الاثنين، 12 ديسمبر 2011

امتدادات المفهوم الفلسفي للتخييل عند البلاغيين المغاربة

ذ.مولاي يوسف الإدريسي

     مقدمة
        لم يكن حازم القرطاجني آخر بلاغي وظف مفهوم التخييل واستثمر التصورات النظرية والجمالية التي ينطوي عليها لدراسة الشعر وتحديد خصائصه الفنية والوظيفية. فقد لقي أيضا اهتماما لدى بعض البلاغيين الذي ساروا على نهجه فحاولوا تطبيق مقولات الشعرية اليونانية ـ كما قرأها وشرحها الفلاسفة المسلمون ـ على مباحث البلاغة العربية، وحرصوا تبعا لذلك على تأكيد القيمة الفنية والجمالية للتخييل في العملية الشعرية. فقد ورد المفهوم الفلسفي للتخييل أيضا عند: لسان الدين بن الخطيب (ت 776هـ)، وأبي الطيب الرندي (ت684هـ)، وابن البناء المراكشي (ت721هـ) و القاسم السجلماسي (ت 730هـ)، وابن يعقوب المغربي (ت 1128هـ)، ومحمد الدسوقي (ت 1230هـ).    
        إن القواسم المشتركة التي تجمع هؤلاء وتميزهم عن غيرهم من البلاغيين العرب الآخرين تكمن في أنهم انتموا إلى مجال جغرافي واحد، وعاشوا في اللحظة التاريخية نفسها، وانطلقوا من أصول نظـرية ومـرجعيات فكرية متماثلة؛ ذلك أنهم ينتمـون إلى ما يصطلح عليه في الأدبيات التاريخية بـ "المغرب الأقصى"، وقد عاشوا بعد القرنين الهجريين السابع والثامن، وتتسم هذه المرحلة من تاريخ النقد والبلاغة العربيين لدى الباحثين المحدثين بفتور الدراسات البلاغية وتراجعها في المشرق العربي. كما أنهم اشتهروا بين معاصريهم والمترجمين لهم بميلهم إلى العلوم العقلية وحسن اطلاعهم على الشروح والتلاخيص العربية للكتب الأرسطية.
    ويرى بعض الباحثين أن إسهام هؤلاء البلاغيين في توظيف مفهوم التخييل خاصة وفي صياغة تصور نظري لجمالية الأساليب البلاغية يعد استمرارا للمجهود الذي بدأه المطرف بن عميرة في كتابه التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات،وأكمله حازم القرطاجني،والذي يروم فلسفة البلاغة العربية وتأصيل مقولاتها ومباحثها على أسس نظرية خصبة ومتنوعة تستقي أصولها من آليات المنطق الأرسطي، ومن الأحكام والتصورات التي تضمنتها شروح الفلاسفة المسلمين لكتب الشعر والخطابة والموسيقى والنفس وغيرها [1] .
       ويلاحظ أن بعضا من الباحثين المغاربة ضخموا القيمة العلمية لكتابي: ابن البناء والسجلماسي، فاعتبروه جزءا من مشروع نظري كبير لـ «ما يدعى بمدرسة أندلسية مغربية فلسفية» [2] ، وقد نسبوا في البداية هذه المدرسة إلى "ابن رشد وتلامذته"[3]. ولما لم يجدوا بعد تمحيص تلك الكتب قرائن قوية تدل على وجود أنفاس رشدية في تصوراتهم وآرائهم، أقروا بأن تأثير ابن رشد مجرد افتراض[4] ، وبأن ابن سينا كان أكثر تأثيرا فيهم من غيرهم[5] .
     ولئن كان ظهور كتابي ابن البناء والسجلماسي قد أثار حماس كثير من الباحثين في المغرب وأعطاهم فرصة لدعم أطروحة تميز الذهنية المغربية عن مثيلتها المشرقية بميلها للعلوم العقلية وتشبعها بالفكر التجريدي[6]، فقد أدى ذلك بهم إلى إصدار أحكام "غير علمية" وإشاعة تصـورات "غير صحيحة"؛ فإضافة إلى الاعتقاد بأن كتابي: الروض المريع والمنزع البديع يمثلان آخر المصادر البلاغية التي حاولت المزج بين المقولات الأرسطية في الشعر والخطابة ومباحث البلاغة العربية، ادعى بعضهم إضافة إلى ذلك أن فكرة التخييل «لم تدخل المجال اللغوي الأسلوبي المباشر ويصبح "التخييل" و"التخيل" وما اشتق من ذلك من النظرية البلاغية إلا على يد السجلماسي» [7] كذا ! وأنه هو الذي وصل بالتخييل إلى المفهوم العظيم الذي استقر عليه[8] !
       ومن ثمة، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا:هل استمر تطور مصطلح التخييل بعد حازم القرطاجني وبلغ درجة عليا من النضج النظري والفعالية الإجرائية؟ أم أنه بدأ في التراجع وأخذت مضامينه التصورية  تنحصر وتفقد صفتها الشمولية وعمقها التحليلي؟
     للإجابة على هذه التساؤلات وبيان مدى صحة الأحكام السابقة سنتابع طرق توظيف أولئك البلاغيين وغيرهم من متأدبي الغرب الإسلامي لمفهوم الفلاسفة المسلمين للتخييل، ونوعية التصورات والقضايا التي ركزوا عليها سواء فيما يتعلق بالجوهر التخييلي للشعر أو بالطبيعة البلاغية لأساليب التخييل.

       1. الجوهر التخييلي للشعر :
       يبدو أن تعريف ابن سينا للشعر وتشديده على جوهره التخييلي قد لقي انتشارا واسعا بين أدباء الغرب الإسلامي،فلم يقتصر تبنيه على حازم،وإنما تعداه إلى غيره من البلاغيين والشعراء المعاصرين له أو اللاحقين عليه.إلا أن منهم من ردده حرفيا ولم يغير أي شيء فيه، ومنهم من تمثل التصور الذي ينطوي عليه، وعمل على صياغته بعبارات خاصة ومغايرة. ويعتبر السجلماسي نموذجا بارزا للفريق الأول؛ حيث أعاد تكرار كلام ابن سينا، ويتضح ذلك في قوله:«إن القول الشعري ـ كما قد قيل ـ هو القول المخيَّل المؤلَّف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاة، ولنتأمل أجزاء هذا الحد فنقول: إن معنى كونها موزونة هو أن يكون لها عدد إيقاعي، ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها، وبالجملة كل جزء مؤلف من أقوال إيقاعية يكون عدد زمان أحدها مساويا لعدد زمان الآخر، ومعنى كـونها مقفـاة هـو أن تكـون الحروف التي يختم بها كل قول من تلك الأقاويل واحدة»[9].
      تـدل الجملة الاعتـراضية "كما قد قيل" التي استهل بها تعريفه للشعر على أنه استقاه من ابن سينا دون أن يذكره باسمه، وذلك لأنه يلامس جوهر الشعر ويحدد قوامه الجمالي. ويردف قائلا بعد النص السابق:«التخييل هو المحاكاة والتمثيل،وهو عمود الشعر إذ كان به جوهر القول الشعري وطبيعته ووجوده بالفعل»[10].
      ومن الواضح هنا أن السجلماسي ينحو بمصطلح التخييل منحى بلاغيا صرفا؛ إذ يعتبره مرادفا للمحاكاة والتمثيل، ويبدو أن هذا الأمر يعود إلى تأثره العميق بكتاب الشعر للفارابي الذي كان يستعمل فيه التخييل والمحاكاة والتمثيل بمعنى واحـد ومتـرادف.وليس غلـوا القول إن هذا الكتاب وكذلك ابن سينا:المجموع أو الحكمة العروضية في معاني كتاب الشعر كان لهما أبلغ الأثر على المباحث البلاغية في الغرب الإسلامي، وخاصة فيما يتعلق بتوظيف مصطلحي التخييل والمحاكاة وربطهما بالأنواع البلاغية[11].
       وبالرغم من أن السجلماسي ينقل تعريف ابن سينا للشعرـ إلا أن « يحس أن مشروعه يختلف عن مشروع ابن سينا، وأن له جهة أخرى» [12]. ويبرز هذا الأمر بصورة جلية في "ادعائه" أن علماء البيان ومتأدبي العرب كانوا يشترطون في الشعر قيامه على الوزن والقافية فقط، حيث يقول: « وهو بين أنهم من قبل التزامهم ذلك في القوافي إنما يعنون بالقول الشعري هنا القول المقفى فقط، ولالتزامهم ذلك أيضا في الشعر. وكان الوزن هو الفصل المقوِّم عندهم للشعر، والمفهم جوهره لأنهم لم يشعروا بعد بالمعنى الآخر وهو التخييل والمحاكاة، وأنه عمود الشعر وجوهره، تبع التقفية في هذا الغرض الوزن. وهذا أيضا شيء قد صرحوا به في أوضاعهم التي استنبطوها مثل صناعة العربية وصناعة العروض، وتصريحهم بذلك هو أشهر مكانا من أن يرشد إليه»[13].
    ولاشك أن السجلماسي يعني بهذا القول قدامة بن جعفر (ت337هـ) الذي انتقد تعريفه للشعر بكونه يقتصر على العناصر الشكلية فقط.لكن ومع ذلك فهذا الحكم غير صحيح وتفنده تصورات وأحكام كثيرة كانت رائـجة قبل القرن الهجري الرابع،ويؤكد أصحابها أن الوزن لا يعدو أن يكون مكونا من مكونات جوهرية أخرى في الشعر من ضمنها التصوير والإيحاء والصياغة التركيبية والأسلوبية الجميلة للقول الشعري، وهذا ما يستشف من خلال تصورات وأحكام عدة الجاحظ وابن سلام الجمحي وابن علي المنجِّم [14] .
     وقد ذهب ابن البناء ولسان الدين بن الخطيب مذهب السجلماسي فاعتبرا التخييل والمحاكاة جوهري الصناعة الشعرية،حيث أشار الأول إلى أن الشعر «هو الخطاب بأقوال كاذبة مخيِّلة على سبيل المحاكاة يحصل عنها استفزاز بالتوهمات»[15] ؛بينما رأى الثاني أن الشعر هو الصور التمثيلية وهو خطاب لغوي ينبني على المحاكاة والتخييل، وأنه عند العرب«الكلام الذي تحضره الوزن والقافية، ويقوم الروى بحناجه مقام  الخافية،ويختص به من الأعاريض المتعارفة عروض،ويقوم به نظام مفروض (…) فما جنح منه إلى التخييل والتشبيه، وحل من الاستعارة بالمحل النبيه، وأعرق في باب الشعر أتم الأعراق، وكان شعرا على الإطلاق (…)»[16].
     ولاشك أن ثمة فروقا دقيقة بين هذه التعريفات على مستوى الصياغة اللغوية والمحتوى التصوري لعل أبرزها أن ابن البناء يميز ـ خلافا للسجلماسي وابن الخطيب ـ بين مصطلحي المحاكاة والتخييل، فلا يرادف بينهما وإنما يعتبر أن المحاكاة وسيلة للتخييل.
     وبالرغم من أنهم يتفقون جميعهم على اعتبار التخييل جنسا بلاغيا يتفرع إلى أنواع التشبيه والاستعارة والتمثيل وغيرها،إلا أنهم لا يستعملونه بهذا المعنى المرتبط بالتصوير البلاغي فقط،ولكنهم يوظفونه أيضا بمعنى الإثارة الجمالية التي يحدثها الشعر في النفس وتنتج عنها متعة عاطفية عميقة. ويبدو هذا المعنى واضحا في عبارة ابن البناء السابقة « يحصل عنها استفزاز بالتوهمات »، كما يبدو بصورة أوضح في تعريف السجلماسي لمعنى عبارة القول المخيَّل الواردة في تعريفه للشعر، حيث يقول: «إن القول المخيل المركب من نسبة أو نسب الشيء إلى الشيء دون اغتراقها، تركيبا "تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر" وقلنا "دون اغتراقها" لأنها لو اغترقت لكان إياه. والسبب في هذا الإذعان والانبساط:  الالتذاذ الكائن للنفس الناطقة من إدراك النِّسب والاشتراكات والوصل بين الأشياء (…)»[17].ويقول أيضا في السياق نفسه:«المقدمة الشعرية إنما نأخذها من حيث التخييل والاستفزاز فقط»[18].
      ويروم التأكيد هنا أن عماد النظر في الشعر إنما هو إثارة الخيالات والانفعالات في النفس تجاوز قضية الصدق والكذب والتخلص منها. فالشعر «مبني على المحاكاة والتخيل لا على الحقائق»[19] ، ومن ثمة فمعانيه «إنما تؤخذ من حيث هي مخيلة فقط دون نظر إلى صدقها أو عدم صدقها»[20]
      ولئن كان ابن البناء والسجلماسي يرددان التصور الفلسفي لقضية الصدق والكذب في علاقتها بالتخييل، فلاشك أنهما لا يصلان إلى عمق التحليل وشمولية المقاربة اللتين تميزت بها مناقشة حازم القرطاجني لهذه القضية، حيث إنه لم يقف ـ مثلهما ـ عند حدود التأكيد أن النظر في الشعر ينبغي أن ينصب على تخييلية معانيه لا على صدقها أو كذبها، ولكنه تجاوز هذا المستوى من القول فنظر في مادة التخاييل والمحاكيات،وبحث طبيعة المعاني التي تنطوي عليها ونوعية القيمة الجمالية التي تنتج عنها إن كانت صادقة أو كاذبة،وتابع الجهات التي يحسن فيها أن تكون معاني التخييل صادقة أو كاذبة أو مجتمعة الصدق والكذب. وبالرغم من محاولة محققي كتابي: "الروض المريع" و"المنزع البديع" مساواة تصوري ابن البناء والسجلماسي ومناقشتهما لهذه القضية بما قام به حازم [21]، إلا أن المقارنة البسيطة بين ما قام به كل واحد منهم تبين أن حازما كان أكثر إحاطة بكل جوانب الموضوع منهما [22] .
      ومما تجدر الإشارة إليه أن الرندي وابن البناء والسجلماسي وابن الخطيب يتفقون جميعهم على استعمال دالي "الاستفزاز" و"المستفز" لوصف طبيعة الإثارة التخييلية التي يحدثها الشعر في نفس المتلقي[23]. ومن الملحوظ أن تلك الكلمتين لا توجدان عند حازم أو عند الفلاسفة المسلمين.
      ويؤكد السجلماسي أن الانفعال التخييلي الذي يحدثه الشعر هو بالجملة "غير فكري"[24]؛ لأنه يحدث على مستوى اللاوعي الخالص للمتلقي، ولئن كانت هذه المسألة قد سبق توضيحها، فإن سياق توظيف هؤلاء البلاغيين لها تشي باستمرار تلازم المفهوم العربي الخالص للتخييل وتداخله بالمفهوم الفلسفي؛ حيث ظل التخييل الشعري يشبه بالسحر. وقد بلغت المقارنة بينهما ذروتها لدى لسان الدين الخطيب الذي عنون ديوانه الشعري بـ "السحر والشعر" وصدره بمقدمة هامة تؤكد علاقتهما التماثلية، وتستعيد المواقف العربية الأولى التي كانت تمجد الكلمة الجميلة المؤثرة «التي تستطيع أن تحدث تغييرا للواقع أو على الأقل تحدث تأثيرا بالغا على حال سامعها وواقعه» [25] . يقول بهذا الصدد: « لما كان السحر قوة ظهرت للنفوس أفعالها، واختلفت بحسب الوارد أحوالها، فترى لها في صورتها الحقيقية خيالها، ويبتدي في هيئة الواجب محالها، وكان الشعر يملك مقادتها، ويغلب عادتها، وينقل هيئتها، ويسهل بعد الاستصحاب خبيَّتها، ويحملها في قده، على الشيء وضده، حتى تفطن لهذا المعنى من يعني من سر الكلام بما يعني فقال:
فـي منطق القـول تزيين لباطله
والحق قد يعتـريه سـوء  تعبير
تقـول هـذا مجاج  النحل تمدحه
وإن ذممت فقـل  قيء الزنابيـر
مـدح وذم وعيـن الشيء واحدة
إن البيان يرى  الظلماء كالنور
وإذا حضر بما يناسبه، وتقضي إليه مذاهبه، وقرنت به الألحان على اختلاف حالاتها، وما تقتضيه قوى استحالاتها، عظم الأثر، وظهرت العبر، فشجع وأقدم وسهر، ونوم، وحبب السخاء إلى النفس وشهى، واضحك حتى ألهى، وأحزن وأبكى وكثير من ذلك يحكى، وهذه قوى سحرية، ومعان بالإضافة إلى السحر حرية، فمن الواجب أن يسمى الصنف من الشعر الذي يخلب النفوس ويستفزها، ويثني الأعطاف ويهزها، باسم السحر (…)» [26] .
      وبالرغم من المرجعية الفلسفية الواضحة لـدى لسان الدين بن الخطيب إلا أن ما يقوله هنا لا يعدو أن يكون تمثلا لتصور ابن طباطبا للشعر وإعادة صياغة له ببعض عباراته [27]. إلا أنه يتميز عنه بربطه لذلك التصور بمفاهيم الخيال والتخييل والمحاكاة وباعتباره أن الأثر التخييلي يقع في النفس بصياغة القول الشعري ضمن بنيات لغوية وتركيبية متناسبة ومتآلفة، وبتشكيل صوره بإيقاعات موسيقية متناغمة،وهو ما عبر عنه بقوله:«إذا عضِّد بما يناسبه (…) وقرنت به الألحان على اختلاف حالاتها (…)». وبذلك يتميز عن ابن البناء والسجلماسي اللذين يركزان على الجانب الإيحائي والتمثيلي للتخييل الذي يتعلق بالأساليب البلاغية، ولا يربطان هذا الجانب بالمستوى الإيقاعي للشعر.
       صحيح أن السجلماسي يعرض إلى بعض صور توازن البنيات اللغوية للقول الشعري التي تصير بها «أجزاء القول متناسبة الوضع متقاسمة النظم معتدلة الوزن، متوخى في كل جزء منها أن يكون بزنة الآخر دون أن يكون مقطعاهما واحدا» [28]. وهو الأمر الذي يعد حديثا في صلب الإيقاع الشعري. لكن يلاحظ أنه لا يربط بين التخييل والوزن، ولا يوضح طبيعة تفاعلهما ونوع ترابطهما.
      وقد حاول علال الغازي الدفاع عن وجود "نظرية شعرية" عند السجلماسي تربط بين المستويين الإيقاعي والتخييلي في الصور الفنية،وتؤكد أن جمالية الصور الفنية لا تتحقق بمعزل عن طبيعة الوزن الشعري، إلا أنه انتهى إلى صياغة بعض الأحكام والتأويلات التي لا توجد نصوص صريحة تدعمها، ولا تتوافق ـ فضلا عن ذلك ـ مع طبيعة مشروع السجلماسي الذي يروم تصنيف أساليب البديع بما يمكن من الوقوف على لطائف معاني القرآن الكريم و «من معرفة وجه إعجاز نظمه»[29] ؛ ذلك أن كل البلاغيين الذين تناولوا هذا الموضوع دأبوا على إخراج المكون الإيقاعي من مجال بحثهم، ولم يتعمقوا في دراسته وبيان طبيعة علاقته بالتخييل حتى ولو كان موضوع حديثهم هو الشعر، ويبدو ذلك بجلاء في قول ابن البناء :« وبهذا الذي ذكرناه في هذا الكتاب يعرف التفاضل في البلاغة والفصاحة، وهو قدر كاف في فهم ذلك في كتاب الله وسنة نبيه وفي المخاطبات كلها، لم يشذ منه إلا ما هو من موضوع صناعة العروض وصناعة القوافي وبعض ما يختص بالشعر من حيث هو شعر. وأما ما هو من موضوع صناعة البديع والبلاغة ولم يختص به الشعر من حيث هو شعر فلا. »[30] .
      وتكمن قيمة هذه المسألة وأهميتها في أنها تفسر لنا سبب تركيز هؤلاء البلاغيين على الجانب البلاغي للتخييل الذي يتعلق بمختلف صوره وأنواعه البديعية.
2. التخييل باعتباره جنسا بلاغيا:
      لم يعد مصطلح التخييل بعد حازم القرطاجني يشمل كل مكونات الخطاب البلاغي، وإنما أصبح مجال توظيفه يرتكز أساسا على الصور البديعية في القول البياني. وتعد محاولة السجلماسي لتجنيس أساليب البديع مثالا بارزا في هذا السياق.
    ينطلق السجلماسي -كما يشي بذلك مصطلح "التجنيس" في عنوان كتابه- من مبدأ رئيس مستمد من كتاب أرسطو: المقولات الذي يرى فيه أنه: «لا يمكن إدخال جنس أعلى في جنس أعلى آخر. وعلى أساس هذا المبدأ قام بتصنيفاته في علم الأحياء، وتبعا لذلك أنجز تصنيفاته للأجناس الأدبية ومختلف النظم الاصطناعية»[31].ويبدو أنه قد تعمق هذا التصور وأغرم به، فأراد أن يضع على منواله «قوانين كلية لصناعة البيان»[32] تقوم على فكرة أن «الجنس العالي لا يترتب تحت شيء ولا يحمل على جنس آخر عال أصلا»[33]. ومن هذا المنطلق فمشروعه في المنزع البديع يروم: «إحصاء قوانين أساليب النظوم التي تشتمل عليها الصناعة الموضوعة لعلم البيان وأساليب البديع، وتجنيسها في التصنيف، وترتيب أجزاء الصناعة في التأليف، على جهة الجنس والنوع، وتمهيد الأصل من ذلك للفرع، وتحرير تلك القوانين الكلية، وتجريدها من المواد الجزئية (…)»[34] .
     وقد حصر أساليب صنعة البلاغة والبديع في «عشرة أجناس عالية وهي: الإيجاز، والتخييل، والإشارة، والمبالغة، والرصف، والمظاهرة، والتوضيح، والاتساع، والانثناء، والتكرير.»[35]. وحسب المبدأ الأرسطي الذي يعتمده السجلماسي فقد صنف هذه الأجناس بطريقة "منفصلة" لا تسمح بدخول جنس معين وترتيبه تحت جنس آخر أو بأن يحمل عليه، « فكل منها له هويته وشخصيته المستقلة، وله مسافته الفاصلة، وهذه المسافة الفاصلة بين الأجناس متساوية» [36] .هذا على المستوى النظري، أما على المستوى التطبيقي فإن «مبدأ نقاء الأجناس والأنواع لم يتحقق إلا جزئيا (…) لأن القارئ للكتاب يرى أنها تداخلت وتقاطعت وتشابكت، هكذا تداخل الجنس الأول "الإيجاز" مع الجنس الثالث "الإشارة" ومع العاشر "التكرير" وتقاطع الجنس الثاني "التخييل" مع الجنس الثالث: "الإشارة"»[37] .
      وتقود هذه الملاحظة الدقيقة التي يسجلها محمد مفتاح إلى أخرى لا تقل أهمية عنها، مؤداها أن عزل "التخييل"عن المكونات الجمالية والخصائص الأسلوبية والتركيبية للخطاب البلاغي يخالف تصور الفلاسفة المسلمين وحازم القرطاجني الذين أكدوا جميعهم أن التخييل في الشعر لا ينتج عن جانبه التصويري فحسب، ولكنه يتحقق أيضا وأساسا عن صياغة الصور التخييلية في بنيات لغوية ومضامين إيحائية تعتمد الإيجاز في التعبير والمبالغة في الوصف وغير ذلك من الصفات والخصائص التي أفردها السجلماسي بأجناس مستقلة عن جنس "التخييل"، والتي لا يمكن للصور البلاغية أن تكون جميلة ومؤثرة ما لم تصغ على أساسها.
     ويجد القول إن السجلماسي يخالف الفلاسفة المسلمين وحازم القرطاجني في تصورهما للتخييل سنده في تركيزه على المعنى البلاغي للتخييل وتقديمه له على معناه الوظيفي الذي يشير إلى الأثر الجمالي الذي يحدثه الشعر في النفس. فمن المعلوم أن حازما والفلاسفة المسلمين اعتبروا التخييل انفعالا في المقام الأول، وبالرغم من أنهم استعملوه ـ في بعض الأحيان ـ بمعنى الصور البديعة في الشعر التي تشمل التشبيه والاستعارة ونحوهما، إلا أن هذا المعنى ظل لديهم ثانويا مقارنة بالمعنى السابق .
     ومن ثمة يرى السجلماسي أن جنس التخييل هو موضوع الصناعة الشعرية و«عمود علم البيان وأساليب البديع»[38] ، وأنه « يشتمل على أربعة أنواع تشترك فيه ويحمل عليها من طريق ما يحمل المتواطئ على ما تحته، وهي نوع التشبيه، ونوع الاستعارة ونوع المماثلة ـ وقوم يدعونه التمثيل ـ ونوع المجاز»[39].
       وتتضح علاقة هذا الجنس بأنواعه من خلال الخطاطة التالية[40] :

جنس التخييل

                                                
                                                   




   
     ويوضح علال الغازي أن هذه الأنواع الأربعة التي تنحدر عن جنس التخييل ليست مصطلحات شعرية محضة «إنها بحسب الشاهد تحمل بحكم التوظيف والصياغة وطبيعة الخطاب "شعرية" هذا الخطاب، أو "نثرية" أسلوب الإعجاز، أو "نثرية" الخطاب الفني العام، لكنها بطبيعتها الخيالية، وقدرتها في البناء والصياغة على تحمل وتمثل "التخييل" أضحت لها صفة ميزتها "عن النثرية" هنا وأدرجتها في "الصناعة الشعرية" باعتبار "التخييل" هو جوهرها وجذرها المشترك»[41].
      وقد وقف السجلماسي عند كل نوع من أنواع جنس التخييل فعرفه ومثل له بشواهد قرآنية وشعرية تبرز طبيعته الخيالية ومميزاته الإيحائية وفي هذا السياق بين أن نوع التشبيه: «هو القول المخيِّل وجود شيء في شيء إما بأحد أدوات التشبيه الموضوعة له كالكاف وحرف كأن أو مثل، وإما على جهة التبديل والتنزيل»[42].
      ويرى السجلماسي أن هذا النوع جنس متوسط تحته نوعان: أولهما التشبيه البسيط ، وثانيهما: التشبيه المركب؛ «والتشبيه البسيط هو القول المخيَّل المشبَّه فيه شيء بشيء، أعني ذاتا مفردة بذات مفردة على الشريطة المتقدمة، أعني أن يمثَّل شيء بشيء من جهة واحدة أو أكثر فقط دون الاغتراق إما بالأداة، وإما بالتنزيل كما قد قيل»[43]. ويتفرع عن هذا الجنس المتوسط الأول الذي هو التشبيه البسيط نوعان هما: الجري على المجرى الطبيعي المألوف في التشبيه والتمثيل و«هو أن يبدأ بما يؤم تخييله وتشبيهه، ثم يردف بما يؤم تخييله فيه وتشبيهه به إما بالأداة وإما بالتبديل والتنزيل (…) ومن صوره قوله جل ثناؤه [44] : «[وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام]»[45] ؛ أما النوع الثاني فهو الجري على غير المجرى الطبيعي ، ويقوم أسلوبه التخييلي على عكس التشبيه وتمثيل الشيء بصورة غير مألوفة «وذلك أن يؤخذ الشيء الذي يؤم تشبيهه وتخييل أمر فيه فيجعل في الحمل فقط جزءا أخيرا من القول، ويؤخذ الأمر الذي يؤم تخييله في الشيء وتشبيه الشيء به فيجعل في الحمل فقط جزءا أول من القول لنوع من قصد الغلو والمبالغة في الوصف مثل أن نقول: «الشمس فلانة»[46] .
     أما النوع الثاني من القسمة الأولى لنوع التشبيه فهو التشبيه المركب و«هو أن يقع التخييل في القول والتشبيه والتمثيل فيه لشيئين بشيئين، وذاتين بذاتين. والمشبه والممثل والمشبه به والممثل به ذوات كثيرة، وذوات المشبَّه إليه على نسب ذوات المشبه به إليه، وإجراء إحدى الجنبتين على نسب إجراء الأخرى، فينتظم التخييل بالمناظرة بين الجنبتين لإشكالهما واشتباههما في النسبة التي قصد التشبيه منها (…) ومن صوره قوله عز وجل: «مثل الذين حمِّلوا التوراة ثم لم يحملوه كمثل الحمار يحمل أسفارا» [47] (…) ومن بديعها في الشعر قول بشار:
كـأن مثار النقع فوق رؤوسهم
***
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه»[48]
     وبالنسبة إلى الاستعارة، وهي النوع الثاني من جنس التخييل، فهي « أن يكون اسم ما دالا على ذات معنى راتبا عليه من أول ما وضع، ثم يلقب به الحين بعد الحين شيء آخر لمواصلته للأول بنحو ما من أنحاء المواصلة أي نحو كان، تخييلا لذات المعنى الأول الموضوع عليه الاسم في الشيء الثاني الملقب به حين اللقب، واستفزازا من غير أن يجعل راتبا للثاني دالا على ذاته»[49] .
    ويشترط السجلماسي في الاستعارة لكي تكون مثيرة للخيالات والانفعالات أن تكون المشابهة بين المستعار منه والمستعار له قريبة وصحيحة ومتناسبة العلاقات « حتى إنه لو حُلَّ تركيب الاستعارة إلى تركيب التشبيه فقيل ـ مثلا ـ في قوله:
غلالة خـدِّه صبغت بـورد
*
ونـون الصدغ معجمة بخـال
«كأن خدَّه غلالة، وكأن صدغه نون» لامتزج اللفظ بالمعنى وتحققت النسبة والشبه والوصلة بين المستعار منه والمستعار له، وبالجملة بين المخيَّل والمخيل فيه، وكان المعنى صحيحا»[50] .
      وبالنسبة إلى المماثلة أو التمثيل، وهي النوع الثالث من جنس التخييل، فحقيقتها هي «التخييل والتمثيل للشيء بشيء له إليه نسبة وفيه منه إشارة وشبهة، والعبارة عنه به»[51]. ومعنى ذلك أن يقصد في الأصل الدلالة على معنى فلا يعبر عنه بالألفاظ الدالة على معناه الحقيقي، وإنما يعبر عنه بألفاظ أخرى تدل على معنى آخر يوحي بالمعنى الأصلي المقصود ويمثله في النفس. ومن هنا كان لهذا النوع في النفس «حلاوة ومزيد إلذاذ لأنه داخل بوجه ما في نوع الكناية من جنس الإشارة، والكناية أبدا أحلى موقعا من التصريح»[52] .
     أما بالنسبة إلى النوع الرابع والأخير من جنس التخييل وهو المجاز فهو «القول المستفز للنفس المتيقن كذبه، المركب من مقدمات مخترعة كاذبة تُخيَّل أموارا وتحاكي أقوالا»[53] .
      ويبدو أن السجلماسي يستعمل مصطلح المجاز بالمعنى البلاغي العام الذي يشمل كل ألوان البديع وأساليبه الإيحائية. ولذلك فالتعريف الذي يقدمه هنا ينطبق على الأنواع التي تعرض لها سابقا، لأن من شأن علاقات المشابهة بين أطراف كل نوع من الأنواع السابقة، أن تثير النفس وتحرك خيالاتها إذا صيغت بأسلوب بديع ينطوي على معنى جميل وجديد.
    وقد اعتبر علال الغازي العمل الذي قام به السجلماسي دليلا قويا «على التحول الكبير الذي عرفه مصطلح "التخييل" على يد هذا المفكر المغربي في بناء نظرية الشعر وتحديد مفهومه في ضوء عناصرها»[54] ، ورأى تبعا لذلك أن وضعه تلك الأنواع في مجرى التخييل أمرا جديدا في البلاغة العربية[55]  !ولاشك أن في هذا القول بعض "الغلو" وكثير من "التجاهل" ليس فقط للجهود الأولى التي أسست لعملية التقريب بين التخييل والأنواع البلاغية ولتحليل علاقات المشابهة في التشبيه والاستعارة بالنظر إلى طبيعتها التخييلية، ولكن أيضا للمحاولات التي عاصر أصحابها السجلماسي وحذوا حذوه في ما راغ إليه.
     فالرندي (ت 684هـ) خص في كتابه باب من أبوابه الأربعين التي تابع فيها بدائع الشعر وروائع صنعته لنوع التخييل، وهو الباب التاسع، وقد بحث فيه علاقته بالتشبيه وطبيعته الإيحائية والتمثيلية، فقال: «                                                (الباب التاسع في التخييل)
       والتخييل أصله التشبيه أيضا، وذلك أن يتوهم في الشيء معنى ليس فيه، لوجود صفة تكون علة لوجود ذلك المعنى في غيره، كالخجل، تكون عنه الحمرة في بعض الوجوه فيتوهم الخجل في الورد لوجود الحمرة فيه، ولذلك قال ابن الرومي في تفضيل النرجس على الورد:
خجلت خدود الورد من تفضيله
***
خجلا توردها عليه شاهد»[56]
ورأى ابن البناء المراكشي أن المحاكاة والتخيل يشتملان على «التشبيه وأساليب التبديل، سواء كانت إبدالات من لواحق الشيء (الكناية والمجاز المرسل) أو إبدالات من مناسبه (الاستعارة)»[57]. واعتبر لسان الدين بن الخطيب أن التشبيه والاستعارة عنصران من عناصر التخييل، ووسيلتان أسلوبيتان للبلوغ بالشعر إلى أعلى درجات الجمال والتأثير[58]. ولم يخرج حازم القرطاجني عن هذا الإطار، إذ استعمل مصطلحي التخييل والمحاكاة في بعض السياقات بمعنى التشبيه[59].
      ولئن كان الفلاسفة المسلمون قد أثروا في قراءة مصطلحي المحاكاة والتخييل على ضوء مباحث البلاغة العربية، وذلك حين استعملوا هذين المصطلحين بمعنى مرادف للتشبيه والاستعارة وما تركب منهما[60]، فإن المصدر الأساس لهذا الفهم والتأويل يعود إلى الترجمتين العربيتين القديمتين لكتابي الشعر والخطابة اللتين ربط صاحباها المحاكاة بالتشبيه على نحو يوحي بترادفهما.
      وبغض النظر عن المحاولات الأخرى التي وعى أصحابها الطابع الخيالي للأنواع البلاغية ووظيفته التخييلية، والتي لم يكن لأصحابها أية علاقة بالتصورات والأصول الفلسفية لمفهوم التخييل كالزمخشري وابن الأثير، يلاحظ أن استثمار المحتوى الفلسفي للتخييل لم يقف في البلاغة العربية عند هذه الحدود، وإنما تجاوزها إلى مجال آخر لا يقل أهمية عنها ويتعلق الأمر بتحليل علاقات المشابهة بين الأنواع على ضوء المباحث النفسية.
     فقد أقحم بعض شراح التلخيص تصورات الفلاسفة المسلمين للنشاط الذهني لقوى الإدراك النفسي بغاية إيضاح طبيعة الجامع الخيالي في الصور البلاغية التي تستند المشابهة فيها إلى "الخيال" أو"الوهم". ويجدر التذكير ـ قبل الوقوف عند تلك التصورات لبيان طبيعتها ـ أن السكاكي قسم طرق تمثل الذهن لعلاقة المشابهة بين طرفي التشبيه إلى خمس مستويات حددها في الحس والخيال والعقل والوهم والوجدان. وألحق بعد ذلك ما يستند إلى الخيال بالحس، وما يستند إلى الوهم والوجدان بالعقل، الأمر الذي أثار بعض الغموض حاول القزويني وشراحه إزالته.
      وإذا كان القزويني قد ظل مرتبطا بكلام السكاكي ومصطلحاته ، فإن شراح تلخيصه فسروا تلك المصطلحات بالتمييز بين استعمالاتها البلاغية والنفسية، وفي هذا الإطار يقول محمد الدسوقي (ت 1230 هـ) تعقيبا على نص القزويني : «أعلم أن الخياليات جمع خيالي والمراد به هنا المركب المعدوم الذي تخيل تركبه من أجزاء موجودة في الخارج وليس المراد بالخياليات الصور المرتسمة في الخيال بعد إدراكها بالحس المشترك المتأدية إليه من الحواس الظاهرة لأن هذه داخلة في الحسيات وليست من الخياليات بالمعنى المراد هنا، ألا ترى أن الأعلام الياقوتية المنتشرة على رماح زبرجدية التي سماها أهل هذا الفن خياليات لا وجود لها حتى تتقرر في الحس المشترك عند مشاهدتها بالحس الظاهري، وأن الوهميات جمع وهمي والمراد به هنا صـورة لا يمكن إدراكها بالحواس الظاهـرة لعدم وجودها لكنها بحيث لو وجـدت لم تدرك إلا بها (…)»[61].
      وفي السياق نفسه يقول ابن يعقوب المغربي (ت 1128هـ) :«(…) فالهيئة التركيبية التي قصد التشبيه بها وهي هيئة نشر أعلام مخلوقة من الياقوت على رماح مخلوقة من الزبرجد لم تشاهد قط  لعدم وجودها. ولكن هذه الأشياء التي اعتبر التركيب معها التي هي مادة أي أصل تلك الهيئة وهي العلم والياقوت والزبرجد شوهد كل واحد منها لوجوده فهو محسوس وقد علم من هذا أن ليس المراد بالخيالي هنا ما تقدم وهي الصورة المدركة بالحواس ثم تبقى في خزانة الخيال بعد غيبتها عن الحس المشترك لأن هذا المركب المسمى بالخيالي هنا ليس صورة مشاهدة قط لعدم وجودها وإنما أحست مادته فالمراد بالخيالي هنا المركب من مادة مشاهدة وهو بنفسه معدوم واختار إلحاقه بالحسي دون العقلي مع أن صورته الكلية تدرك بالعقل نظرا لمادته المحسوسة فلما كانت مادته صورا خيالية بعد شهودها وغيبتها عن الحس المشترك ناسب جعله حسيا خياليا مع أنه لو جعل الحسي ما يدرك بالحواس حقيقة والعقلي ما سوى ذلك انضبط التقسيم أيضا»[62].
      تتحدد قيمة هذين النصين وأهميتهما في كونهما يدلان على أن تأثر البلاغة العربية بالفلسفة لم يقتصر على توظيف شروح الفلاسفة المسلمين لكتب أرسطو في الشعر والخطابة، وإنما تعداها إلى مباحثهم النفسية، كما تدل على ذلك مصطلحات "الخيال"، و"الحس المشترك" و"الوهم" التي يعين كل واحد منها إلى إحدى قوى الإدراك الباطنية. وينم توظيف هذه المصطلحات (الملكات) على تصور عميق لدى هذين البلاغيين مؤداه: أن التحليل الأسلوبي للصور البلاغية ولمضامينها الإيحائية وعلاقاتها التمثيلية لا يجب أن ينفصل عن متابعة طرق تشكلها في النفس، ومستويات انتقالها من قوة ذهنية إلى أخرى؛ لأن الصور البلاغية ليست مجرد بنيات لغوية تصوغ ظواهر العالم ومعطياته الإدراكية ضمن علاقات فنية تقوم على المشابهة، أو اللزوم، ولكنها نتاج حركة ذهنية للنفس يتفاعل فيها الوعي الجمالي بالعالم الخارجي مع النشاط الإدراكي لقوى الذهن وملكاته الباطنية كما أوضح ذلك من قبل الفلاسفة المسلمون الذين يعتمد عليهم صاحبا هذين النصين.
    ولئن كانت عملية الربط بين المباحث البلاغية والتصورات النفسية القديمة للوظائف الإدراكية للقوى النفسية وخصائصها الإبداعية أمرا يقتضي دراسات مستقلة تكشف هذا الجانب الذي لم يلق العناية التي يستحقها بعد، فإن الملاحظة الأساسية التي يجب تسجيلها هي أنه بالرغم من أن الدسوقي وابن يعقوب المغربي استثمرا المباحث النفسية ووظافاها في دراساتهم البلاغية إلا أن اشتغالهما مصطلح التخييل لم يخرج عن سياق ترديد المحتوى المفاهيمي الذي ميز اشتغاله لدى عبد القاهر الجرجاني والزمخشري والسكاكي والقزويني . ويبدو أن السبب  في ذلك  يعود  إلى التزامهما  بشرح تصورات صاحب تلخيص المفتاح وتحديده للاستعارة التخييلية.

    خاتمة :
      إن الخلاصة الأساسية التي يمكن تسجيلها في نهاية هذا المقال أن توظيف البلاغيين اللاحقين لحازم القرطاجني لم يخرج عن ترديد مقولات الفلاسفة المسلمين وتصوراتهم ؛ فقد أكدوا أن التخييل هو جوهر الخطاب الشعري الذي يميزه عن غيره من الخطابات اللغوية الأخرى، وأوضحوا تبعا لذلك أن جمالية القول الشعري لا تتحدد باعتبار صدق معانيه أو كذبها، ولكن باعتبار قدرتها على إثارة الانفعالات وتحريك الخيالات في الذهن.
    وباستثناء التواتر الملحوظ لدى بلاغيي هذه اللحظة لكلمة الاستفزاز التي استعملوها للدلالة على طبيعة الإثارة التخييلية التي يحدثها الشعر في نفس المتلقي ، يلاحظ أن كل التصورات والمصطلحات التي رددوها مستمدة من شروح الفلاسفة المسلمين لكتب أرسطو في الشعر والخطابة، وأنهم اكتفوا بترديدها دون أن يضيفوا إليها  شيئا جديدا.
     كما يلاحظ أن الخاصية الأساسية التي ميزت اشتغال مفهوم التخييل لدى بلاغيي هذه اللحظة تكمن في تركيزهم على الجانب البلاغي للتخييل الذي يرتبط بالأنواع البلاغية ، حيث اعتبر السجلماسي التخييل جنسا بلاغيا تتفرع عنه أربعة أنواع هي: التشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز. ولئن كنا قد أوضحنا أن أصول هذا التصور تعود إلى الفلاسفة المسلمين، وأن كتب حازم القرطاجني وأبي البقاء الرندي ولسان الدين بن الخطيب لا تخلو من إشارات تمضي في هذا الاتجاه، فقد لاحظنا أن الإضافة البارزة وربما الوحيدة التي ميزت توظيف البلاغيين المتأثرين بالفلسفة لمفهوم التخييل تتجلى في بحث الدسوقي وابن يعقوب المغربي وتحليلهما للصور البلاغية التي يقوم طرفا المشابهة فيها على أساس خيالي أو وهمي بالنظر إلى طبيعة النشاط الإدراكي والإبداعي للقوى الذهنية.







[1] انظر علال الغازي: "التصدير" ضمن السجلماسي: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع،  تقديم وتحقيق: علال  الغازي، مكتبة المعارف،  الرباط،  ط1، 1980 ،ص 7، مناهج  النقد الأدبي بالمغرب، منشورات كلية الآداب – الرباط، سلسلة: رسائل وأطروحات رقم 42،  ط1، 1999، ص 575ـ 577، 585، 587، عبـاس ارحيلة: الأثر  الأرسطي في النقد والبلاغة  العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري، منشورات  كلية الآداب-الرباط، سلسلة: رسائل وأطروحات رقم 40، ط1، 1999،ص 704، 706، 714. رضـوان بنشقـرون: "الدراسة"، ضمن ابن البناء: الروض  المريع في صناعة  البديع، تح: رضوان بنشقرون، دار  النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985،ص 34، ص 48-49، محمد بن شريفة "المقدمة"، ضمن ابن عميرة: التنبيهات  على ما في التبيان  من التمويهات،  تقديم وتحقيق: محمد ابن شريفة، مطبعة  النجاح  الجديدة، الدارالبيضاء، ط1، 1991، ص 9.
[2] انظر علال الغازي: "التصدير" ضمن السجلماسي: المنزع البديع، مذكور، ص 7 .
[3] محمد مفتاح: التلقي والتأويل، مقاربة نسقية، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994،ص 19.
[4] محمد مفتاح: مشكاة المفاهيم،  النقد المعرفي والمثاقفة،  المركز الثقافي العربي، ط1، 2000، ص 97.
[5] نفسه، رضوان بنشقرون: "الدراسة" ضمن ابن البناء: الروض المريع، مذكور،ص 27.
[6] انظر أبرز تلك المقولات والأحكام لدى عباس ارحيلة: الأثر الأرسطي، مذكور،ص 634 – 635.
[7] علال الغازي: مناهج النقد الأدبي بالمغرب، مذكور ،ص 573، وص 605.
[8] نفسه، ص 575، و 608.
[9] السجلماسي: المنزع البديع، مذكور، ص 407.
[10] نفسه.
[11] تدل المقارنة بين هاتين الرسالتين وكتب: منهاج البلغاء، والمنزع البديع والروض المريع على وجود نقول كثيرة منها وتقاطع تصوراتهما في العديد من القضايا.
[12] عباس ارحيلة: الأثر الأرسطي، مذكور ،ص 706.
[13] السجلماسي: المنزع البديع، مذكور ،ص 407، انظر كذلك، ص 218-219.
[14] انظر يوسف الإدريسي: مفهوم التخييل في التفكير البلاغي والنقدي عند العرب، رسالة دكتوراه مرقونة بخزانة كلية الآداب مراكش، ص295-296.
[15] ابن البناء المراكشي: الروض المريع، مذكور، ص 81.
[16] لسان الدين بن الخطيب: كتاب السحر والشعر، تح ودراسة: د. قدور إبراهيم عمار المهاجي، ديوان  المطبوعات الجامعية، وهران،  الجزائر، ط1، ‏2001، 1/82-83.
[17] السجلماسي: المنزع البديع، مذكور، ص 219.
[18] نفسه، ص 252.
[19] ابن البناء المراكشي: الروض المريع،مذكور، ص 103.
[20] السجلماسي: المنزع البديع،مذكور، ص 220.
[21] انظر رضوان  بنشقرون: "الدراسة"، ضمن ابن البناء: الروض المريع،مذكور، ص 32، علال  الغازي: "التصدير" ضمن  السجلماسي: المنزع البديع، ص 124، مذكور، مناهج  النقد الأدبي بالمغرب، مذكور، ص 589-590-606.
[22] انظر يوسف الإدريسي: مفهوم التخييل في التفكير البلاغي والنقدي عند العرب، رسالة دكتوراه مرقونة بخزانة كلية الآداب مراكش،ص261-278.
[23] انظر ابن البناء المراكشي: الروض المريع، مذكور،ص  81،  السجلماسي: المنزع البديع،مذكور، ص 260، 274، لسان الدين الخطيب: السحر والشعر،مذكور، ص 84، أبو البقاء الرندي: الوافي في نظم  القوافي، تقديم وتحقيق: محمد الكنوني،  رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، مرقونة بخزانة كلية الآداب- الرباط، ص 43. ليس معنى ذلك أنهم يتميزون عن غيرهم من البلاغيين والنقاد العرب القدامى بتوظيف كلمة "الاستفزاز" لوصف طبيعة الإثارة الجمالية التي يحدثها الشعر في نفس المتلقي. فقد وردت هذه الكلمة بالمعنى نفسه لدى ابن طباطبا في السياق حديثه عن القدرة التأثيرية  للشعر، إلا أن ما يميزهم عنه هو أنهم وظفوها بغاية بيان خصوصية التخييل الشعري ووظيفته الجمالية.
[24] السجلماسي: المنزع البديع، مذكور، ص 501.
[25] د.إحسان عباس تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري، دار الشروق،عمان، ط1،1993،ص 640.
[26] لسان الدين بن الخطيب: السحر والشعر،مذكور، 1/83-84.
[27]  قارن هذا النص بتعريف ابن طباطبا: عيار الشعر،  تح: د. محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1980، ص 29.
[28] السجلماسي: المنزع البديع، مذكور، ص 514.
[29] السجلماسي: المنزع البديع، مذكور، ص 179.
[30] ابن البناء المراكشي: الروض المريع، مذكور،ص 174.
[31] د. محمد مفتاح: التلقي والتأويل،مذكور، ص 62.
[32] عباس ارحيلة: الأثر الأرسطي،مذكور، ص 703.
[33] السجلماسي: المنزع البديع، مذكور،ص 290.
[34] نفسه، ص 180.
[35] نفسه.
[36] د. محمد مفتاح: التلقي والتأويل، ص 72.
[37] نفسه، ص 72 – 73.
[38] السجلماسي: المنزع البديع،مذكور، ص 218، 260.
[39] نفسه، ص 218.
[40] انظر علال الغازي: مناهج النقد الأدبي بالمغرب، مذكور،ص 600.
[41] نفسه، ص 605.
[42] السجلماسي: المنزع البديع،مذكور، ص 220.
[43] السجلماسي: المنزع البديع،مذكور، ص 221.
[44] الرحمن، 24.
[45] السجلماسي: المنزع البديع، مذكور،ص 222.
[46] نفسه، ص 227 – 228.
[47] الجمعة، 5.
[48] السجلماسي: المنزع البديع،مذكور، ص 229 – 230.
[49] نفسه ، ص 236.
[50]السجلماسي: المنزع البديع،مذكور، ص 244.
[51] نفسه.
[52] نفسه.
[53] نفسه، ص 252.
[54] علال الغازي: مناهج النقد الأدبي بالمغرب، ص 608.
[55] نفسه، ص 611.  
[56] الرندي: الوافي، ص 147 ـ 148.
[57] عبد الوهاب الأزدي: مفهوم البيان في الدراسات البـلاغية بالمغـرب، ص 218، انظر: ابن البناء: الروض المريع، ص 103، 115.
[58] لسان الدين الخطيب: السحر والشعر،مذكور، ص 83.
[59] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1986، ص 96.
[60] الفارابي: كتاب  الشعر، تح: محسن مهدي،  مجلة شعر، ع 12، بيروت، 1959، ص93، ابن سينا: فن الشعر من كتاب الشفاء، تح: عبد الرحمن بدوي،  ضمن كتاب أرسطو طاليس فن الشعر، دار الثقافة، بيروت، ط2، 1973، ص 171، المجموع أو الحكمة العروضية في معاني كتاب  الشعر، تح: د. محمد سليم سالم، دار  الكتب، الجمهورية  العربية المتحدة، 1969، ص 18، ابن رشد: تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر، تح: عبد الرحمن بدوي، ضمن أرسطو طاليس: فن الشعر، دار الثقافة، بيروت، ط2، 1973،ص 201.
[61]  محمد عرفة الدسوقي: حاشية على السعد التفتازاني، ضمن شروح التلخيص، دار الكتب العلمية،  بيروت، د.ت.3/313.
[62] ابن يعقوب المغربي: مواهب المفتاح، ضمن شروح التلخيص، مذكور، 3/315.

هناك تعليق واحد: