الأحد، 8 أبريل 2012

شعرية الحكاية السيرية [1]


قراءة أولية في كتاب إبراهيم صادوق: في رحاب المحاماة، مقاطع من سيرة ذاتية

     مما لاغرو فيه أن قيمة كتاب الأستاذ النقيب:إبراهيم صادوق تكمن في وعيه النظري ومسعاه الوظيفي باعتباره عمـلا لا يمكِّن من بناء الذاكرة والحفاظ على ما يؤثثها من أحداث ومواقف فحسب، وإنما يساهم في إغناء مهنة المحاماة وتطويرها،عبر كتابة سيرة ذاتية تعكس لحظات هامة من تاريخ المحاماة بالمغرب.
    ففي رأيه أن المحاماة ليست مجرد مهنة، يسهل تأديتها بعد تحصيل قواعدها وسَننها بالتكوين العلمي والأكاديمي، وبالتمرين في مكاتب المحامين ، والتردد على المحاكم ومتابعة جلساتها فقط، ولكنها فن أيضا يرتهن على الإبداع والتخييل لاستدراج فكر القاضي وتحريك عاطفته وخياله إلى طرف أو دعوى دون أخرى، وهذا ما عبر عنه بقوله في ثنايا كتابه: « المعرفة دون إبداع صخرة جامدة تنكسر فوقها أمواج الطموح والأمل، وملكة الإبداع في حقل المحاماة ، كما في غيره، بوصلة ومنارة هادية إلى التميز والنجاح » (ص23)
    وإذا كان ذلك يبين أن الذاتي حاضر فيها وبامتياز، فإنه لا يعني أن تسريد هذه التجربة المهنية وتحويلها إلى سيرة ذاتية ، يروم تحقيق غاية فردية خاصة، بل ينشد حفظ ذاكرة المهنة، وتشييد تاريخ خاص بها ، يرصد أبرز اللحظات والأحداث والشخصيات التي أسهمت في تطورها . وهو عمل لن يتم بصور دقيقة ومفيدة ما لم يتحول إلى مشروع يشارك فيه- كل من جهته- المحامون والقضاة، بل وحتى المتهمون في قضايا الحق العام : المدانون والمبرؤون على حد سواء،  يقول معبرا عن ذلك: « ومنذ هذه اللحظة، ظل السؤال يراودني بإلحاح: لماذا لا يُقدمُ رجال المحاماة والقضاء على كتابة سيرهم الذاتية؟ لماذا لا يعبرون عن تجاربهم كتابيا، للحفاظ على الذاكرة أولا، ولإنقاذها من الموت ثانيا، ولتمريرها للقادمين إلى الاشتغال في مجال العدل قصد الاستفادة منها ثالثا؟» (ص6)
     والقارئ لكتاب الأستاذ النقيب إبراهيم صادوق: في رحاب المحاماة، مقاطع من سيرة ذاتية، يلاحظ أنه ليس مجرد كتابة لسيرة تجربة مهنية، فعلاوة عن كونه يوثق لأحداث وأزمنة  جسام من تاريخ المغرب، يعد أيضا كتابة لسير فضاءات مختلفة من جغرافية المغرب، إذ تدور أحداثه بين تاحناوت ومراكش والدار البيضاء والرباط وابن جرير...وعبر أزمنة تمتد على طول أكثر من أربعة عقود...
      ولعل هذا ما يمنح السرد فيه بعض قيمته الجمالية وتميزه الإيحائي، إذ لا يتخذ الحكي السيري : في رحاب المحاماة  منحى سطريا، ولا يكتب بأسلوب تتوالى فيه الأحداث وتتعاقب بشكل تسلسلي، ولكنه عبارة عن استعادات متقطعة لأحداث وأزمنة وفضاءات متشابكة ومترابطة أسهمت في تكوين شخصية " السارد " / إبراهيم صادوق-إن جاز القول.  
     ولذلك يلاحظ أنه يستهل محكيه السيري بإضاءة- مردها لحظة الشباب- وتكاد تعنون مسيرة الرجل، وتشي بسمته ونزوع طبعه: يقول في مستهل الحكي « كان شابا يافعا يواظب على دروس معهد ابن يوسف، وأنى ساعات الفراغ يتسلل لقاعات المحكمة الإقليمية سابقا، والابتدائية راهنا ليواكب جلساتها الجنحية ويتابع ...مرافعات النيابة العامة والمحامين التي تثير إعجابه وتمنحه الفرجة والمتعة...»(ص9)
    تكمن قيمة هذه الإضاءة الأولى – إن جاز الوصف- في كونها تلخص مسار الرجل ، وتحدد مدار الحكي في السيرة، والذي يتمحور بين لحظتين في شخصية إبراهيم : إبراهيم المدرس بتاحناوت ؛ وإبراهيم المحامي في محاكم الدار البيضاء ومراكش، ومن التدريس إلى المحاماة يتخذ الحكي تلوينات متنوعة ، ويوظف إيحاءات تخييلية يتناغم فيها الوصف للأمكنة والشخوص مع التوظيف اللافت لضمير الغائب المعضود بالزمن الماضي، وبين هذا وذاك ترتسم أجزاء ومشاهد من شخصية إبراهيم في أزمنة تشكلها ونضجها، وتشي بالعوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أسهمت في تكوينها.
     بالرغم من كون الزمن متقطع في الحكاية السيرية إلا أنه مترابط ، ويسهم بالاستعادات والتداخلات التي تسمه في بناء السرد، وتشكيل طبيعة الحكي السيري ، من خلال مماثلته بالحركة الذهنية للذاكرة التي تتداخل فيها الأحداث والأزمنة والشخوص والفضاءات، خاصة وأن الذاكرة هنا تمثل مصدر الحكي، إلا أنها ذاكرة ليست كباقي الذاكرات، لكونها حادة متوقدة يترسخ فيها كل شيء ، فلقد كان كما جاء في السيرة « يستطيع أن يطلق العنان لذاكرته المعبأة بالعديد من النصوص والمتون والحكم والأمثال والأشعار(...) خاصة وأن ذاكرته شحذت قبل أن يبلغ الثامنة،وصارت صقيلةً عبر التعاطي مع أمهات الكتب والمصادر في باحات معهد ابن يوسف »(ص41)
   وإذا كان برنامج المحكي السيري في كتابإبراهيم صادوق: في رحاب المحاماة، قد اختار تشكيل الحكي من خلال وحدات زمنية متقطعة ، فلأن أحداثها متداخلة في ذهنه، ولكونه يروم إضفاء خاصية جمالية على بنية نصه، بحيث تحوله إلى استعادات متوالية وتقاطعات مترابطة، يشكل خيطها الناظم حدث ما أو شخصية معينة، ولعل هذا ما يستشعره القارئ للجزء أو المقطع الأول من السيرة – إن جاز التقسيم- الذي يمتد من بداية السيرة إلى الصفحة 67 منها، حيث تظل شخصية " زينب " مهيمنة  ومحورية في الحكي ، ومتحكمة في ترتيب مقاطعه وانتظام فصوله. 
     ففي هذا الجزء تحضر بشكل لافت شخصية إبراهيم المدرس ، وتتخللها صور وذكريات من الطفولة والشباب في جامع بن يوسف ، وبدرجة محدودة جدا صورة الأستاذ إبراهيم صادوق المحامي ، وبين حادث وآخر وتجربة وأخرى  تبزغ شخصية زينب لتؤثث الحكاية وتعيد بناءها من جديد.
     هكذا تحضر أول مرة في (ص 29 ) لتوقف استعادة الذاكرة لفترات حاسمة في المسار المهني للأستاذ إبراهيم المحامي ، وتشرع الذاكرة على صور ولحظات هامة من حياة إبراهيم حين كان مدرسا بتاحناوت ، وتعود بعد ذلك في (ص37 ) لتثري ذاكرة إبراهيم ، فترجع به إلى أيام الأحلام الجميلة التي شيدها مع « أصدقاء الدراسة بمعهد ابن يوسف...زملاء مركز التكوين... رفقة الجامعة... والسياسة...والحب...» (ص45) كما تعود في (ص 45 ) لتنقل الحكي من لحظة التدريس والتحضير بتاحناوت ، وترمي به في أحضان الحنين للطفولة ، فتنطلق الذاكرة في سرد بعض الصور والأحداث الراسخة فيها منذ سن الرابعة ، ولم ينحسر هذا الشريط المترامي من الذكريات التي لا تمتنع ولا تنقطع- والكلام لصاحب الكتاب-  إلا بعودة زينب في (ص 54 ) التي تنقله هذه المرة من لحظات الطفولة المفتقدة ومن تاحناوت إلى مراكش وتحديدا فضاء جامع الفناء الذي كان بحق جامعة تخرجت منها أجيال من خيرة أبناء مراكش ، حين توفرت لها كل أسباب تأدية وظيفتها الحضارية والتعليمية...ثم بعد ذلك يشرق وجه زينب في (ص 59 ) إشـراقة أخيـرة في السيرة ليضيء جانبا من ثقافة إبراهيـم ومصادرها المتنوعة وشخصيته الطموحة التـي ضاق بآمالها المكان فملت « رتابة العمل. المحيط المغلق بين الجبل والـوادي والبيت والقسم ...» (ص66)،  والتي أصبحت تتوق إلى عمل آخر، « أعتقد أني سأبحث عن شيء آخر غير التعليم» (ص65)   .
     لا يمثل هذا الإعلان نهاية حكاية إبراهيم المدرس وبداية حكاية إبراهيم الأستاذ المحامي ثم النقيب والتي تستغرق ما تبقى من الكتاب، بقدر ما ينم – بالنسبة لبناء الحكاية السيرية- عن لحظة التخلص من سلطة شخصية زينب ، وتدخلها الدائم في ترتيب الحكاية واستعادة أحداثها وأزمنتها ، وهذا ما يعبر عنه السارد بوضوح حيث يقول: « لم يعد لزينب مكان ضمن هذا العالم ، صارت جزءا من الماضي، وربما كان الانفصال عنها جزءا من قطيعة شاملة» (ص 105)
    إن القطيعة الشاملة التي يتحدث عنها السارد هنا، ليست مع إنسانـة " موسومة " باسم زينب، ولا هي أيضا مع مهنة التعليم، التي يفردها –إلى جانب المحاماة- بنياشين الشرف والنبل، عبر مقاطع كثيرة من سيرته، وإنما هي حالة نفسية ولدها الوضع الاجتماعي وعمقتها تحولات المرحلة التي تنذر بانسداد الأفق ، والتي تستهلك الذات ولا تتيح إمكانات كبيرة لإبراز الطاقات واكتشاف آفاق واعدة. وهذا التحول ينسجم مع مغرب السبعينات بصراعاته وتناقضاته ، إذ « في منتصف السبعينات كانت البلاد تقف على حد الشفرة ، وكان الشاب إبراهيم يبحث عن موازنته الخاصة.» (ص105) ، ولذلك سيعتبر يوم 16 دجنبر من العام 1976 لحظة موشومة في ذاكرته، طالما شكلت قطيعة وإعلانا عن نهاية مسار وبداية آخر جديد.
     لذلك سنلمس تحولا بارزا في البنية السردية في كتاب الأستاذ إبراهيم صادوق، فبعد الوصف شبه المحايد للمحاكمات السياسية بالمغرب وفي مقدمتها محاكمات  " اليسار الجديد " خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، والتي أعلن أنه سيفردها بكتاب خاص (ص96) ، سيتخذ الحكي طابعا آخر، يكاد يكون مختلفا ، إذ نلاحظ أن الزمن سينتظم في السيرة بصورة مغايرة لطرقة انتظامه فيما سبق، إذ ستنتظم لحظاته بشكل تعاقبي، وسيتتابع سرد الأحداث بطريقة متوالية، الأمر الذي سينعكس على البنية الأسلوبية، التي ستتحول من بنية تخييلية ،  يهيمن عليها الوصف الشعري للفضاءات والأشخاص، وتتحكم فيها الأنا الحالمة، إلى بنية أكثر واقعية ، تنغمس في هموم الوطن وأسئلة الثقافة، وتسيطر الأنا الواعية والمتعقلة عليها، مما جعل الملمح الشعري يخفت فيها، ولعل ذلك ما يفسر إلى حد ما تخلي السارد عن ضمير الغائب الذي التزم به طوال الحكي، وانزلاقه نحو ضمير المتكلم الحاضر في إحدى مقاطع سيرته، كما تدل على ذلك مثلا عبارة : « وقبل أن أشير...» في  (ص103)
     لا شك أن الانتقال من الأسلوب الإيحائي التخييلي المغرق في الوصف ، الذي يسم القسم الأول من السيرة ، إلى أسلوب تقريري مهني محض ، كما أن الانتقال من التلاعب بالزمن إلى استعراضه بشكل متسلسل، وضمن أحداث متعاقبة، إنما هو تعبير عن حالة نفسية استشعرها إبراهيم صادوق المحامي بعد تخليه عن التعليم، وتخلصه من " زينب" الشخصية التي كانت تربك الحكي ... وربما حياة وخيالات صادوق  أيضا... إنه انتقال من الحيرة والضياع ، إلى الطمأنينة والاستقرار، أو من جموح الخيال المرتبط بفضاء تاحناوت وزينب إلى ثبات العقل المرتبط بالمهنة وما تتطلبه من مهام ومسؤوليات جسام...
    وإذا كان التنويع في أشكال توظيف الزمن وترتيبه، وفي البنيات الأسلوبية للحكي يندرج ضمن البرنامج السردي الذي اختاره ووظفه السارد بغاية إضفاء قيمة فنية وإيحائية على عمله، فمما لاشك فيه أن جمالية هذا العمل وقيمته الأدبية تكمن في الثقافة الموسوعية التي يتميز بها الأستاذ النقيب : إبراهيم صادوق ، والتي ساهمت في بلورتها بدرجات متفاوتة في تكوينه وتشكيل استعداداته ومدراكه، والتي تتمثل في مؤسسات «  البيت والعلاقة مع المرحوم الحاج الطاهر، الكُتَّاب والفقيه، معهد ابن يوسف وأساطين المعرفة به، جامع الفنا وبلاغة الفرجة فيها، التعليم وزينب و أماسي وادي غيغاية، كلية الحقوق بالدار البيضاء، التمرين ثم  الشروع في مزاولة المهنة. »(ص 107)

        لايكتسي كتاب إبراهيم صادوق: في رحاب المحاماة، مقاطع من سيرة ذاتية قيمته وأهميته مما سبقت الإشارة إليه فحسب، ولكن أيضا من إصرار صاحبه على تجنيسه ضمن " السيرة الذاتية"، ورفضه أن يعتبره " مذكرات محامي". ومما يعطي هذه الملاحظة وجاهتها كون طريقة بناء الحكي واسترجاع الأحداث والشخوص والأزمنة أقرب من كتابة المذكرات ...
    وسواء كان الكتاب  مقاطع من " مذكرات " أم من " السيرة" ، يلاحظ أن الذاكرة هي أساس الكتابة والاستعادة، إلا أنها ذاكرة مواربة ، لكونها في الوقت الذي تعمد فيه إلى استحضار جملة عناصر من الزمن الماضي، تقوم في الوقت نفسه بتجاهل عناصر أخرى؛  إذ في مقابل  حضور شخصية الأب الحاج الطاهر والفقيه/ المدرس، يتم تغييب- عن قصد أو عن غير قصد- الإخوة وأصدقاء الطفولة، ويطال هذا التغيب " الأم" بصورة تقف على الطرف النقيض لما سطرهفرويد ورسخه في معرض حديثه عن عقدة أوديب، ولعل ما يعطي لهذه الملاحظة قيمتها أن المرأة الوحيدة التي سلط عليها السارد الضوء، والتي يمكن اعتبارها بديلا للأم- أقصد زينب- سرعانما غيبها هي الأخرى، وأخرجها من محكيه، فهل الأمر مجرد مصادفة ؟ أم أنه كان ضرورة لا يعلمها إلا إبراهيم صادوق والراسخون في التحليل النفسي ؟؟؟


  مراكش في 07/07/2007




[1] قدمت الورقة الراهنة يوم 14/07/2007 ضمن أشغال اللقاء الثقافي الذي نظمه اتحاد كتاب المغرب احتفاء بصدور كتاب النقيب إبراهيم صادوق: في رحاب المحاماة ، مقاطع من سيرة ذاتية، المطبعة والوراقة الوطنية ، مراكش، ط1، 2007.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق