتبهوا إلى أن حديثه عن الخيال في كتاب النفس ظل معزولا ومقتصرا على الأنشطة الذهنية العادية ولم يشمل المستويات الجمالية، فسعوا إلى بيان العلاقة التي تربط النشاط الخيالي للنفس بفعل المحاكاة، وحرصوا على نحت مصطلح دقيق يؤدي هذا المعنى ويشير إليه، ويسد الثغرة التي ظل يعانيها كتاب الشعر، وذلك من خلال توظيفهم لمصطلح التخييل واعتبارهم المحاكاة وسيلة من وسائله ( د.يوسف الإدريسي: 2012، ص 121.). 
وبالرغم من أن صنيعهم هذا قد أجج انتقادات ومؤاخذات عديدة لدى بعض الدارسين الذين رأوا فيه تشويها لكتاب الشعر وتحريفا لمصطلحه المركزي، إلا أن بعض الأبحاث ذات الطبيعة الحفرية التي قام بها متخصصون في الشعريات اليونانية عامة والأرسطية خاصة انتهت إلى أن استعمال أرسطو لمصطلح: Mimésis لايقصد به المحاكاة أو التقليد ، بل يروم به "التخييل" (G.GENETTE,1991, p 17.)  ، وهو المصطلح الذي سبق أن نحته الفلاسفة المسلمون وشرحوا به مصطلح المحاكاة منذ أكثر من تسعة قرون. فهل كان علينا أن ننتظر انتباه الغرب إلى قيمة اجتهادات أسلافنا حتى نعترف ونعتز بها ونعود إليها ؟
         5-خاتمة:
كان ظهور حركة الترجمة وازدهارها عند العرب لحظة اختبار لمدى قدرة اللغة العربية على مواجهة فكر الآخر واستيعابه والإحاطة به. وقد تبين أن هذه المواجهة بدأت منذ  أواخر صدر الإسلام، وتحولت إلى نشاط رسمي في القرن الثاني للهجرة مع الدولة العباسية، فأسفرت عن ظهور اتجاهين كبيرين ومتباينين في الترجمة عند العرب: يقوم أحدهما بالترجمة الحرفية التي تتقيد بنقل دلالة الكلمة المفردة وبالمحافظة على البنية التركيبية للجملة؛ ويعنى الثاني بالترجمة المعنوية التي تقوم بنقل البنيتين الأسلوبية والتركيبية من النص في لغته الأصلية بما يتوافق مع اللغة الهدف.
وقد أبرز البحث من خلال متابعة ترجمة كتب ارسطو في الشعر والخطابة والنفس جملة المشاكل والصعوبات التي عاناها المترجمون بسبب غياب مقابلات دقيقة للمصطلحات اليونانية النفسية والجمالية، وكذا بسبب جهلهم بالخلفيات الحضارية والمعرفية لتلك المصطلحات، وعدم وجود ممارسة ثقافية وعلمية سابقة تسهل عملهم الترجمي، الأمر الذي بدى واضحا من خلال اضطرارهم إلى تعريب مصطلحات يونانية ثقيلة مثل الفنطاسيا  والوهم والوهمية والحس المشترك والمحاكاة وغيرها من المصطلحات التي لم يكن لهم عهد بها من قبل ...
كما أبرز البحث -من خلال تتبع مناهج المترجمين- أنهم تبنوا في البداية الترجمة التحصيلية، فقاموا بتعريب المصطلحات ونقلها باعتبار بنيتها الصوتية في لغتها الأصل، واستمر هذا المنهج إلى أن ظهر طور جديد من الترجمة حاول أصحابه إيصال المعنى، فنحتوا جملة مقابلات لغوية لتلك المصطلحات المعربة، قبل أن يظهر منهج جديد مع الفلاسفة المسلمين الذين قطعوا مع المناهج الترجمية السابقة، مؤسسين لاتجاه يستبدل الترجمة بالنقل والشرح والتلخيص ، وهو ما أعطى لعملهم حرية أكبر في تقديم العلوم والمعارف اليونانية ، ومكنهم من التخلص من كثير من الإكراهات التي صاحب الترجمة وعاقت عمل المترجمين السابقين.
وقد أوضح البحث من خلال تتبع كيفية نقل المباحث الفلسفية والعلوم العقلانية اليونانية من السريانية إلى العربية قيمة العمل الترجمي المنجز لاسيما لدى الفلاسفة المسلمين الذين تمكنوا من نحت مصطلحات والتعبير عنها ضمن بنيات تركيبة وأسلوبية واضحة وسليمة، بعد أن كان يعبر عنها بلغة بعيدة عن العلمية، الأمر الذي يدل في النهاية على أن اللغة العربية قادرة على مواكبة ما يستجد من علوم ومعارف ونقلها بصورة تدرجها ضمن السياق الثقافي العام، فتجعلها مفيدة في التطور المجتمعي على مختلف الأصعدة ...

ثبت المصادر والمراجع
الإدريسي، د.يوسف. (2012) . التخييل والشعر : حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية، ط1. بيروت، منشورات ضفاف، الجزائر، منشورات الاختلاف.
الإدريسي، د.يوسف. (2009). امتدادات المفهوم الفلسفي للتخييل عند البلاغيين المغاربة، ط1، المغرب، منشورات مقاربات.
أرسطو طاليس. (1979). الترجمة العربية القديمة للخطابة، تحقيق، عبد الرحمن بدوي، ط1. الكويت، وكالة المطبوعات، دار القلم.
 أرسطو طاليس. (1954). في النفس، شرح وتحقيق ومراجعة، عبد الرحمن بدوي، ط1، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية.
أرحيلة، د.عباس. (1999). الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري، ط1. الرباط، منشورات كلية الآداب، الرباط.
بدوي، د. عبد الرحمن. (1987). الفلسفة والفلاسفة في الحضارة العربية، ط1. بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
ابن خلكان، أبو العباس أحمد. (د.ت). وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ط1. تحقيق، عباس، د.إحسان. بيروت، دار الثقافة، بيروت.
ابن رشد، أبو الوليد. (د.ت). تلخيص الخطابة، ط1. تحقيق، عبد الـرحمن بـدوي، والكويت، كالة المطبوعات. بيروت، دار القلم.
ابن رشد، أبو الوليد. (1950). تلخيص كتاب النفس، ط1. تحقيق، د. أحمـد فـؤاد الأهـواني، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية.
ابن سينا، أبو علي. (1966). البرهان، ط2. تقديم وتحقيق، عبد الرحمن بدوي. القاهرة، دار النهضة المصرية.
ابن سينا، أبو علي. (1952). أحوال النفس، رسالة في النفس وبقائها ومعادها، ط1. تحقيق: د. أحمد فؤاد الأهواني، القاهرة، دار إحياء  الكتب  العربية.
ابن سينا، أبو علي. (1956). جوامع علم الموسيقى، ط1. تحقيق، زكريا يوسف، تصدير ومراجعة، أحمد فؤاد الأهواني ومحمد أحمد الحفني، القاهرة، نشر وزارة التربية والتعليم، المطبعة الأميرية.
ابن سينا، أبو علي. (1954). الخطابة من كتاب الشفاء، ط1. تحقيق، د. محمد سالم، تصدير ومراجعة، د.إبراهيم مذكور، القاهرة، نشر وزارة المعارف العمومية، الإدارة العامة للثقافة.
ابن سينا، أبو علي.(1964). القياس من  كتاب الشفاء، ط1. تحقيق،سعيد زايد، مراجعة وتقديم، د. إبراهيم مذكور، القاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية.
ابن سينا، أبو علي.(1952). رسالة في النفس وبقائها ومعادها، ط1. تحقيق، د.أحمد فؤاد الأهواني، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية.
ابن سينا، أبو علي. (1975). النفس من الطبيعيات من كتاب الشفاء، ط1. تحقيق، د. جورج قنواتي وسعيد زايد، تصدير ومراجعة: د. إبراهيم مذكور، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ابن سينا، أبو علي. (1970).عيون الحكمة، ط2. تحقيق: عبد الرحمن بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، بيروت، دار القلم.
عصفور، د. جابر. (1992). الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، ط3. بيروت، المركز الثقافي العربي.
العمري، محمد. (1995). الترجمة بالتلخيص والشرح، حول كتاب "فن الشعر" لأرسطو، استراتيجية  القراءة  العربية"، الترجمة والتأويل، ط1. الرباط، منشورات كلية الآداب، الرباط.
الصفدي، صلاح الدين خليل بي أيبك، الغيث المُسْجَم في شرح لامية العجم ، ط2 ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990.
الكندي، أبو يعقوب يوسف. (1950) رسائل الكندي الفلسفية، ط1، تحقيق، محمد عبد الهادي أبي ريدة، القاهرة، دار الفكر العربي، القاهرة.
الفارابي، أبو نصر. (1973). آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق، د. ألبير نصري نادر.ط1. بيروت، دار المشرق.
الفارابي، أبو نصر. (1971). فصول منتزعة، تحقيق، د. فوزي متري نجار،.ط1. بيروت، دار المشرق.
ابن النديم، أبو الفرج محمد. (د.ت.). الفهرست، ط1، بيروت، دار المعرفة.
G.GENETTE ,Gérard, (1991). Fiction et diction, Pari, éd,seuil.






([1]) قال عنه ابن النديم : «كان خالد بن يزيد بن معاوية يسمى حكيم آل مروان وكان فاضلاً في نفسه وله همة ومحبة للعلوم خطر بباله الصنعة فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصح بالعربية وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة. » (ابن النديم،د.ت. ص 303.)
([2]) يستشف من سياق القول أن الصواب هو: وذلك أن الوهم وليس الحس.
[3] هي ملكة الخيال عند أرسطو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق