الثلاثاء، 10 يناير 2012

قضايا النقد في خطاب علم النفس



قراءة في كتاب د. عبد العزيز جسوس: خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي[1]

    صدر مؤخرا كتاب هام للدكتور عبد العزيز جسوس تحت عنوان: خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي[2]، والكتاب من الحجم الكبير ويقع في 226 صفحة، وبالنظر إلى أهمية ما جاء فيه نقدم بين يدي القارئ قراءة لأبرز ما جاء فيه.

     ظل أمر النفس يشغل تفكير الإنسان منذ القدم، لما للكشف عن طرق إدراكها وتفاعلها مع العالم من أهمية في فهم الذات، ومعرفة جوهر الإنسان. ولذلك فقد اعتبر العلم بالنفس – في الفلسفات القديمة- أفضل وأهم من سائر العلوم ، لكونه يمكن الإنسان من علم ذاته، ومعلوم أنه إذا علم ذاته علم سائر الأشياء التي تعلوه، والتي هي أدنى منه، ولكونه أيضا يرقى بالمعرفة الإنسانية  إلى «علم الجوهر الشريف الحقي». والدليل على أن من علم ذاته، علم سائر الأشياء، أن الأشياء لا تخلو من أن يكون العلم بها واقعا تحت القوى، والقوى كلها للنفس،والذي يعرف  النفس يعرف قواها، والذي يعرف قواها، يعرف الأشياء الواقعة تحت قواها، فمن عرف  النفس عرف الأشياء كلها»[3].

   ويتبدى حرص الإنسان على " الإحاطة " بخبايا النفس ومعرفة أسرارها -منذ القدم - في مظاهر عدة ( تفسير الأحلام والتعامل مع ظواهر الصرع والجنون والسحر). وإذا كانت بعض الثقافات القديمة قد حاولت تكسير الغموض الذي يكتنفها، فسعت إلى كشف " بعض" خباياها عبر تخصيصها بدراسات مستقلة، كما هو شأن اليونان مثلا الذين أفردوها باهتمام بالغ، كما تدل على ذلك شذرات من محاورات أفلاطون وكتاب النفس لأرسطو، فإن ثقافات أخرى ظلت حائرة في أمرها كما هو الأمر بالنسبة للعرب كما تدل على ذلك الآية الكريمة: (يسألونك عن الروح؟ قل الروح من أمر ربي )، ولعل هذه الحيرة هي التي دفعتهم إلى إيلاء أهمية بالغة لكتاب أرسطو: في النفس ، الذي خصوه بأكثر من ترجمة وتلخيص.
    بيد أن البحث في النفس يختلـف – منهجا وتنظيرا- بين القديم والحديـث، إذ يعد اكتشاف فرويـد " للاشعور" نقطة الفصل بين مرحلتين في الدراسات النفسية، لما حققه ذلك من نتائج علمية جديدة وباهرة، مكنت من إدراك كثير من خباياها وآليات اشتغالها، وأدت إلى تطور كثير من الأبحاث والدراسات الرائدة.
     ولا يعنى عبد العزيز جسوس في كتابه خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي بتتبع أبرز التيارات والمدارس التي ميزت خطاب علم النفس في النقد الغربي الحديث،  فذلك أمر سبقت إليه العديد من الدراسات الغربية والعربية على حد سواء، فأعادت البحث فيه غير مرة، كما انه لا يسعى إلى مجرد مقاربة خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي بمعزل عن أية غاية أخرى،  بل إن كتابه يندرج ضمن مشروع علمي ينشغل بمقاربة إشكالات العلمية وتجلياتها في النقد الأدبي العربي خلال القرن العشرين، ويمثل في هذا الإطار - وبإقرار شخصي من صاحبه- مدخلا « لمعالجةٍ جزئية لهذه الإشكالية كما طرحت لدى رواد خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي الحديث، والتي حددت لها-تاريخيا ومنهجيا- فترة زمنية تمتد من العقد الثاني من القرن العشرين إلى العقد السابع منه»، على أن يقوم في كتابين لاحقين بتتبع مآل خطاب علم النفس في العقود الموالية، ودراسة التحولات التي ميزت الخطابات النقدية العربية الحديثة، والتي أصبح من أبرز مطامحها بناء أنساق نقدية متكاملة ومتجانسة.(ص7)
       وإذا كان عبد العزيز جسوس يروم في كتابه متابعة خطاب علم النفس في النقد العربي من الانبثاق إلى الامتداد، ويسعى إلى رصد المسوغات النظرية والمنهجية التي رتبها رواده لتبرير نجاعته في الممارسة النقدية ضمن المرحلة التي تم الإيماء إليها سابقا، فإنه لم ينشغل- كما هو شأن كثير من الباحثين العرب المحدثين – بالتتبع الكرونولوجي لخطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي الحديث، كما لم يتوقف عند حدود التعريف بأهم أعلامه واستعراض أبرز الكتابات التي أنتجت حوله، بل سعى إلى إنجاز ما أغفلت الدراسات السابقة تحقيقه؛ ألا وهو تحديد المراحل التي وسمت اشتغال النقاد المحدثين بآليات خطاب علم النفس وضوابطه المنهجية، والتمييز بين مختلف تياراته، مع ربط ذلك بالظروف الفكرية والاجتماعية التي كانت قاعدة لانبثاق هذا الخطاب وامتداده ثم انكماشه أو اندراجه ضمن خطابات نقدية أخرى، يقول موضحا ذلك:« لم يهتم الباحثون (المؤرخون) بتحديد المراحل التي قطعها خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي الحديث، وإنما اهتموا باستعراض أبرز أعلامه حسب التتابع الزمني، دون ملاحظة المحطات الأساسية التي تم فيها التحول من طور إلى آخر، وإن أجمعوا على أن سنة 1938 التي تم فيها تأسيس ميدان جديد في قسم اللغة العربية بالجامعة المصرية يهتم ببحث صلة علم النفس بالأدب قد لعبت دورا مهما في تطوير الاستفادة من علم النفس في دراسة الظواهر والشخصيات الأدبية. كما اتسم تأريخهم بنظرة أحادية تؤرخ للنقد النفسي مفصولا عن البناء الفكري والاجتماعي الذي كان المهد الطبيعي لهذا النقد» (ص48.) ويردف موضحا : « لم يهتم الباحثون أيضا بتحديد التيارات التي تمايزت داخل خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي الحديث، وتحدثوا عنه باعتباره مجالا متجانسا، وإن أشاروا بين الفينة والأخرى إلى بعض التمايزات ، فإنهم لم يرتبوا عليها نتائج تذكر»(ص50)
      ولا تنحصر أهمية دراسة ذ. جسوس عن غيرها من الدراسات السابقة المهتمة بالموضوع في هذا الإطار فحسب ، فقد تميزت أيضا بابتعادها عن المتابعة الجافة والعرض السقيم للنظريات والمناهج ، الذي يصم كثيرا من الأعمال التي يتم التركيز فيها على استعراض التصورات والمفاهيم على حساب التحليل النصي والمساءلة المنهجية ، ولذلك يلاحظ أنه لم يفرد فصلا خاصا لاستعراض أبرز المفاهيم والتصورات والاتجاهات النفسية في الخطاب النقدي الغربي، ولكنه تمثل كل ذلك واستوعبه ، فحوله إلى آلية يشتغل بها في تتبعه لتبلور خطاب التحليل النفسي وتطوره في النقد العربي الحديث ، وفي الرد على كثير من الدراسات التي يدعي أصحابها أن المقاربة النفسية للأدب ليست وليدة العصر الحديث ، والتي يصنفون فيها بعض النقاد الذين وظفوا –دون  وعي منهم- بعض مصطلحات التحليل النفسي للأدب.
     فقد نبه الأستاذ جسوس إلى أن توظيف بعض مصطلحات علم النفس عند ثلة من الباحثين لدراسة الشخصيات والنصوص الأدبية لا يعني إطلاقا أن أصحابها يستفيدون من علم النفس والتحليل النفسي في دراستهم للأدب ، مثلما أن ورود بعض الكلمات عند النقاد قديما التي ستصير لاحقا "مصطلحاتٍ" لخطاب علم النفس ليس مبررا لإرجاع الدراسة النفسية للأدب إلى لحظات تاريخية ومعرفية سابقة على نشأة هذا الخطاب كعلم.
      في هذا الإطار يرد ذ. جسوس على كثير من الباحثين الذين يدعون أن« الدراسة النفسية للأدب ليست وليدة العصر الحديث ، بل هي ممتدة في تاريخ النقد الأدبي منذ القديم، تؤول بدايتها إلى اليونان وخاصة لدى أرسطو في كتابه(فن الشعر)، ثم إلى معظم النقاد العرب القدامى»(17) وذلك انطلاقا من القول إن الوعي بارتباط الأدب بالنفس، والسعيَ إلى تفسير  بعض الظواهر الإبداعية انطلاقا من مؤثرات طبيعية أو بواعث داخلية ينمان عن وجود تفسير قديم للأدب ذي أساس سيكولوجي .
     ولعل المثال البارز في هذا السياق ماذهب إليه خلف الله من كون تصورات عبد القاهر الجرجاني في  كتابه الأسرار ذات أساس سيكولوجي، ومن ثمة دعوته  إلى الاهتمام به وبنظريته «في الأدب التي يمكن اعتمادها لتأسيس نظرية حديثة في النقد الأدبي العربي الحديث ، وذلك بعد تطعيمها بمعطيات الدراسات النفسية الحديثة، وإثارة الجوانب التي أغفلها أو أشار إليها في نظريته »(18) ، وفي رأي ذ.جسوس أن هذا الرأي تحكم فيه الجهل بالخلفيات الفلسفية والعوامل الاجتماعية التي أدت إلى نشأة علم النفس، واستثمار آلياته لتحليل الخطاب الأدبي ، فضلا عن محاولة إضفاء الشرعية على الدراسة النفسية للأدب أمام موجة الاستنكار والرفض اللذين جوبهت بهما .
     ومن زاوية أخرى ، وفي الإطار نفسه ، استبعد ذ. جسوس – في معرض بحثه عن مرحلة الإرهاصات الأولية لاستثمار خطاب علم النفس في النقد العربي الحديث- الاعتقادَ الراسخَ عند بعض الدارسين الذين اعتقدوا أن المازني أفاد في تحليله لشخصية بشار بن برد في كتابه: حصاد الهشيم بالاستناد إلى مفاهيم أدلر : الشعور بالنقص والبحث عن التعويض، ليس لكونه لا يشير إلى أدلر أو إلى كونه أفاد من علم النفس والتحليل النفسي في كتابه المذكور فحسب ، وإنما لأن « الشعور بالنقص والبحث عن التعويض من الأفكار التي شاعت لدى القدامى، وهو ما يستنتج من قول أحد أصدقاء بشار له يمازحه: " إن الله لم يُذهب بصرَ أحدٍ إلا عوضه بشيء، فما عوضك؟ قال: الطويلُ العريضُ، قال : وما هذا قال: أن لا أراك وأمثالك من الثقلاء. وهذا ما يستنتج أيضا مما ذهب إيه بشار عندما قال: " إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب، ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسه، وتذكو قريحته »ص38.
      ففي رأي الباحث تنم هذه الأقوال -وغيرها كثير- على أن العرب قد أدركوا منذ القدم بأن الشعور بالنقص يؤدي إلى البحث عن التعويض، وهي فكرة إنسانية عامة، اهتدي إليها بفعل ملاحظة بعض العيوب في بعض الشخصيات، وامتلاك هذه الشخصيات لخواص معوضة (ص38)
      معنى ذلك أن مقاربة خطاب علم النفس في النقد العربي الحديث ستظل غير دقيقة مالم يع صاحبها السياقين: التاريخي والمعرفي لظهوره، في هذا الإطار يؤكد ذ. جسوس أن توظيف خطاب علم النفس في النقد العربي الحديث يندرج ضمن مسعى « تأسيس ممارسة نقدية جديدة، تتجاوز المعيارية والانطباعية اللتين ترسختا في النقد الأدبي العربي القديم، وتنفتح على النظريات والمناهج النقدية الغربية في أفق (تحديث) النقد الأدبي، بإكسابه طابعا علميا في (ذاته) وفي دراسته ل(موضوعه) ظاهرة ونصوصا، ولن يتأتى ذلك إلا بإرسائه على أسس علمية مستمدة من (العلوم الإنسانية) ومن ضمنها (علوم النفس) المختلفة.» (ص5)، وقد كان للنزعة الرومانسية أثر عميق في ذلك، إذ إن ارتباط الأدب بالنفس، وتبني مفهوم خاص له« يتأسس على التعبير عن الذات المنتجة، وعلى التأثير في الذات المتلقية، وهذا مرتبط بتصور رومانسي عن الأدب، ولذلك كان أوائل الداعين إلى الدراسة النفسية للأدب هم ذوو النزوع الرومانسي، بل إن الدراسة النفسية للأدب وجدت سندها وبيئتها الطبيعية في النظرية الرومانسية للأدب.» (ص16)
       وسواء بالنسبة لخطاب علم النفس أم غيره من الخطابات العلمية الأخرى، يرى ذ. جسوس أن المفاهيم والنظريات باعتبارها نتاجا« للتيارات الفكرية وضمنها الاتجاهات النقدية لا تنمو –كحركة فكرية- مفصولة عن شروطها الاجتماعية، فخطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي الحديث لا يجد مسوغه في النبش في التراث النقدي العربي القديم، أو في اختزال مسألة النشأة  في البحث عن أول من عقد الصلة بين علم النفس والأدب، أو استفاد من نتائج علم النفس في دراسة الظواهر والشخصيات الأدبية، وإنما يجد ذلك المسوغ في طبيعة المرحلة اجتماعيا: ببروز الطبقة الوسطى، وفكريا: بتبني الفكر الليبرالي، وسياسيا: بتبني شعارات: الحرية والديمقراطية، وأدبيا: بتبني الاتجاه الذاتي في الإنتاج الأدبي والممارسة النقدية، وبالتالي، فإن هذه الدراسة النفسية للأدب مرتبطة بالتحولات الاجتماعية،والفكرية والسياسية والأدبية التي عرفتها مصر والتي جسدتها ثورة 1919.  » (ص29) .ولعل أبرز ما يؤكد هذا الطرح أن تغير هذه المسوغات في الحقب الموالية أدى إلى فقدان خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي الحديث لبريقه النقدي و« العلمي»، فتخلى عن ذلك لحساب خطابات أخرى...جديدة...
      إذا كان عبد العزيز جسوس قد استطاع من خلال رصده لمختلف لحظات تبلور خطاب علم النفس وتطوره في النقد الأدبي العربي أن يكشف عن التطورات التي حدثت عند الدارسين العرب في وعيهم بالمنهج وتمثله، وإذا كان قد استطاع أن يميز – في معرض ذلك- بين أبرز التيارات التي تحكمت في اشتغال النقاد العرب المحدثين بآليات خطاب علم النفس ، فمن الملاحظ أن  قراءته للمنهج النفسي استندت إلى آليات منهج نقدي آخر ، يولي أهمية كبرى للشروط الموضوعية في نشأة التصورات النظرية والأنساق المفهومية وتطورها، ويعتبر أنها لا تعدو أن تكون انعكاسا لها.





[1]   قدمت القراءة الراهنة يوم 20/04/2007 بمناسبة اليوم العالمي للكتاب ، في إطار احتفاء اتحاد كتاب المغرب –فرع مراكش ، وكتاب أفروديت الدوري (مراكش) بصدور كتاب ذ. عبد العزيز جسوس: خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي.
[2]  عبد العزيز جسوس : خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط1، 2006.
[3]  أرسطو: كتاب النفس، تر: إسحق بن حنين، تح: د. أحمد فؤاد الأهواني،  ضمن ابن رشد: تلخيص كتاب  النفس، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط1، 1950، ص 133.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق