الخميس، 24 نوفمبر 2011

الأنواع الشعرية وتأثرها بتحولات العصر الأموي


الأنواع الشعرية وتأثرها بتحولات العصر الأموي

     تأثرت الحياة الأدبية بالأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية والثقافية، فانعكس ذلك على الشعر الذي ظهرت فيه عدة أنواع ينسجم كل منها مع ما شهده عصر بني أمية من تحولات؛ وهكذا نجد الشعر السياسي، وهو شعر جعل من الحكم موضوعا له، ودار بين الأموين والشيعة والخوارج والزبيريين؛ وشعر الخصومات القبلية؛ وشعر الخصومات الأدبية أو الفردية وهو المعروف باسم النقائض الشعرية؛ وشعر الغزل بشقيه الماجن والعذري؛ وشعر الزهد؛ وشعر اللهو والمجون.

فبالنسبة للشعر السياسي، هو نوع جديد من الشعر في حياة العرب، لأن موضوع الحكم لم يكن مطروقا عندهم من قبل، ولم يصل حد التطاحن الذي بلغه في العصر الأموي، وقد سمح ذلك الخلاف للشعر بالعودة إلى مهيعه الحقيقي، فأصبح مجددا أداة توظف في الصراع، وهو ما مكنه من التطور مجددا بعد أن ضعف في صدر الإسلام. وبعد أن انخرط في الصراع السياسي المحتد حول من له الأحقية في الحكم.
    فقد أتاحت كل التحولات والظروف الجديدة التي شهدها العرب بعد مقتل عثمان والنزاع الذي اشتعل بين علي ومعاوية إحياء المنافسة والصراع القديم الذي كان مشتعلا بين عرب الشام الموالين للروم وعرب العراق الذين كانوا يحاربون في صفوف الفرس قبل الإسلام . وعلاوة على ذلك ،« ألهبت مأساة الحسين وآل بيته عواطف المسلمين وضمائرهم، فهبوا من كل صقيع يستنكرون هذه المذبحة التي راح ضحيتها حفيد رسول الله (ص) وشباب آل بيته، وعلت الأصوات تندد بالأمويين السفاحين القتلة، وتهافت الناس ينضوون تحت لواء آل البيت، ويتشيعون لهم، ويهددون بطلب ثأر الحسين، فتعاظم أمر حزب الشيعة، وازداد خطره، واكتسب أنصارا جددا، ممن كانوا يتخذون موقف الحياد من الأحزاب السياسية المتطاحنة، إلى جانب كثير من الموالي، وخاصة بالعراق، وعلى الأخص بالكوفة...» [د. صلاح الدين الهادي: اتجاهات الشعر في العصر الأموي،ص27.]
     وبالرغم من كون هذه الأحداث تشكل خطرا يهدد وحدة الأمة الإسلامية بالانقسام والتصدع، إلا أنها انعكست إيجابا على الحياة الأدبية، إذ إنها أسهمت في تطور الشعر، فقد عاد إلى مهيعه، وصار سلاحا قويا لنشر الأفكار والمذاهب، والدفاع عن القناعات «فتوزع الشعراء على الأحزاب، وأخذوا ينظمون شعرهم معبرين عن نظريات سياسية جديدة، وأفكار ومبادئ موروثة ومستحدثة، فأثَّروا في الشعر العربي من هذه الناحية، تأثيرا كبيرا؛ إذ وجهوه ناحية الحزبية والنشاط السياسي.» [نفسه، ص31]
ويبدو أن بيئة الكوفة كانت مشتلا طبيعيا لظهور أساليب شعرية جديدة، خاصة وأن ساكنتها تشيعوا لعلي منذ أن اتخذها حاضرة لخلافته، « وقد مضى كثير من أهلها بعد وفاته يؤمنون بأن أبناءه وأحفاده أهل الخلافة الحقيقيون وأصحابها الشرعيون، وأن الأمويين اغتصبوها منهم، وينبغي أن ترد عليهم.»  [شوقي ضيف: العصر الإسلامي، ص315.]
      وقد ظهرت بوادر التشيع لعلي في حياته؛ فقد نادى عبد الله بن سبأ ، وكان يهوديا ثم أسلم، أن عليا فيه طبيعة إلهية، وهي فكرة تسربت إلى الشيعة من بعض الطوائف المسيحية في الشرق التي كانت ترى أن للمسيح طبيعتين: إلهية وبشرية، «ولما وصلت مقالة ابن سبأ إلى مسامع علي أنكرها أشد الإنكار، وغضب على ابن سبأ غضبا شديدا جعله ينفيه(...) وبعد مقتل علي نادى ابن سبأ برجعته، وأنه لم يمت ، إلى غير ذلك من العقائد الدينية القديمة، فكان بذلك رأس فرقة عُرِفت في تاريخ التشيع بالسبئية نسبة إليه» ، إلا أن التشيع لعلي وآل بيته لم يأخذ طابع المذهبية، القائمة على أسس ، مبادئ وعقائد إلا بعد وفاة علي بن أبي طالب. [د.صلاح الدين الهادي: اتجاهات الشعر في العصر الأموي، ص34.]
وفي تصور الشيعة أن الحكم يجب أن يؤول لآل البيت العلوي، وهم في ذلك يتفقون مع أبي حنيفة وأكثر المرجئة في أن الإمامة لاتجوز إلا في قريش لقول النبي (ص):« الإمامة في قريش» وقوله أيضا: « قدِّموا قريشا ولا تَقَدَّموها» ، إلا أنهم  يخالفون كل الفرق والمذاهب في الإمامة؛ إذ يرون أن  الإمامة تكون بالنص وليست بالقرابة والوراثة، لأنها لون كانت بالقرابة لكان العباس عم النبي(ص) صاحب الحق وحده بعد النبي لأنه عمه، وعلي بن أبي طالب إبن العم، وهو محجوب الإرث في حالة وجود العم. وهو ما يبرز من الخطاطة الآتية:
(أهمية استنادهم إلى النص)
                                                              
      

                       علــي                 #       العباس بن عبد المطلب عم النبي(ص)
                                                         
                                      
                         
                     صاحب الحق في                   لم يكن من السباقين إلى الإسلام، فقد حضر
      الإمامة بالنص والوصية               غزوة بدر مع المشركين، ولم يسلم إلا آخرا،
     - أول الناس إسلاما
     - زوج فاطمة بنت النبي                            
      - جهاده+فضله+علمه لاينكر                
وعلاوة على ذلك يستندون إلى جملة أحاديث تروى عن الرسول (ص)، وفيها يقول لعلي في غزوة تبوك: « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نَبِيَّ بعدي»، ويقول أيضا: « ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.»، كما يرون أن النبي (ص) نص على إمامة علي في أول الدعوة حينما دعا أقرباءه وعشيرته المقربين بمكة قائلا: «هذا أخي ووَصِيِّي، وخليفتي من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا»، هذا بالرغم من أن عليا كان صبيا لم يَبْلغِ الحُلْم. وفي رأي الشيعة أن عليا أوصى بالإمامة إلى ولده الحسن، وأن الحسن أوصى بها للحسين، وأنها متواصلة السلسلة في آل البيت.
وبتأمل شعر الشيعة يلاحظ أن سخطهم على بني أمية امتزج بالحزن على أئمتهم المغصوبين، المضطهدين المشردين، الذين لم يتطاولوا على الحق كما تطاول خصومهم، و لايملكون قوة مادية كالتي يملكون. وقد انعكس كل ذلك في شعر شعرائهم؛ فدارت قصائدهم حول موضوعات: محبة آل البيت، والحزن على ما أصابهم، وتمجيد أئمتهم و الانتصار لمذهبهم، والاحتجاج والبرهنة على صواب حقهم في خلافة الرسول(ص) والتنديد بأعدائهم وخصومهم.
وقد دار موضوع هذا الشعر حول محبة آل البيت، و الحزن على ما أصابهم، و تمجيد أئمتهم والإشادة بمذهبهم، و الاحتجاج والبرهنة على صواب حقهم في الخلافة، وهجاء أعدائهم والتنديد بهم. وكان أبرز شعرائهم: الكميت بن زيد الأسدي وكثير عزة.
     1- إظهار محبة آل البيت:
في تصورهم تستند محبة آل البيت إلى منطوق النص القرآني، وتلتزم بالأمر الإلهي المتضمن في قوله تعالى: ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) الشورى،42.
    وإذا كانت محبة آل البيت شائعة بين قلوب المسلمين(شيعة وسنة) ولا تقتصر على من تشيعوا لهم دون غيرهم، فإن الشعراء من غير الشيعة لم يفيضوا في التعبير عن هذه المحبة إفاضة شعراء الشيعة، ولم يفتنوا افتنانهم، ولم يطرقوا من المعاني في هذا المجال، كثرة وجدة مثل ما طرق شعراء الشيعة. [د. صلاح الدين الهادي: اتجاهات الشعر في العصر الأموي، ص89.]
    لذلك يرد كثير عزة على أولئك الذين يعاتبونه في حبه آل البيت ويعتبرونه من مساوئه بأن من يحب النبي(ص) وعليا وأبناءه الثلاثة: الحسن والحسن ومحمد بن الحنفية، لا يقترف ذنبا، ولكنه يلتزم بالأمر الإلهي، ويتقرب بذلك إلى الله راجيا أن يكفر سيئاته ويمحو ذنوبه:
إن امرءاً كانت مساوئُه       حُـبَّ النبـيِّ لغيـرُ ذي عَتْــــــــــــبِ
وبني أبي حسنٍ ووالدهم      من طاب في الأرحام والصُّلُبِ
أترون ذنبا أن نحبَّهــم          بــل حبُّهـم كفـارة الـذنــــــــــــــــــــــــب
ولم يكن  حب آل البيت ينفصل عن الجهر بكره من يكرههم وينازع في حقوقهم، وذلك في إشارة إلى بني أمية، ولذلك لم يكن الشيعة يرثون آل البيت ويبكونهم فقط، إذ كان كثير منهم يضيف إلى مدحهم ورثائهم وبكائهم –صراحة أو تضمينا-  تحريضا على الأخذ بثأرهم وثأر من دافعوا عنهم من رفاقهم، وهو تحريض يتحول إلى رغبة شديدة في سفك الدماء، حتى يغسل الشيعة عنهم عار القُعود عن نصرتهم.
 ومما لاشك فيه أن تعبير شعراء الشيعة عن حبهم لآل البيت لم يكن مجرد عاطفة منفصلة عن أي موقف، بل لقد اتخذوها وسيلة للاحتجاج لقضيتهم، والدفاع بالأدلة والبراهين عن دعواهم في حق الإمامة ومجادلة الخصوم في ذلك [د. صلاح الدين الهادي: اتجاهات الشعر في العصر الأموي، ص89.]
     يقول كثير عزة:
ألا إن الأئمة من قريش       ولاة الحق أربعـةٌ سواءُ
عليٌ والثلاثة من بنيـه        همُ الأسباطُ ليس بهم خفاءُ
فسِبطٌ سِبطُ إيمانٍ وبِـرٍّ        وسبط غيَّبَتْهُ كـــربلاءُ
وسبط لا تراه العينُ حتى        يقود الخيلَ يَقْدُمُها اللِّواءُ
تغيَّبَ لا يرى عنهم زمانا       بِرَضْوى عنده عسلٌ وماءُ
وقد تميز شعر الشيعة بالإكثار من توظيف الحجج العقلية والنصية والقيمية لتأكيد أحقية الإمامة لعلي وأبنائه، مازجين بين التخييلي والعقلي في أشعارهم. ويعتبر في هذا الإطار يمثل الكميت بن زيد الأسدي مثالا بارزا على الشعر المتشيع الذي ينشد إقناع العقول قبل التاثير في النفوس؛ إذ إن شعره لا يقوم على الإقناع العاطفي فحسب، وإنما يعتمد أساسا الإقناع العقلي، وبذلك لم يعد الشعر يعبر عنده عن الشعور فحسب، بل أصبح يعبر أيضا عن الفكر، وصار يشفع بكل ما وصل إليه العقل العربي في هذا العصر من قدرة على الجدال والإقناع، « والواقع أن ثقافة الكميت العقلية هي التي هدته إلى هذا الاتجاه، وهيأت له هذه السبيل، فقد كان على صلة وثيقة بالفكر المعتزلي، عن طريق علاقته الوطيدة بإمامة زيد بن علي ، الذي كان حجة في مقولة المعتزلة- من ناحية- وصلته بواصل بن عطاء – رأس المعتزلة- من ناحية أخرى .» [د. صلاح الدين الهادي: اتجاهات الشعر في العصر الأموي، ص92.]
     وإذا كان الكميت اشتهر  دون سائر  الشعراء الشيعة بدفاعه عن آل البيت و احتجاجه على أحقيتهم بالخلافة باعتماد منهج عقلي يقوم على المحاجة والاستدلال البرهاني، فقد عرفت أشعاره بين الدارسين بـ" هاشميات الكميت" ، وهي قصائد طوال كلها دفاع عن حق الهاشميين في الإمامة ضد الأمويين غاصبي هذا الحق، ويحقق الكميت هذا المضمون العام من خلال ثلاثة موضوعات:
1-        مدح بني هاشم
2-        هجاء بني أمية
3-        الموازنة بين عدل الأئمة وجور الخلفاء الأمويين.
    ومن الجدير بالإشارة أن الكميت لا يقصد  من مدح آل البيت الهاشميين تمجيدهم، كما لا يسعى بهجاء الأمويين نظم قصائد في الهجاء، ولكنه يروم إثبات حق الأئمة الهاشميين في الإمامة، والبرهنة على أن بني أمية اغتصبوا هذا الحق منهم. ويعتبر بطريقته في إثبات ذلك: أول من فتح باب الجدل والتقرير والاحتجاج في الشعر العربي .
     ومن بين أشعاره التي يتجلى فيها التفكير العقلي في تأليف الأقيسة، واختيار المقدمات واستخلاص النتائج، والتي تعكس منهجه في الجدل والبرهنة قصيدته التي يقول فيها:
بخاتَمِكُم غصْباً تجـوزُ أمورُهُـمُ
وجدنا لكم فـي آل حاميـم آيـةً
وفـي غيرهـا آياً وآياً تتابعـت
بحقكِّـمُ أمسـت قريـشٌ تقـودُنا
وقالـوا: ورثناهـا أبانـا وأمنـا
يرون لهم فضلاً على الناس واجبا
ولكـن مواريـثُ ابن آمنـةَ الذي
ونَستخلـفُ الأموات غَيركَ كلُّهـمُ
يقولـون: لم يُوَرَّثْ ولـولا تراثُـهُ
وعَكٌ ولَخْـمٌ والسَّكـون وحِمْيَـرٌ
وما كانت الأنصـار فيهـا أذلـةً
هـم شهـدوا بدرا وخيبر بعدهـا
وهـم رَئِموها غيـرَ ظَأرٍ وأشبلوا 
فإن هـي لم تصلحْ لقـومٍ سواهمُ
 فلـم أر غَصباً مثلـهُ يُتَغَصَّـبُ
 تأوَّلَـها منـا تقــيُّ ومعـربُ
 لكم نَصَبٌ فيها لِذِي الشكِّ مُنْصِبُ
 وبالفَذِّ منهـا والرَّديفيـن نُركَـبُ
 ومـا ورَّثتهــم ذاك أم ولا أب
 سَفاهـاً وحقُّ الهاشمييـن أوجبُ
 بـه دان شرقَـيٌّ لكـم ومُغـربُ
 ونعتبُ لـو كنا على الحـقِّ نُعْتَبُ
 لقـد شرِكَتْ فيهِ بكيـلٌ وأرحـبُ
وكنـدةُ والحيَّـان: بكـرٌ وتغلـبُ
ولا غيبـا عنهـا إذا الناس غُيَّـبُ
ويـومَ حُنيـنٍ والدِّمـاءُ تَصَبّـَبُ
عليهـا بأطـرافِ القنــا وتحَدَّبوا
 فإن ذوي القُربَـى أحـقُّ وأقربُ

        يلاحظ القارئ لهاته القصيدة، التي بلغت أبياتها المائة وأربعين بيتا[1]، مما يدل على نفس شعري طويل، أنها تعطي صورة واضحة عن الدرجة التي بلغها تأثر الشعر والشعراء -في العصر الأموي- بالحجاج والجدل، خاصة لدى الكميت بن زيد الأسدي، بحيث يبدو أننا أمام متكلم يجادل خصومه فيستعرض حججهم وادعاءاتهم، ويفحص كل واحدة منها، ويزنها بميزان العقل والمنطق، ثم يعرضها على أحكام الشرع لينظر في النهاية إن كانت مقنعة ومنسجمة مع ضوابط القرآن والسنة وأوامرهما، أم مناقضة لمقتضيات العقول وتوجيهات الله ورسوله.  
        ويكفي متابعة تحليل المقطع الشعري الذي اخترناه منها لتبين أننا أمام نحو جديد من الشعر لم يكن للعرب عهد به من قبل، في الأسلوبين الجدلي والحجاجي ودرجة تحققهما فيه، فبعد أن استهل الشاعر القصيدة بالتبرؤ من المقدمات الطللية والغزلية التي وسمت تاريخ الشعر العربي القديم منذ الجاهلية إلى صدر الإسلام، أكد أن فرحته العارمة وغبطته البادية عليه ليستا بسبب أثر دارس ذكره بحبيب مفتقد، بل بسبب حبه آل البيت الكرام الطاهرين وتعلقه بهم وبذكراهم، وهو ما عبر عنه بأسلوب الاستدراك في البيت الرابع «ولكن»، وهو أسلوب يضع حدا فاصلا بين موقفين وشعورين متمايزين: الأول لاهٍ وعابث، ولا يهمه من الدنيا غير الطرب والانتشاء بالملذات، دون اكتراث بأية قيمة أو موقف أو قضية وجودية أو دينية أو مذهبية؛ والثاني حريص على نصرة المظلومين والدفاع عن المضطهدين، ويرى في هذا الموقف الثاني التزاما بأوامر الله ورسوله، واقتداء بها.
        ولئن كانت الأبيات بعد الاستدراك تستغرق في الحديث عن حب آل البيت والافتخار بالتعلق بهم، والعمل على نصرتهم، فإن الشاعر لا يروم من ذلك التعبير عن مدى التزامه الديني والإرادي بحبهم، باعتبار أن حبهم هو في عمقه حب للرسول r، ولكنه ينشد أيضا التلميح إلى كرهه لكل من يكره آل البيت وينازع المسلمين في التعلق بهم، محولا بذلك تيمة الحب من طبيعتها العاطفية الخالصة إلى أداة للصراع السياسي، لأن الحب في تصوره ليس مجرد مشاعر انفعالية، ولكنه أيضا واجب ديني ومسؤولية أخلاقية تقتضي طاعة المحبوب –خاصة إذا كان من رهط النبي حسب عبارة البيت السادس- وعدم منازعة حقه الإلهي.
        وقد أراد الشاعر من خلال تأكيده على هذا البعد الرمزي للحب بيان أن كل من ينازع "آل البيت" حقهم في الخلافة هو خصم لهم، بل إنه ذهب بذلك إلى أبعد الحدود، بحيث اعتبرهم أعداء لهم، ومن ثمة أعداء لكل من يحبهم. وتستهدف هاته الاستراتيجية الخاصة التي تبناها الشاعر عزل خصوم "آل البيت" ووضع حد فاصل بينهم وبين المسلمين تمهيدا للانقلاب عليهم. ولذلك فاستنكاره الدعوة إلى كرههم، وتساؤله عن السند الديني المعتمد في مناهضة حبهم، إنما يروم بيان أن خصوم آل البيت يتبنون مقولات ومواقف مناقضة لأوامر الشرع، ومقتضيات العقل والمنطق، فهم كالأعمى يخبطون خبط عشواء، ويقلبون الحقائق عن جواهرها، فيرون العدل جورا والجور عدلا، ويكرهون من حبه ثابت وواجب بالكتاب والسنة، ويحبون في المقابل ويقربون من ينبغي كرهه وإبعاده، مما يبرز أن الأمور عندهم بعكس منطقها وضرورتها الدينية والعقلية، ويؤكد في النهاية أنهم يحرمون الحلال ويحللون الحرام، كما يتبدى في الأبيات التي يقول فيها:
فقل للذى في ظِلِّ عمياء جَوْنةٍ
يرى الجور عدلا أين لا أين تذهبُ
بأى كتــــاب أم بأية سُنًّةٍ
ترى حُبَّهُم عارًا عَليَّ وتـَحْسـَبُ
فطائفة ٌ قد أكفرتنـي بحبـكم
وطائفـة ٌ قالـوا مُسِـيءٌ ومُذنِبُ
فما ساءني تكفير هاتيك منهمُ
ولا عيب هاتيـك التي هي أعيبُ
يعيبونني من خبثهم وضلالهم
على حبكم بل يسخـرون وأعجبُ
     لقد كانت غاية الشاعر التي بنى عليها دعواه في هاته القصيدة البرهنة على عدم أحقية خصوم "آل البيت" بحكم المسلمين، وهي غاية لم يقتصر لتحقيقها على توظيف مقولة الحب فحسب، بل أردفها بالتساؤل عن طبيعة الحجج التي يستند إليها الأمويون في إمارتهم المسلمين، وفي هذا المستوى نلاحظ حضورا قويا وعميقا لأساليب الحجاج والجدل.
ذلك أنه قرر في البيت ستة وعشرين [26] القضية التي سيتناولها في قصيدته وسيقيم الأدلة والحجج على تأكيدها: ألا وهي اغتصاب الأمويين خاتم الخلافة من الهاشميين أصحابِه الحقيقيين، معتبرا أنه حدث يتناقض مع الشرع الديني والمنطق العقلي، ويتعارض مع الأمر الإلهي والمصلحة العامة. وقد ساق الشاعر في البيتين المواليين [27-28] الأدلة التي تؤكد أنه اغتصاب حقيقي غير مسبوق، باستناده إلى بعض الآيات القرآنية التي تدعو إلى تكريم أهل البيت وتقديمهم، وتبرهن -في تصوره وتصور الشيعة- على أحقيتهم بالخلافة، ومن بين أبرز الآيات التي يستدل بها للبرهنة على ذلك: الآية 23 من سورة الشورى، التي يقول فيها الحق تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)، وهي الآية التي يلمح إليها بعبارة «آل حاميم»، بل إنه أكد أن الأمر الإلهي بمحبة آل البيت وتقديمهم لا يقتصر على هاته الآية الكريمة، وإنما يتعداه إلى آيات أخرى متعددة ومتوالية حث فيها الله تعالى على محبة آل البيت، وأمر المسلمين فيها بتقديمهم في أمورهم الدينية والدنيوية، وهو ما أشار إليه بقوله: «وفـي غيرهـا آياً وآياً تتابعـت»، ويقصد بتلك الآيات قوله تعالى: في سورة الإسراء آية 17: (وآت ذا القربى حقه)، وقوله جل جلاله في سورة الأحزاب آية 33: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهلَ البيت ويطهركم تطهيرا).
        إن الاستدلال بالقرآن الكريم هنا يروم توظيف حجة دينية للانتصار لرأيه ورأي فريقه في مسألة نظام الحكم في الإسلام، وشروط تولية أمور المسلمين، وقد انبنى استدلاله بخصوص هاته المسألة الخلافية على استراتيجية حجاجية دقيقة تمثلت في البداية أولا بالحجة الأقوى، ذات السند النصي، ثم الانتقال بعد ذلك إلى عرض حجج أخرى عقلية ومنطقية تؤكدها وتدعمها، وهو في هذا وذاك يروم بيان أن الآيات الكريمة تأمر بتمكين أهل البيت من حقهم، وتفضلهم بالإشادة بهم، وتقرر بذلك نظام التوريث في الإسلام، الذي يجعل الهاشميين أصحاب الحق في وراثة ولاية المسلمين عن الرسول r.
ويبدو أن الخطة الحجاجية التي تبناها في قصيدته جعلته ينتقل –بعد أن استعرض مساوئ مغتصبي خاتم الحكم وذكر بجورهم وضلالهم- إلى مناقشة وراثة الحكم، وهي مسألة هامة ارتكز عليها الأمويون في بيان أحقيتهم بالخلافة، وتأكيد أنهم الأجدر به، فقدم –استنادا إلى الاستراتيجية الحجاجية نفسها– أقوال خصومه وادعاءاتهم، ليفندها واحدا واحدا بعد ذلك، وهو ما يتضح من قوله:
وقالـوا ورثناهـا أبانا وأُمَّنـا
ومـاورَّثـَتـْهم ذاك أمٌّ ولا أبُ
يرون لهم حقاً على الناس واجباً
سِفاهاً وحـقُّ الهاشمييـن أوْجَبُ
ولكن مواريـث ابن آمنة الذي
به دان شرقـيٌّ لكـم ومَغـْرِبُ
فدىً لكم موروثاً أبي وأبو أبي
ونفسي ونفسي بَعْدُ بالنَّاس أطيبُ
يلاحظ هنا أن الكميت وبعد أن قدم رأي خصومه وقولهم الذي يستندون إليه في تنصيب خلفائهم، عمل على تفنيده بحجج تتنوع بين الديني والعقلي والتاريخي، بحيث يذكر أن زعمهم بأنهم ورثوها عن عثمان بن عفان (ض): « ورثناها أبانا » لا أساس له من الصحة، لكونه لم يثبت أي دليل على أن الصحابي الجليل أوصى بالخلافة لبني أمية، بل إن الشاعر ذهب أبعد من ذلك، إذ افترض أنه حتى ولو أوصى لهم بها، فتلك الوصية غير صحيحة ولا مقبولة، لأن الخلافة لا تورث عن عثمان، وإنما عن الرسول r صاحب الدعوة، والإمام الأول للمسلمين، فهو الذي تورث عنه، وآله الأقربون، وهم بنو هاشم، أولى بميراثه من غيرهم. 
ولئن كان الأسلوب الحجاجي للقصيدة يظهر بصورة جلية من خلال إيراد الشاعر قول الخصوم، ونفيه لدعواه، واستدراكه عليها ثم نقضه لها بعد ذلك (وقالوا...وما....ولكن)، فإنه يزداد وضوحا بفحصه لمسألة الوراثة ووقوفه عند ادعائهم بأن الرسولr لا يرث ولا يورث كما جاء في الحديث الشريف، بحيث يكشف زيف هذا الادعاء وتناقضه؛ لأن الأمر لو كان كذلك لكانت الخلافة حقا لجميع المسلمين ولم تكن قاصرة على قريش، ولطلبتها القبائل العربية المختلفة من عدنانية وقحطانية، بل لكان للأنصار الحظ الأوفر منها، فهم الذين آووا ونصروا...ولأن الأمر لم يكن موضوع خلاف بين كل القبائل العربية، ولا مجال تطاحن بين الأنصار والمهاجرين، فإنه ينهي قصيدته بنتيجة تثبت أن الخلافة ميراث بدليل اختصاص قريش بها، ومن حيث أن الأمر كذلك فيجب اتباع قانون الإسلام في التوريث الذي يجعلها حقا لأهل بيت الرسول المورّث؛ لأنهم أقرب الناس إليه، وهو ما يقتضي في النهاية استردادها من أيدي بني أمية الغاصبين لها دون سند ديني ولا عقلي، وإرجاعها إلى أهلها الجديرين بها بحسب الأمر الإلهي والوصية النبوية والمنطق العقلي.
إن هاته الروح الجدلية والخصائص الاستدلالية التي نلحظها لدى الكميت لا تقتصر على هاته القصيدة، كما لا تنحصر على شعره، بل تشمل كثيرا من شعر المرحلة، لأن العصر الأموي كان عصر خلاف مذهبي كبير وعاصف بين مختلف الفرق الكلامية واتجاهاتها المذهبية، ولعل مما سهل تسرب أساليب الحجاج والجدل إلى الشعر أن كثيرا من الشعراء كانوا منتمين لفرق كلامية، ومحتكين برؤوسها وأئمتها وخطبائها، ولئن كان هذا الاحتكاك قد أثر في كثير من الشعراء، فقد أثر في كثير من الأغراض الشعرية كذلك.
ولعل أهم الأغراض التي تأثرت إلى حد بعيد بروح الجدل والاستدلال التي عرفها العصر الأموي: النقائض، وقد يسر لها ذلك أنها نوع شعري يقوم في جوهره على الخلاف، ويستدعي التباين القائم بين طرفيه المتناظرين الاستعانة بالحجج العقلية والأدلة الفكرية، وذلك ليرد كل واحد منهما قول غريمه ويحل قوله بدله.
وبغض النظر عن الأسس الفنية للنقائض والعوامل الاجتماعية التي كانت وراء نشأتها[2]، يلاحظ أن ظهورها وتطورها كانا نتيجة انتشار شروط عقلية في العصر الأموي، بحيث أسهم نمو العقل العربي وتمرسه الواسع على الحوار والجدل والمناظرة في المذاهب السياسية والعقدية والاجتهادات الفقهية وشؤون التشريع في تطورها؛ فأخذ الشعراء يتناظرون في حقائق القبائل ومفاخرها ومثالبها، وصار كل واحد منهم يدرس موضوع قصيدته دراسة دقيقة ويبحث في أدلته ليوثقها، وفي أدلة خصمه لينقضها دليلا دليلا، فصرنا كأننا أمام إزاء مناظرات شعرية، وهي مناظرات كانت تتخذ سوق المِرْبَدِ مسرحا لها، بحيث يذهب الشعراء هناك، ويـأتي إليهم الناس فيتحلَّقون من حولهم، ليروا من تكون له الغلبة على "خصمه" أو "خصومه"[3].
ومن النماذج الدالة على روح الجدل والاستدلال في شعر النقائض تلك المناقضة القصيرة التي جرت بين حكيم بن عياش الكَلَبي، والكميت بن زيد الأسدي، والتي تعكس جانبا من من آثار الجدل والمناظرة اللذين شاعا في مجالس المتكلمين في هذا العصر، فقد قال الشاعر حكيم:
ما سرَّني أن أمي من بني أسدٍ
وأن لي كلَّ يومٍ ألفَ دينار
وأن تحتـي عشرا من نسائهم
وأن ربِّي نجَّاني من النـارِ
      فرد عليه الكميت قائلا:
يا كلبُ مالَكَ أم من بني أسدٍ
معروفةٌ فاحترق يا كلبُ بالنارِ
لكن أمك من قومٍ شنئَتْ بهـم
قد قنَّعوك قناع الخِزْيِ والعارِ
       يلاحظ هنا أن الشاعر حكيم بن عياش يقيم قياسه الشعري في هاته النقيضة على رفض جملة مقدمات إذا كانت ستؤدي إلى نتيجة معينة، فهو يرفض أن يكون غنيا، وأن تملك أيمانه عدة نساء، بل ويقبل أن يحترق بنار جهنم ويحرم من دخول الجنة إذا كان شرط ذلك كله أن تكون أمه أسدية، تنقيصا منه من بني أسد قومِ الكميت، وإمعانا في احتقارهم واحتقار شاعرهم. إلا أن الكميت سينبري ناقضا معناه، بطريقة منطقية، وموضحا أن أمه أصلا ليست من بني أسد، وهو ما يترتب عليه هدم كل المقدمات التي بنى عليها الشاعر عياش قوله، ليبقي النتيجة التي سعى إلى تغييرها وإحلال أخرى بدلها، ألا وهي ألا ينجيه الله من النار، وأن يحترق بلظاها، ويحرم من طيب نساء بني أسد، بل وأن يعيش أيضا في فقر مدقع، ويقاسي ويلات الانتماء إلى قوم ذوي ضعة، كل حياتهم خزي وعار.
إن القارئ للنقائض في العصر الأموي يلاحظ أنها تأثرت إلى حد كبير بثقافة العصر، فكانت عبارة عن حوار معقد يتتبع فيه الشاعر الناقض دعاوى الشاعر المنقوض، فيعمل فيها نقضا وهدما، في جهد عقلي غير يسير، ولذلك ذهب كثير من الباحثين إلى القول إن جريرا والفرزدق والأخطل كانوا متأثرين في النقائض -أسلوبا وطرائق- بالمناظرات الدينية والعقلية والفقهية والكلامية في هذا العصر، وهو مايبرز أنها لا تعدو أن تكون صدى لتلك المناظرات التي مست الحياة العقلية والدينية[4].
بيد أن تأثر الشعر الأموي بخطاب المناظرة وأساليب الحجاج العقلي والقياس الخطابي وغير ذلك لا يعني أنه صار كله شعرا عقليا يقدم الفكرة على الصورة والموقف على الرؤية، فقد ظل منفتحا على مختلف التحولات الثقافية والفكرية والعلمية التي يشهدها العصر، ومتفاعلا مع الخطابات الجديدة السائدة في البيئات المعرفية المختلفة.
ويبدو أن بعض مبادئ الفرق الكلامية والمذاهب السياسية قد تسربت إلى الشعر الأموي، فوجهته وجهة جديدة غير مسبوقة في تاريخه، فقد ظهر -نتيجة بطش الأمويين بعد أن آلت أمور الحكم إليهم- شعر الإلغاز والترميز، وهو شعر يعبر فيه الشاعر عن مواقفه وآرائه بصورة غير مباشرة، معتمدا أسلوب الكناية والإيحاء، ويمثل كثير عزة نموذجا في هذا الإطار، لأنه حول "عزة" إلى رمز، فكان يضفي عليها كثيرا من صفات الطهر والسمو الروحي والخلقي، بينما كان يقصد بذلك في الواقع آل البيت.
ولعل هذا المنحى الشعري الجديد هو ما أدى إلى ظهور "المديح الهجائي"، وهو نوع من الشعر يعبر فيه الشاعر عن عكس مايؤمن به، ويضمنه عبارات وصور تقرأ في ظاهرها بمعنى، بينما تشير إلى نقيضه في باطنها، ومن النماذج الدالة على ذلك شعر عبيد بن قيس الرقيات(ت 85هـ)، وهو شاعر كان يتشيع لابن الزبير ويعادي بني أمية، ولما مات مصعب بن الزبير هام على وجهه، فظل مختفيا من بني أمية عاما، فمدح عبد الملك بن مروان متلمسا منه العفو، بشعر متكلَّف يقول فيه[5]:
ما نقموا من بني أميةَ إلا
أنهم يَحْلُمـون إن غَضِبـُوا
وأنهم سـادةُ الملوكِ فـلا
تصْلحُ إلا عليهـمُ العـربُ
إن الأغرَّ الذي أبوه أبو ال
عاصي عليهِ الوقارُ والحُجُبُ
يعتدلُ التَّـاجُ فوق مفرِقهِ
علـى جبينٍ كأنـه الذَّهَـبُ
خليفـةُ اللهِ فـي رعيتـه
جفَّتْ بذاك الأقـلامُ والكُتُبُ
فالقارئ لهذا الشعر يعتقد أن صاحبه قد مدح الأمويين به، إلا أن المتمعن فيه يستنتج أنه هجاهم به، لكونه جعلهم ملوكا، بل عدهم سادة الملوك، والملك بدعة تتعارض مع نظام الحكم في الإسلام، لأن الله جهله شورى بين المسلمين، ولأن لا أحد من خلفاء الرسول r ورث الخلافة لأحد ابنائه؛ كما أن الشاعر ألمح إلى جبروت بني أمية وشدة سطوتهم وتسلطهم، وذلك حين أكد أن العرب لاتصلح إلا على أيديهم، وهو ما يعني أن العرب لا يحكمها إلا طاغية، و فضلا عن هذا وذاك أشار إلى لم يستند إلى الشرع أو الشورى بين المسلمين، بل قام على البطش والحيلة والقهر، وهو ما يتجسد من خلال تأييد حقهم بالحكم بالقضاء والقدر، وهي مقولة تشير في الإسلام أحيانا إلى الابتلاء .
ومما يبين أيضا أن أغلب الشعر الذي قيل في الأمويين كان متصنعا ومتكلفا، بل وكان يقصد به أصحابه عكس ما هو ظاهر في لفظه ما يروى عن محمد بن علي الطالبي حيث قال لأيمن بن خريم: « تزعم أنك من شيعتنا ، وتمدح آل مروان؟ فقال: إنما أسخر منهم ، فأجعلهم حيات وعقارب، وآخذ أموالهم.»[6]
وفي السياق نفسه لام أبو جعفر محمد بن علي العلوي كثير عزة لمدحه بني أمية، فأكد له أنه لم يفعل ذلك إلا طمعا في جوائزهم، إذ قال: « لم أقل يا إمام الهدى، إنما قلت: ياشجاع، والشجاع حية، ويا أسد، والأسد كلبٌ، ويا غيث، والغيث موات، فتبسم أبو جعفر.»[7]
تدل هاته النصوص وكثير غيرها على أن تحول الشعر في العصر الأموي وتطوره لم يقتصر على مستوى بنياته وأساليبه، بل شمل أيضا أغراضه التي عرفت تحولا كبيرا، جعلها تخرج عن الإطار العام الذي كان يحكمها، ويتطلب من أصحابها وضوح الموقف ورسوخ الفكرة، فلم يكن يجد الشعراء الجاهليين ولا الإسلاميين سببا لمدح من يكرهون، والتعبير عن عكس ما يؤمنون به، فالشعور بوحدة الانتماء والحرص على الدفاع عن هاته الوحدة سواء في حضيرة القبيلة عند الجاهليين، أو في أحضان المعتقد الديني عند الجاهليين والمسلمين كل ذلك كان يمنع من قول الشعر رغبة أو رهبة. أما وقد بسط الأمويون سلطانهم على البلاد والعباد، وقويت شوكتهم، فقد صار لزاما على الشعراء الذين يناهضونهم، أو على الأقل لا يتفقون معهم ولا يخلصون لهم النية أن يبتكروا وسيلة دفاعية تحافظ على قناعاتهم وتضمن سلامتهم، وتوهم في الوقت ذاته خصومهم بولائهم إليهم، وفي هذا الإطار تبلور نوع شعري جديد عرف تحت إسم المدح الذي يراد به الهجاء، وهو نوع سينتشر بكثرة خلال العصر العباسي، خاصة مع المتنبي في "مدائحه" لكافور.
إن التحولات الأسلوبية والدلالية التي عرفها الشعر الأموي ستساهم إلى حد بعيد في بلورة وعي نقدي بالقيم الجمالية والخصائص الفنية للشعر العربي، فأمام هيمنة أساليب الحجاج والاستدلال، وغلبة القيم الدينية والاقتباسات القرآنية والحديثية في الشعر تساءل بعض اللغويين والمتأدبين حول ماهية الشعر، وانشغلوا بالبحث عن الفروق المائزة بينه وبين النظم، وهو ما مثل أول محاولة لصياغة مفهومي للشعر. فقد لاحظ حماد الراوية أن شعر الكميت يتسم بهيمنة اللغة المباشرة والتقريرية، والأساليب العقلية، وأن اللغة الإيحائية والأساليب التخييلية تكاد تنعدم فيه، فاعتبر أن شعره إنما هو خطب، وذلك في قوله: « إنما شعرك خطب.»[8]، كما سجل الفرزدق الملاحظة نفسها فرض الاعتراف له بالشاعرية، واعتبره مجرد خطيب، بحيث قال له: «أنت خطيب»[9].
ومن خلال تأمل هذين الحكمين يلاحظ أن الرعيل الأول من الشعراء والأدباء كانوا يضعون حدودا فاصلة بين الشعر وغيره من مستويات الخطاب، كما أنهم كانوا يميزون بين الشعر باعتباره خطابا فنيا قوامه الإيحاء، والخطابة باعتبارها خطابا مباشرا ينهض على الإقناع. ولئن كان التحول البارز الذي عرفته القصيدة عند الكميت بن زيد قد نبههم إلى ضرورة الفصل بين الشعر وما ليس شعرا، فقد عَجَّل طغيان المقومات الدينية والاقتباسات القرآنية في الشعر خلال هاته الفترة في التفكير في وضع تصور مفهومي للشعر، ولعل من النماذج الدالة على ذلك الحكاية التي جرت بين عبيد بن حصين المعروف ب الشاعر الراعي والخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، فقد أنشده قصيدة لم ترق له بعض أبياتها، ليس بسبب انطوائها على مدح يراد به هجاء، أو تضمنها لسقطات عروضية أو أخطاء تعبيرية، بل لأنه تخلى فيها عن لغة الإيحاء والتمثيل، فاقتصر على المباشرة والتقريرية، ذلك أنه لما بلغ قوله:
ياخليفة الرحمن إنا معشر
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا
حق الزكاة منزلا تنزيـلا
قال له ابن مروان بلغة لا تخلو من احتجاج: « ليس هذا شعرا، هذا شرح إسلام وقراءة آية.»[10]   

يبدو من خلال تأمل هاته الشواهد الأخيرة أن تفاعل القصيدة الأموية وانخراطها في الأحداث والصرعات المعتملة في الواقع، لم يؤد إلى ظهور تحولات كبيرة في موضوعاتها، بل وفي أساليبها وبنياتها أيضا، وهو ما أنتج شعرا تحضر فيه العناصر الشكلية، وتغيب عنه المقومات الجمالية المعروفة والمتفق عليها، الأمر الذي سيدفع الشعراء والرواة والمتأدبين إلى التفكير في وضع تصور مفهومي للشعر يميزه عن غيره من الخطابات التي يحضر فيها الوزن والقافية ويغيب عنها الأساس التخييلي.
ولئن كان المتابع لحركة الأدب والنقد يلاحظ أن ظاهرة الكلام المنظوم ستنتشر كثيرا بعد العصر الأموي، فإنه يسجل أيضا أن الفضل الأول في التفكير في الحدود الفاصلة بين الشعر والخطابة والنظم يعود إلى الملاحظات التي سطرها عبد الملك بن مروان والفرزدق وحماد الراوية، ويتأكد من ثمة أن الشعر الأموي لم يسهم في تطور الشعر العربي فحسب، بل أسهم أيضا في تشكل الفكر النقدي والبلاغي ونضجه أيضا.
ويمكن إجمال خصائص شعر الشيعة السياسي في جملة عناصر أبرزها أنه يمثل لحظة ظهور أسلوب الجدل والبرهنة، والاعتماد على الحجج القوية، والأدلة البارعة، فقد اعتنى هذا الشعر بالاستدلال والوقائع والنظريات أكثر مما اعتنى بجودة التعبير ورقته، أو حسن اختيار العبارات والتراكيب،أو التأنق في صوغ  الأسلوب وانتقاء الصورة، ويعتبر الكميت بن زيد الأسدي مبتكر هذا الأسلوب الشعري الجديد.
حرارة العاطفة وصدق الباعث، ذلك أن شعراء الشيعة كانوا يصدرون فيما يقولون عن اقتناع صادق، وعقيدة راسخة، وحب مكين لأئمتهم، وإخلاص تام لمذهبهم وعقائدهم، وإذا كانت أشعارهم تبين ذلك، فمما يؤكده قول الكميت بن زيد لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ،حين قدَّم له ألف دينار وكِسوة، جائزة على أشعاره في آل البيت: « والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتتيت من هي في يديه(يعني بني أمية أصحاب السلطان والمال)ولكنني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها، لبركاتها ، وأما المال فلا أقبله، فرده وقبِلَ الثيابَ» الأغاني، 15/118.
كما تميز هذا العشر بتنوع الأسلوب بتنوع الموضوعات: فهو أسلوب هادئ رزين حين يتعلق بالتقرير والاحتجاج العقلي أو الديني؛ وأسلوب ثائر حين يغضب على الخصوم وينقم على ظلمهم واغتصابهم؛ وأسلوب حزين باك مكلوم حين يصور نكباتهم وتفجعٍ على قتلاهم، وحق أئمتهم المغصوب؛ وأسلوب قوي فخم ومتدفق حين الإشادة بأهل البيت وتمجيدهم.




[1]  الكميت بن زيد الأسدي: الديوان، ص 512-553.
[2] أنظر د. صلاح الدين الهادي: اتجاهات الشعر في العصر الأموي، ص 273-280.
[3] د.شوقي ضيف: العصر الإسلامي، ص 242.
[4]  أنظر د.شوقي ضيف: العصر الإسلامي، ص 245-246، د. صلاح الدين الهادي: اتجاهات الشعر في العصر الأموي، ص 333-334.
[5] د. صلاح الدين الهادي: اتجاهات الشعر في العصر الأموي، ص 83.
[6]  المرزباني: الموشح، ص 144، نقلا عن د. صلاح الدين الهادي: اتجاهات الشعر في العصر الأموي، ص 84.
[7] أمالي المرتضى، 1/287، نقلا عن د. صلاح الدين الهادي: اتجاهات الشعر في العصر الأموي، ص 86.
[8] الموشح: المرزباني، 308.
[9] الشريف المرتضى: أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتب العربي، بيروت، ط2، 1967، 1/59-60.
[10]  المرزباني: الموشح، ص 210.













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق