الأربعاء، 15 أبريل 2009

النقد المُبَكِّر عند العرب في منظور الدارسين المحدثين

النقد المُبَكِّر عند العرب في منظور الدارسين المحدثين

                                                                  يوسف الإدريسي- المغرب
         
« (...) وقد نقل الرواة من ذلك الشيء الكثير لكنه مفرق في الكتب، لو تتبعه متتبع متمكن من الكتب الواقع فيها ذلك لاستخرج منه علما كثيرا موافقا للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة.»
                      حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء.
        تقديم:
مثلت الثلاثينيات من القرن العشرين لحظة دقيقة في دراسة النقد العربي القديم والتأريخ له، فلم تقتصر على البحث في متونه وإخراج نصوصه وتحقيقها، بل انشغلت أيضا بالتساؤل حول نشأته وبدايات تشكله، وهو مطلب علمي كان ضروريا، واقتضى منهم الحفر عميقا في التراث العربي القديم، لرصد المواقف الجمالية والأحكام النقدية المُبَكِّرَة الدالة على بداية تبلور التفكير النقدي عند العرب، إلا أنه صادف حدثا دقيقا في تاريخ الثقافة العربية الحديثة تمثل في صعود تيارات فكرية متباينة ينطلق كل واحد منها من مواقف مغايرة من التراث، ويحمل "إيديولوجية" خاصة، ويسعى إلى تمريرها وتأكيدها من خلال تبني إجابة محددة عن سؤال نشأة نقد الشعر عند العرب.

ولئن كان ذلك يعني أن سؤال نشأة النقد القديم عند الباحثين المحدثين لا ينفصل في عمقه عن الموقف من التراث ذاته، فإن تقويمهم للنقدات المُبَكِّرَة المتداولة بين الشعراء والمتأدبين والعلماء وغيرهم ظل متأثرا إلى حد بعيد بكثير من التصورات ذات الخلفيات الفلسفية والفكرية، والتي كان يفرض تبنيها الانتهاءَ إلى نتائج مسبقة.  
ذلك أن كل الباحثين الذين طرحوا سؤال النشأة وسعوا إلى تقييم تلك النقدات كانوا يصدرون عن مفاهيم مختلفة للنقد وتحديدات متباينة له، وكان يحتم ذلك عليهم-ضرورة- صياغة أجوبة مختلفة، وبلورة تقييمات متفاوتة له. ويفيد تأمل تلك المفاهيم والتحديدات أن الاختيار لم تكن تحكمه محددات علمية خالصة، بل كانت توجهه قناعات مذهبية ومواقف فكرية مسبقة، وأن التوسل بتصور معين للنقد أو تعريف خاص له إنما كان ينشد –بالرغم من العبارات الموهمة بالكشف عن الحقيقة واستجلائها– الانتصار لتأويل خاص والانتهاء إلى تفسير معين دون آخر. وهو أمر لا يقتصر على أولئك الباحثين، بل ينطبق أيضا على كل دارس يحدد قبل اختيار موضوعه منهج مقاربته ومفهوما خاصا له[1].      
ويكفي لتبين ذلك الوقوف عند بعض الدراسات التي سعت إلى التأريخ لنشأة نقد الشعر عند العرب، وحاولت اتخاذ موقف "علمي" واضح ودقيق من نقداته المُبَكِّرَة، وهي دراسات تأثر أصحابها بالصراعات السياسية والمذهبية التي كانت معتملة في المشرق العربي مع بدايات الثلاثينيات من القرن العشرين، فانقسمت –جراء ذلك-مواقف أصحابها بين اتجاهين بارزين: أحدهما سلفي يتبنى الفكر التأصيلي، ويتخذ مواقف منتصرة للتراث وممجدة للمنجزات العلمية للقدامى؛ وثانيهما حداثي يمجد الغرب وينبهر به مطالبا بالتخلي عن نتاجات السلف، واتباع –بدل ذلك- ما يقدمه الغرب.
ولئن كنا قد ميزنا بين مختلف مستويات قراءة النقد القديم وتقويمه عند الدارسين بين اتجاهين: سلفي وحداثي، فإن ذلك لا يعني أن أصحاب الاتجاهين معا كانوا متفقين في الأحكام والنتائج التي خلصوا إليها بخصوص كينونة هذا النقد والقيمة النظرية والإجرائية لآرائه وتصوراته، بل إن رؤيتهم العامة وتصورهم الفكري والمذهبي هو ما كان يوحدهم؛ أما ما دون ذلك فإنهم كانوا يختلفون في تأويل النقدات المُبَكِّرَة وتقييمها، وفي التحديد الدقيق لمرحلة نشأة النقد العربي القديم، ولعل تلك الاختلافات راجعة بالدرجة الأولى إلى تباين تصوراتهم وتحديداتهم لمفهوم النقد وشروط نشأته وتحققه وتطوره، أكثر مما كانت منبنية على قراءة علمية دقيقة لمرحلة النقدات المُبَكِّرَة وتأويل عميق لها ضمن شروطها التاريخية والمعرفية. ويكفي لبيان ذلك متابعة بعض النماذج التأويلية وعرضها.
1- الطفولة الضائعة للنقد:
يعد طه إبراهيم من أوائل الدارسين الذين أولوا عناية كبيرة لدراسة التراث النقدي عند العرب والتأريخ له، فقد كان خلال الثلاثينيات من القرن العشرين أستاذا للنقد العربي القديم في جامعة الأزهر، وجمع طلبته –بعد وفاته- دروسه، وأشرف على نشرها الأستاذ أحمد الشايب سنة 1937، وذلك في كتاب خاص تضمن « التصورات التأريخية الأولى للنقد الأدبي العربي القديم، وضمنها طرح طه إبراهيم قضيتي (النشأة) وبداية (التأريخ) لهذا النقد.»[2]
وحين قراءتنا للكتاب نلاحظ أن صاحبه حرص منذ البداية على التعبير عن تصوره لنشأة النقد عند العرب، فربطه بنشأة الشعر عندهم، يقول معبرا عن ذلك: «1-إننا لا نعرف هذا الشعر إلا ناضجا كاملا، منسجم التفاعيل، مؤتلف النغم، كما نقرؤه في المعلقات، وفي شعر عشرات الجاهليين الذين أدركوا الإسلام أو كادوا يدركونه. 2- وأن هذا الشعر عربي النشأة: عربي في أعاريضه ونهجه وأغراضه وروحه(...) 3- وأن هذا الشعر مر بضروب كثيرة من التهذيب حتى بلغ ذلك الاتقان الذي نجده عليه أواخر العصر الجاهلي(...) فلم يكن طفرة أن يهتدي العربي لوحدة الروي في القصيدة، ولا لوحدة حركة الروي، ولا للتصريع في أولها، ولا لافتتاحها بالنسيب والوقوف بالأطلال؛ لم يكن طفرة أن يعرف العرب كل تلك الأصول الشعرية في القصيدة، وكل تلك المواضعات في ابتداءاته مثلا؛ وإنما عرف ذلك كله بعد تجارب، وبعد إصلاح وتهذيب. وهذا التهذيب هو النقد الأدبي، إذا كانت طفولة الشعر العربي قد غابت عنا، فإن طفولة النقد العربي غابت معها. وإذا كنا لا نعرف الشعر العربي إلا متقنا محكما قبيل الإسلام، فإننا لا نعرف النقد إلا في ذلك العهد. وأقدم النصوص التي تدل عليه تعزى في الغالب الكثير إلى الشعراء الذين نهضوا بالشعر وقووه[3]
         تعتبر العلاقة بين الأدب والنقد في منظور طه إبراهيم مترابطة ومتفاعلة إلى حد يصعب فصل أحدهما عن الآخر، فالأدب لا يقوم -ولا يتطور- إلا بوجود حركة نقدية مصاحبة له ومقومة لأساليبه ورؤاه، كما أن النقد لا يتشكل -ولا يشتغل- دون وجود عمل أدبي. ومن هذا المنطلق أكد أن الشعر الجاهلي لم يكن لينضج ويبلغ درجة عليا من الإتقان وحسن البناء الأسلوبي والتناغم الإيقاعي لو لم تلازمه وتصاحبه حركة نقدية حرص القائمون عليها على توجيه الشعراء الجاهليين، وفي رأيه أن أبرز دليل على وجود هاته الحركة النقدية اتفاق الشعراء الجاهليين –بالرغم من تباعد المسافة الزمنية والجغرافية بينهم في شبه الجزيرة العربية- على شكل فني متماثل في صناعة القصيدة، بحيث كانوا يستهلونها بالنسيب والوقوف على الأطلال لينتقلوا بعد ذلك إلى غرضهم الشعري الأساس، فيحرصون في هذا وذاك على بنائها على إيقاع عروضي واحد، بحيث يقيمون وزنها على بحر شعري واحد، ويفتتحون مطالعها بالتصريع، وينهون كل بيت من أبياتها بقافية واحدة وروي واحد.
        وبناء على كل ذلك يؤكد أن ليس مصادفة أن يتفق كل الشعراء الجاهليين والإسلاميين ويلتزموا بهاته الخصائص البنائية، وأن ذلك إنما تحقق بفضل رسوخ رؤية فنية خاصة نتجت عن سيادة "فعل نقدي" كان يوجههم ويقوم نصوص الأولين منهم، قبل أن يصل بها إلى هاته الدرجة من النضج الفني والتماسك البنيوي.
ولئن كان طه إبراهيم يؤكد بذلك تلازم الحركتين الشعرية والنقدية عند العرب منذ الجاهلية، فإنه يرى أن إرهاصاتهما وتجلياتهما الأولى قد ضاعتا، فلم يصل منهما ما يدل عليهما، ويسمح برسم ملامحهما، فوصلنا الشعر كاملا ناضجا، وضاعت بذلك طفولته وضاعت معها طفولة النقد أيضا.
وهو في هذا وذاك يتبنى تصورا مفهوميا للنقد هو أقرب منه إلى المعنى اللغوي منه إلى المعنى الاصطلاحي، فالنقد عنده هو عملية إصلاح وتهذيب أساسا، « وهذا التهذيب هو النقد الأدبي» كما يعبر بنفسه، ومن هذا المنطلق فمن الجائز -بل والضروري- أن يتكفل الشعراء والمتأدبون بممارسة هاته العملية "النقدية" ذات الأساس التهذيبي، وأن ينهضوا بتقويم الشعر وإصلاح ما اعوج منه، وفي الوقت نفسه من المنطقي –بل والطبيعي أيضا- أن تحتفظ لنا الذاكرة الثقافية العربية القديمة بالشعر وحده، وأن تحجب عنا "النقد المبكر" ما دام تأخر عصر التدوين، وهيمنة طبيعتها الشفوية لم يسمحا بحفظ كل نتاجاتها[4].
إن تبني طه إبراهيم لتصور مفهومي للنقد لا يروم الدفاع عن أطروحة ضياع "طفولة النقد" فحسب، بل ينشد أساسا قراءة لحظة نشأة الممارسة النقدية العربية القديمة استنادا إلى آليات وتصورات خاصة تسمح بتبني تأويل خاص لها، يبرؤها من أي أثر دخيل، ويرجع تفاعلها مع العلوم الدخيلة للأمم الأخرى إلى ما بعد النصف الثاني من القرن الثالث للهجرة، وتحديدا إلى ما بعد أبي عثمان الجاحظ[5]، ولذلك فإلحاحه على أن الشعر عربي النشأة، إنما يروم في الوقت ذاته تأكيد عروبة النقد المبكر وأصالته، لكونه انبنى على تجارب متعددة ومواكبات متوالية للقصيدة الجاهلية قبل نضجها واكتمال تشكلها.
وقد كان طه إبراهيم يرد -ضمنيا- بموقفه هذا على دعوى المستشرقين وبعض رواد الفكر الحداثي المصريين، خاصة أمين الخولي (ت1966 هـ) وطه حسين (ت1973هـ) اللذين قدما بحثيهما سنة 1931م في الفترة نفسها التي كان يدافع فيها عن هذا التصور، وهما البحثان اللذان انتهيا فيهما إلى الإقرار بفضل اليونان على العرب في نشأة البيان العربي[6]، فأبرز بدل ذلك أن لا وجود لأنفاس أرسطية في النقد القديم قبل القرن الثالث، وأن مع بداية هذا القرن سيتخذ النقد عند العرب وجهتين: إحداهما أصيلة، والأخرى متأثرة بالمنطق والفلسفة والجدل.
2- إرهاصات نقدية في القرنين الأولين للهجرة:
وبعد ثمان سنوات من صدور كتاب طه إبراهيم سيصدر د.أمجد الطرابلسي كتابه: نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس للهجرة سنة 1945م. والكتاب -وإن اختلف في منهجه ورؤيته عن كتاب طه إبراهيم وغيره من الكتب التي ظهرت في مرحلة متقاربة[7]- لم يخرج في طابعه العام عن التأريخ للنقد العربي القديم، والتساؤل عن طبيعة "النقدات المبكرة" وقيمتها، وهو ما يبدو جليا من خلال الفصل الأول من القسم الأول من الكتاب الذي خصه لدراسة: "النقد الشفوي في القرن الأول والثاني للهجرة".
وحين قراءة هذا الفصل يتبين أن أمجد الطرابلسي ينطلق منطلقا تأويليا مغايرا لسلفه، بحيث لا يدعي وجود طفولة ضائعة للنقد القديم منذ الجاهلية، وإنما يعتبر أن الأحكام والآراء التي تنسب إلى الرعيل الأول من الشعراء والمتأدبين تعكس -بالرغم من صعوبة إثباتها كلها أو نفيها جميعها- جانبا من النشاط الجمالي الذي رافق قول الشعر عند العرب، وتدل على« أن نقد الشعر قد استهوى العرب منذ الفترة الجاهلية.»[8]
ومن ثمة فهو يرى أن المدخل الملائم لدراسة نقد الشعر عند العرب وتأويله يتمثل في ضرورة البداية من اللحظات المبكرة لنشأته، والبحث عن الملامح العامة والإرهاصات الأولى الدالة على بداية تشكل التفكير النقدي عند العرب.
ويبدو من خلال متابعة مقاربة أمجد الطرابلسي لهذه اللحظة من تاريخ نقد الشعر عند العرب أنها تميزت بعمق النظر ودقة التأويل، إذ إنه لا يسلم بكل الآراء والنقدات المنسوبة لهذه اللحظة، كما أنه لا يرفضها جملة وتفصيلا، ولكنه يتأملها ويفحصها بالصورة التي تسمح له بالتمييز "بين الصحيح منها والزيف"[9]، وهو إلى جانب هذا وذاك يؤكد أن أهمية الآراء والأحكام التي تنسب إلى ما سمي مرحلة النقد الشفوي تكمن في أنها تمثل – بالرغم مما توسم به من انطباعية وتجزيئية – مرجعا نظريا رئيسا لمرحلة النقد المدون؛ إذ سيوظف النقاد اللاحقون تلك الآراء والأحكام الشفوية لدعم تصوراتهم وتأكيدها. يقول بهذا الصدد: « لقد ورث النقد المدون عن العصر الجاهلي وعن القرنين الأولين للإسلام كل هذا التراث الشفوي الغزير الواعد والبسيط الساذج. وهو إرث سيحافظ عليه ورثته المباشرون أشد المحافظة وسيحترمونه ويؤمنون به ويقدسونه، وقليلا ما يعارضونه؛ وسيحرصون على أن يحلوا بشواهده مؤلفاتهم النقدية» [10].
يدل هذا الموقف الذي اتخذه أمجد الطرابلسي من الطور الشفوي عند العرب في مستهل دراسته دلالة واضحة على أن قراءته للتراث لا تسقط عليه التصورات والأحكام الجاهزة، فلا ينبري للدفاع المتعصب عليه دون سند منهجي وحجة نصية، ولا يتصدى لكل النقدات الموروثة رافضا إياها بدعوى عدم نضجها النظري ووضوحها المنهجي وتماسكها الإجرائي، بل إنه يقرؤه من داخله وفي علاقته بشروطه المعرفية وسياقاته التاريخية، محاولا –في ذلك- الكشف عن منطقه الثقافي الخاص. وهو ما قاده إلى اعتبار أن النقدات الشفوية التي تواثرت على ألسنة الشعراء والعلماء والرواة واللغويين هي جزء لا يتجزأ من هوية التراث النقدي، وبالتالي لا يمكن لأي حديث عن هذا التراث أن يكون كاملا ودقيقا بدونها.
إن تركيز العلامة أمجد الطرابلسي على تحديد الأصول المعرفية التي أثرت في تأسيس النقد العربي أمر هام جدا؛ لأنه وفضلا عن أنه سيمكن من رسم صورة واضحة عن الملامح النظرية التي وسمت المصطلحات النقدية الأولى، سيفيد لاحقا في تتبع التطور النظري والإجرائي لتلك المصطلحات، وسيمكن بالتالي من معرفة طبيعة التحولات التي طرأت على التفكير النقدي عند العرب عبر سيرورته التاريخية. وهذه مسألة أساس بالنسبة إلى المؤرخ الأدبي؛ لأنها ستمكن من الجواب عن التساؤل الآتي: هل تطور النقد العربي نتيجة وعي نظري من صميم الثقافة العربية الإسلامية؟ أم بفعل تأثره بالثقافات الوافدة ؟
ومن الملاحـظ أن الفرق بين طه إبراهيـم وأمجد الطرابلسي يتمثـل فـي أن طه إبراهيم اكتفى بتسطير الأحكام والتصورات الكبـرى حول طبيعة النقد المبكر وقيمة نصوصه، فركز على التطـور التعاقبي للنص النقـدي القديم، وكان كتابه عبارة عن « ملخصات تعرف بنقاط التعاقب التي عرفها نقد الشعر عند العرب، دون أي محاولة لبناء هذا النقد بناء مفهوميا أو نظريا قد نستطيع استحضاره وتوظيفه ضمن نقد شعري جديد ومطبوع بسمات الفكر العربي أو معالمه. »[11]؛ أما أمجد الطرابلسي فلم يقتصر على رصد التطور التعاقبي لذلك النقد، بل حرص على المتابعة الدقيقة والعميقة لمختلف نصوصه، فتجاوز « السقوط في الانطباعية التي اتصف بها جهد الأستاذ طه إبراهيم (...) »[12] ، فتميزت دراسته بجمعها بين جانبين: تاريخي، ونظري مفهومي[13]، وهو ما مكنها من حسن تأطير مرحلة النقد المُبَكِّر، ودقة الربط بينها وبين مختلف المراحل اللاحقة، كما سمح لها بالتميز –في المقاربة والتأويل- على كثير من الدراسات اللاحقة، ومن بينها دراسة محمد مندور.
3-المنهج شرطا للنقد:
خلافا لطه إبراهيم وأمجد الطرابلسي حرص محمد المندور على التشطيب على كل المنجزات النقدية قبل القرن الرابع للهجرة، فلم يقتصر على رفض النقدات المبكرة السائدة خلال الجاهلية والإسلام، بل رفض أيضا الاعتراف حتى بالكتب والمدونات النقدية التي ظهرت خلال القرن الثالث وبداية القرن الرابع.
فبالرغم من أنه بدأ كتابه بالوقوف عند الكتب النقدية السابقة لابن سلام الجمحي (ت 231هـ) وابن قتيبة (ت 276هـ) وابن المعتز (ت 296هـ) وقدامة بن جعفر (ت 337هـ) فأفرد لكل واحد منها وقفة خاصة، إلا أن وقفته تلك كانت بغاية التأكيد على خول كل منجزات أولئك النقاد من النقد بالمعنى الدقيق للكلمة كما يفهمه ويتصوره، وهو معنى يرتبط عنده بتصور مفهومي خاص يشترط الوضوح النظري والبناء المنهجي المحكم للاعتراف به، ويتضح هذا التصور المفهومي من قوله: « لاحظنا إذن أن نقد القرن الرابع قد  كانت له أصول كما كانت له فروع، فوسعنا من مجال البحث، ولكن مع حصره في المتخصصين من النقاد ومؤرخي الأدب، بحيث لم نقف وقفات خاصة عند نقد الشعراء والمحكمين في أسواق الأدب وماشاكل ذلك مما نجده في تضاعيف كتب الأدب والرواية القديمة، وذلك لكي نظل في حدود الفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب وهي معالجة النقد المنهجي عند العرب. والذي نقصده بعبارة النقد المنهجي هو ذلك النقد الذي يقوم على منهج تدعمه أسس نظرية أو تطبيقية عامة، ويتناول بالدرس مدارس أدبية أو شعراء أو خصومات يفصل القول فيها ويبسط عناصرها ويبصر بمواضع الجمال والقبح فيها. ولقد اتخدنا مركزا لهذا البحث الناقدين الكبيرين (...) الآمدي صاحب كتاب الموازنة بين الطائيين، والقاضي(...) الجرجاني صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه.» [14]
يتبين من خلال هذا النص أن محمد مندور يعتبر المنهج أساسا لكل عملية نقدية، ولذلك فهو يؤكد أن دارس الأدب لايستحق صفة الناقد ما لم يتوسل في دراسته للنصوص الأدبية بأسس نظرية واضحة، ويغنيها بتحليلات دقيقة وتطبيقات عميقة تؤكد نجاعة نظريته وقيمتها المنهجية.
ولئن كان يعتبر المنهج شرطا لكل عملية نقدية، فإنه لا يفصل بين النقد والفن، ففي تصوره أن « النقد في أدق معانيه هو "فن دراسة النصوص والتمييز بين الأساليب المختلفة" وهو روح كل دراسة أدبية إذا صح أن الأدب هو كل المؤلفات التي تكتب لكافة المثقفين " لتثير لديهم بفضل خصائص صياغتها صورا خيالية أو انفعالات شعورية أو إحساسات فنية."»[15]
 وما يشير إليه محمد مندور هنا يعني أن مفهوم النقد عنده يقوم على أساسين، فهو "فن" و"دراسة"، وأن يكون النقد فنا معناه أنه لا يخضع للقواعد العلمية الصارمة، وأن « شخصية الناقد وذوقه وخبرته واستجابته المباشرة تلعب دورا أساسيا في الممارسة النقدية.»[16]؛ أما أن يكون دراسة فمعناه ضرورة أن يتسلح الناقد « بالعلوم التي لها صلة بالأدب وخصوصا علوم اللغة حتى تعصم استجاباته الشخصية من الشطط وتجنبه الأحكام الجزافية.»[17]
لقد كان محمد مندور يرفض -باشتراطه قيام النقد على "الذوق الفني" و"الخبرة العلمية"- نوعين من "النقد" سادا عند العرب منذ القدم، هما النقد التأثري الانطباعي الذي كان رائجا في الأسواق وحلقات المذاكرة والمنتديات العربية الجاهلية والإسلامية، وكان يكتفي فيه أصحابه بتسطير جملة من الأحكام والآراء دون تعليلها والاستدلال عليها؛ والنقد الموضوعي الصارم الذي ينتصر للقواعد الصلبة واليقينية ويحرص على تطبيقها في غياب تام للميول الذاتية والانطباعات الفنية لشخصية الناقد، كما هو الحال مع قدامة بن جعفر وأبي هلال العسكري.
ولئن كان قد شطب بذلك على كثير من المنجزات النقدية القديمة، فذلك لأنه لم يكن يعنيه من النقد إلا ما يتوافق مع مفهومه له، وهو ما لم يجده متحققا إلا لدى الآمدي في كتابه: الموازنة بين الطائيين، والجرجاني في كتابه: الوساطة بين المتنبي وخصومه، بحيث قال عنهما: « وفي الحق إن النقد العربي لم يخلف غير كتابي " الموازنة" و " الوساطة"، ففيهما نجد النقد بأدق معاني الكلمة. إذ يتناول الكتاب الأول شعر أبي تمام وشعر البحتري ينقدهما نقدا دقيقا مفصلا: نقدا منهجيا. كما يتناول الثاني المتنبي بالنظر في شعره وتفصيل ما له من فضل والرد على خصومه او التماس الأعذار له.»[18]
إن هذا المفهوم الدقيق والخاص للنقد الذي تبناه محمد مندور لا ينطلق من طبيعة النقد العربي القديم وخصائصه النظرية ومرتكزاته العلمية، كما أنه لا يعنى بالنظر إليه ضمن الشروط التاريخية والمعرفية التي أنتجته، ولكنه يبحث من خلاله عن مدى مطابقة التراث النقدي عند العرب لمفهوم النقد كما تبلور مع الناقد الفرنسي غوستاف لانسون، ومن ثمة فكل من التقى مع هذا التصور ووافقه يستحق عنده أن يسمى عمله نقدا، وكل ما خالفه يصبح اشتغاله مجرد ممارسة بعيد عن روح النقد وجوهره.
ومما لا شك فيه أن محمد مندور برفضه للقواعد الصلبة واليقينية عند النقاد العرب، ولاسيما قدامة بن جعفر، كما أنه ببحثه « الحثيث عن نظرية نقدية تراعي ما يشبه قواعد قدامة، دون أن تلغي شخصية الناقد وميوله وثقافته، لم يكن في عمقه سوى رد فعل حيوي بإزاء دراسة الدكتور أمجد الطرابلسي»[19]، إلا أن صنيعه هذا يظل –وبالرغم من اتكائه على المنهج التاريخي[20]- غير تاريخي في ذاته، لكونه يبحث بين النقاد العرب القدامى عن شخصية تشبه لانسون ليجعلها تردد مقولاته وتتفق مع تصوراته، دون اعتبار لمنطق التاريخ وسيرورة العلم والمعرفة وتطورهما.
4-التدوين أساسا للنقد :
إذا كان محمد منـدور يصعـد بنشأة النقد العربي القديـم إلى أواخر القرن الرابع للهجرة، فإن د.إحسان عباس يرى أن النقد بدأ قبل ذلك التاريخ بكثيـر، بحيث أرجعه إلى بداية ظهور النقد المدون والمنظم في أوائل القرن الثالث للهجـرة مع الأصمعي (ت216هـ) ابن سلام الجحمي(ت231هـ) يقول معبرا عن ذلك: « النقد في حقيقته تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامة أو إلى الشعر خاصة يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبر منها إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم (...) ومثل هذا المنهج لايمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفويا؛ إذ الاتجاه الشفوي لايمكن من الفحص والتأمل، وإن سمح بقسط من التذوق والتأثر، ولهذا تأخر النقد المنظم حتى تأثلت قواعد التأليف الذي يهيء المجال للفحص والتقليب والنظر.»[21]
فكما هو الشأن بالنسبة إلى كل الدارسين المحدثين ينطلق إحسان عباس في تصوره للنقد من مفهوم خاص، بحيث يعتبر أنه لا يمكن أن يكون موقفا تجزيئيا في التعامل مع العمل الأدبي، بل إنه انعكاس لموقف "كلي متكامل"، أساسه الأول التذوق بما هو قدرة خاصة لدى الناقد على التمييز بين مستويات الجمال في النص الأدبي، ومظاهر القبح أو الاختلال فيه، ثم بعد ذلك ينتقل الناقد إلى مستوى "التفسير والتعليل والتحليل والتقييم"، وهي عمليات فكرية وشروط نقدية لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل وضوح المدونة الشعرية القديمة، وتبلور الآليات النظرية والأجهزة التحليلية لدراستها وتقييمها، وهو ما لم يتحقق إلا أواخر القرن الثالث للهجرة، وتم التعبير عنه من خلال ظهور نقد مؤسس ومنظم سعى رواده إلى القطع مع النقد السابق عليهم الذي اتسم بالتشتت والتفكك.
فقد راج عند العرب خلال الجاهلية والقرنيين الأولين للهجرة "نقد" اتسم بمجمله بالتجزيء والسطحية، ولم تكن له قواعد تسنده وتؤكد أحكامه، لأنه كان « يدور في مجال الانطباعية الخالصة، والأحكام الجزئية التي تعتمد المفاضلة بين بيت وبيت أو تمييز البيت المفرد أو إرسال حكم عام في الترجيح بين شاعر وشاعر.»[22] ، ومن ثمة يرى إحسان عباس أن انعطاف الشعر الكبير بتحوله من "الصحراء" إلى "المدينة"، ومااقتضاه ذلك من تغيير لنمط التعبير وأشكاله الأسلوبية، كما أن تغير اللغة الشعرية بظهور صيغ تعبيرية واتجاهات فنية ومذهبية جديدة، وانتشار ظواهر اللحن والانتحال في الشعر كل ذلك مهد لظهور النقد وقيامه على أسس واضحة ودقيقة، بل واستقلاله بعلم خاص به وعلماء متخصصين فيه، وهو ما تمثل لديه مع الأصمعي وابن سلام الجمحي، فقد قطع الأول مع كثير من النظرات الساذجة عند السابقين، واهتدى إلى مواقف نقدية واضحة[23]، بينما انتقل الثاني بالنقد من مجال المشافهة إلى التدوين فكان أول من أفرد الناقد بدور خاص به، و« من أول من نص على استقلال النقد الأدبي»[24].  
ومن الواضح أن تصور إحسان عباس تأثر إلى حد بعيد بالمنهج الوضعي الذي يؤمن بالتجريب ويشترط السند المادي للحكم على الأشياء والظواهر، ولذلك احتل عنده النقد السابق على ظهور كتاب الجمحي درجة دنيا، فلم يعترف به أويتوقف عنده طويلا، لأنه كان غير منظم، ولم يصدر فيه أصحابه عن موقف نقدي واضح ومنسجم، كما أنه بقي محصورا في مجال التداول الشفوي، دون أن يرقى إلى مجال التدوين، فيتحول إلى عمل مكتوب ومستقل.
 لقد كانت مسألة التأريخ للنقد العربي القديم هامة جدا عند الكثير من الباحثين الذين اهتموا بدراسته وتقويم منجزه النظري والتطبيقي، ولذلك أفردوها بوقفات خاصة، وطويلة أحيانا، ويبدو أن أهميتها وإلحاحها هو ما جعل حتى أولئك الذين لم يهتموا بالجانب التأريخي للنقد العربي يقفون عندها ويبدون مواقف بخصوصها، ولعل من بين أهم هؤلاء محمد غنيمي هلال الذي خصص مبحثا ضمن الفصل الأول  من الباب الثاني من كتابه للبحث في " نشأة النقد العربي" وبيان خصائصه العامة، والنظر في مدى تأثره بأرسطو[25].
5- الفلسفة مدخلا للنقد:
ففي رأي محمد غنيمي هلال لا قيمة "للنقدات المبكرة" التي راجت بين الشعراء واللغويين والمتأدبين وغيرهم خلال القرون الأولى للهجرة، ومن ثمة فلا مبرر للاهتمام بها، وهو رأي يعبر عنه بوضوح في قوله: « لا نعد من يصدر الأحكام على العمل الأدبي –دون تبرير فني- ناقدا، وإن أصاب. إذ ما أشبهه حينئذ بالساعة الخربة، تكون أضبط الساعات في وقت من الأوقات، لكنه لا يلبث أن يتكشف زيفها.»[26] ، ويقول أيضا في السياق نفسه: « طبقا لما اتخذنا لأنفسنا من منهج، ولما عرفنا به النقد الحديث، لن نعبأ في نشأة النقد العربي بالأحكام العامة التي كان يصدرها الشعراء في القديم بعضهم على بعض مع عدم التعليل لها، مما يروى بعضه في أسواق الجاهلية إذا افترضنا صحته، وكثير منه واضح الانتحال. ويلتحق بذلك ما كان يدور في نظير هذه الأسواق الجاهلية في العصر الإسلامي، كسوق المربد بالبصرة (...)»[27]
  وحين متابعة تصورات غنيمي هلال وأحكامه على النقد عامة والنقد العربي القديم خاصة، نلاحظ أنه ظل يلح على الترابط الوثيق بين النقد والعلوم الإنسانية، وفي مقدمتها الفلسفة، لأنه لا يمكن - في تصوره - لأية ممارسة نقدية أن تتصف بالعلمية، فتحيط بمختلف مستويات النص الأدبي على نحو عميق ودقيق مالم تتسلح بتصورات فلسفية وآليات منهجية واضحة ومتناسقة، وأن تقوم مفاهيمها النظرية وآلياتها الإجرائية على أساس استثمار النتائج التي توصلت إليها العلوم الإنسانية الحديثة، وهو ما يعبر عنه بقوله: « (...) للنقد صلة وثيقة بالعلوم الإنسانية التي تدرس نشاط الإنسان بوصفه إنسانا كالفلسفة بفروعها المختلفة، والتاريخ وعلوم اللغة والاجتماع والنفس (...) وقد ارتبط النقد –منذ أقدم عصوره عند اليونان- بالفلسفة، حتى صار فرعا من فروعها، وقد ازداد هذا الارتباط وضوحا في عصور النقد الحديثة، وبخاصة في عصرنا، إذ أصبح النقد مرتبطا كل الارتباط بعلوم الجمال التي هي من فروع الفلسفة.»[28]     
من هذا المنطلق تابع غنيمي هلال التصورات والأحكام التي راجت عند العرب حول الشعر والشعراء في الجاهلية والإسلام والعصر الأموي، فوجدها لا ترقى إلى مستوى النقد، لأنها ظلت بدائية في عمومها، بالرغم مما اتصف به بعضها من «ضرب من التعليل الموضوعي»[29]، فانتهى به التأويل الذي استند إليه إلى نتيجة أساس مؤداها: أن العصر العباسي يمثل اللحظة الحقيقية التي أشَّرَت على بداية الامتزاج بين النقد والفلسفة، لكونه لحظة شهدت -معرفيا وتاريخيا- اتساع الحضارة العربية الإسلامية، ودشنت لاتصال العرب الوثيق بثقافات الأمم الأخرى، لا سيما اليونان والفرس، فظهرت –نتيجة ذلك- اتجاهات أدبية ونقدية تمتح من « النقد اليوناني قليلا أو كثيرا، في حدود ما استطاع النقاد العرب فهمه»[30].
ولئن كانت أهمية العصر العباسي في تصوره تتجلى في كونه مكن النقاد العرب من الانفتاح على الفلسفة اليونانية، فإنه يأسف كثيرا لأنهم لم يستفيدوا –حق الاستفادة- من النقد اليوناني، وهو ما يعبر عنه بقوله: « وفي النقد العربي القديم كان للفلاسفة فضل ترجمة أرسطو وشذرات من نقد أفلاطون وغيره من النقاد العالميين بقدر ما استطاعوا أن يترجموا أو يفهموا. ولعل مما يؤسف له أن نقاد العرب أفادوا – تبعا لا أصالة – من بعض ما ترجم فلاسفتنا القدامى، دون أن يدركوا النظريات الكلية للنقد القديم اليوناني، لأن الفلسفة كانت لديهم منفصلة عن النقد. »[31]
تكمن قيمة هذا النص وأهميته في كونه يعطي صورة واضحة عن نوعية التأويل الذي يحكم قراءة غنيمي هلال للتراث النقدي ويوجهها، فقد انطلق من حكم راسخ وثابت وسعى إلى البرهنة عليه والبحث عما يؤكده ويزكيه، وهو أن لا انفصال بين النقد والفلسفة، وأن النقد العربي كان بعيدا عن روح الفلسفة ومنهجها، ولذلك كان يفتقد لأية قيمة أو أهمية. ولئن كان هذا الرأي يتناقض مع الحكم الذي أصدره على قدامة بن جعفر حين اعتبره ممن فهم نظرة أرسطو إلى العمل الأدبي بوصفه كلا ذا وحدة وأحسن تطبيقها[32]، فإن أكبر تناقض وقع فيه "تسليمه" في النص السابق بأن النقاد العرب استفادوا من بعض النظريات والتصورات الفلسفية التي شرحها الفلاسفة المسلمون، وتأسفه في الوقت ذاته على عدم إدراكهم لها ضمن بنائها الكلي، فكيف يمكن الاستفادة من نظرية دون إدراكها وحسن فهمها ؟!
والواقع أن غنيمي هلال لا يخرج في قراءته للتراث النقدي عامة، وتأويله للنقد المبكر خاصة، عن الإطار العام الذي انتظمت ضمنه القراءات والتأويلات السابقة، فهو بربطه النقد بالفلسفة، واشتراطه قيامه عليها حدد الموقف الذي سيحكمه في تعامله معه، وهو ما لم يختلف به عن الدارسين السابقين باستثناء أمجد الطرابلسي الذي حرص منذ البداية على قراءة التراث النقدي والحكم على النقدات المبكرة في إطارها التاريخي وسياقها الجمالي، فلم يتسلح بتصور مفهومي مسبق للنقد، ولم يسع إلى البحث عن النصوص التي تتوافق مع ذلك التصور، بل حرص على أن يستنبط مفهوم النقد من خلال حركية نصوصه وتحولات أذواق أصحابها الفنية والجمالية عبر مختلف مراحل نشأته وتطوره.
ولاشك أن البحث عن البدايات الأولى للفكر النقدي عند العرب ليس أمرا هينا، فهو يتطلب دراية عميقة وشاملة بالمدونة النقدية القديمة، ويقتضي التسلح برؤية منهجية لا تلوي أعناق النصوص ولا تطوعها لتؤكد قناعات وأحكام سابقة، بل تنصت إلى نبضها، وتمسك بالخيط الناظم لها، بالرغم من التباعد والتناقض الذي قد يبدو بينها.
ولئن كنا قد اعتبرنا أن أمجد الطرابلسي قد تميز بقراءته التأويلية لمرحلة النقد الشفوي عن كل الدارسين الذين قاربوا هاته المرحلة، فذلك لأن الرجل استطاع أن يحل إشكالا يتناقض مع كل النتائج التي خلصوا إليها، وهو إشكال يلخصه التساؤل الآتي: ما السبيل إلى التعامل مع النصوص التي تنتمي إلى النقد المدون، والتي ظلت تبني منجزاتها ومشاريعها النقدية على أساس التصورات والأحكام التي سادت خلال القرنين الأولين للهجرة ؟
فبمراجعتنا لكتب ابن سلام الجمحي والآمدي والقاضي الجرجاني وقدامة بن جعفر وغيرهم نلاحظ أنهم دأبوا على الاستشهاد بنصوص مرحلة النقد المبكر التي وسمت بالانطباعية والتأثرية والتجزيئية، بل إن كثيرا من تصوراتهم قامت على أساس شرح بعض ما غمض في النقد المبكر والبرهنة على صحته ودقته.
لقد أدرك أمجد الطرابلسي - خلافا لجل الباحثين المحدثين- هاته الحقيقة وانطلق منها في تقويم "النقد المبكر"، فاعتبره حلقة أولى وضرورية في سلسلة النقد القديم، وأكد بناء على ذلك ألاسبيل إلى فهم هذا النقد في مراحل نضجه وتطوره دون ربطه ببداياته الأولى. وبهذا الرأي كان يجيب على سؤال هام ودقيق لا مناص من طرحه في أية دراسة تروم الإحاطة بتاريخ التراث النقدي وتنشد أن توصف بالدقة والعلمية، ألا وهو ما موقف النقاد القدامى ذاتهم من مرحلة "النقد المبكر" ؟ وهل كان لهم وعي بضرورة اتخاذ موقف من هاته المرحلة قبل صياغة مشاريعهم النقدية ؟ أم أنهم أهملوا الحديث عنها ولم يولوها عناية كبيرة ؟
  بالعودة إلى المدونة النقدية القديمة يلاحظ أن النقاد القدامى كانوا واعين بطرح هذا السؤال، لكن إجابتهم عليه توزعت بين تصورين:
 اندرج التصور الأول في معرض بيان دواعي التأليف، فنادى مثلا ابن سلام الجمحي بضرورة استقلال النقد بعلماء متخصصين فيه، وألمح الجاحظ إلى توزع الاهتمام بالشعر بين مجالات علمية مختلفة، وأكد قدامة بن جعفر أنه لم يسبق إلى التأليف في نقد الشعر ، إلى غير ذلك من الأقوال التي كان أصحابها يتوخون منها التبيه على قيمة أعمالهم، أكثر مما كانوا ينشدون التشطيب على كل المنجزات النقدية السالفة، بدليل أن كتبهم قامت -كما هو واضح في ثناياها- على أساس استثمار الأحكام والتصورات السابقة عليهم وإعادة بنائها من جديد ضمن رؤية منهجية مغايرة، تتقدم بالممارسة النقدية وترقى بها إلى درجات أعمق وأشمل.
وجاء التصور الثاني في معرض التنبيه على قيمة ذاكرة النقد وبيان أهمية مراحله الأولى باعتبارها مؤسسة للمراحل اللاحقة وموجهة لها ومؤثرة فيها، ونلمس هذا الموقف لدى حازم القرطاجني (ت 684 هـ) الذي يعتبر -بلا منازع- أبرز قمة في تاريخ النقد القديم، إذ يقول بخصوص الآراء والأحكام التي كان يتداولها العلماء واللغويون والشعراء في أنديتهم: « (...) وقد نقل الرواة من ذلك الشيء الكثير لكنه مفرق في الكتب، لو تتبعه متتبع متمكن من الكتب الواقع فيها ذلك لاستخرج منه علما كثيرا موافقا للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة» [33].
يميز حازم القرطاجني في هذا النص بين ثلاثة مستويات لتلقي التراث الشعري ولصياغة التصورات المتعلقة بخصائصه الفنية ووظائفه الجمالية لكل واحد منها زمنه الثقافي الخاص به: فأما المستوى الأول فيتحدد في رواية الأشعار والمواقف الانطباعية المتصلة بزمن إنشادها، ويشمل هذا المستوى حقبة العصر الجاهلي والقرنيين الهجريين الأولين؛ وأما المستوى الثاني فيتحدد في لحظة صياغة تصورات نظرية محددة ومعللة، وتبدأ هذه اللحظة مع إحساس القدامى بالحاجة إلى العلماء المتخصصين في نقد الشعر؛ أما المستوى الثالث فيتمثل في لحظة استقراء القوانين البلاغية وتأملها وإعادة بنائها على أسس نسقية. ولعل حازما يقصد بهذا المستوى مرحلة شيوع المنطق في الدراسات البلاغية لدى المتأخرين.
ولئن كان ما يشير إليه حازم القرطاجني في النص الأخير يؤكد تصور د. أمجد الطرابلسي لأهمية مرحلة النقد الشفوي في التراث العربي، فإنه يؤكد كذلك قولنا السابق بخصوص تشبعه بهذا التراث وتحليله لقضاياه وإشكالاته في ضوء آلياته وتصورات علمائه المتخصصين. وليس من الضروري أن يكون قد اطلع على نص حازم القرطاجني ليصوغ تصوره بخصوص هذه المسألة فمن المعلوم أن كتاب القرطاجني لم يظهر إلا بعد عقدين من إنجاز الطرابلسي لأطروحته، ولكنه تمثل النسق الذي يحكم التراث النقدي ويوجه وعي القدامى النظري بالقضايا والإشكالات التي تطرحها العملية الشعرية وطرائق انعكاس ذلك على معالجتهم ومقاربتهم لها. 
إن الطبيعة الشفوية للآراء والأحكام النقدية خلال العصر الجاهلي والقرنين الأولين للهجرة كانت تجعلها غير واضحة وتفتقر إلى رؤية منهجية متناسقة. وقد كان نضج الوعي النقدي عند العرب وتطوره يقتضيان التخلص من ردود الأفعال الانطباعية التي ترتبط بلحظة قول الشعر والانتقال إلى سياق آخر تكون فيه صياغة موقف معين وليدة تأمل طويل وتحليل عميق. ولم يكن هذا الأمر ممكنا إلا في ضوء شيوع عملية الكتابة وتحولها إلى سلوك حضاري ونشاط ثقافي يندرجان ضمن حركة علمية واسعة؛ لأن « الكتاب لا محالة يجعل التفكير رصينا، في حين أن التلقين الشفوي حائر ومفتقر إلى التناسق، ومعناه أن المنهج سيتغلب شيئا فشيئا على الاضطراب والإهمال. وهكذا نجد أنفسنا، منذ القرن الثالث الهجري، إزاء أعمال متقنة في مجملها، تخضع لتصميم محكم وتصاغ بدقة. وهو ما ييسر مهمة المؤرخ، إذ يزوده بوثائق صحيحة، ويمكنه من استنباط نتائجه، بالاستناد إلى حجج صلبة ومتماسكة»[34].
وبالرغم من الإهمال والإضطراب اللذين يسجلهما الطرابلسي على النقدات المتداولة عند العرب قبل القرن الثالث للهجرة، إلا أنه ظل وفيا لحكمه عليها وتصوره لقيمتها وأهميتها في تبلور نقد الشعر وتطوره عندهم، فبفضلها –واستنادا إليها- انتقل إلى مرحلة أخرى ستتسم بالاتقان والإحكام والدقة.


ومضة الختام:
اتضح مما سبق أن الباحثين المحدثين وقفوا إزاء تشكل نقد الشعر عند العرب واشتغاله وقفات مختلفة، فقوم كل واحد منهم "النقدات المبكرة" بحسب تصوراته المذهبية ومواقفه الفكرية، وهو ما أدى في النهاية إلى تعدد تفسيراتهم وتباين تأويلاتهم للنصوص الدالة عليها والمرتبطة بها.
وحين نتأمل تاريخ قراءة النقد العربي ككل نلاحظ أنه ظل محكوما في كثير من جوانبه –بالرغم من اختلاف المنطلقات والتصورات والنتائج- بهيمنة نوع واحد ووحيد من التأويل، يقوم أساسا على الانطلاق من مناهج ونظريات معينة والبحث عما يسوغها ويدعمها في "المدونة النقدية"، فإن وجد الباحثون بعض نقط التشابه والتقاطع بين التراث النقدي وخلاصات النقد الأدبي الحديث، ألبسوا القدماء لباسا "معاصرا"، فاعتبروهم السباقين إلى اكتشاف أنساق نظرية ومفهومية معينة، وإن لم يقفوا على ذلك، ولاحظوا تباعدا في الرؤية والمقاربة بينهما اتهموا النقاد القدامى بالعجز عن إدراك الكليات والنفاذ إلى بواطن الظواهر والقضايا المعالجة. وبين هذا وذاك يبقى تأويل التراث النقدي القديم بعيدا عن إنتاج العلم وتطويره، وحبيس ردود الأفعال السلبية والانفعالية الضيقة.
ولئن ظلت مختلف تأويلات المنجز النظري والمنهجي والتطبيقي للتراث النقدي محكومة بهذه الأنواع التأويلية لأزيد من نصف قرن من الزمن، فإن درجة تباينها واختلافها تؤكد عجزها عن بلورة تصور نسقي يربط –دون تلفيق أو تمحل- بين إرهاصاته الأولية ولحظات تأسيسه وتطوره اللاحقة، وهو مطلب لن يتحقق دون التخلص من أوهام الإسقاط أو شعارات الإحياء أودعاوى الاجتثات وغير ذلك مما وصم القراءات والتأويلات المؤدلجة للتراث، وحال دون النظر إليه في خصوصيته الفريدة وشروطه التاريخية والمعرفية الخاصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق