الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

نشأة الأدب بين التفسيرين الخرافي والعلمي

مدخل إلى دراسة الأدب ومناهجه- الفصل الأول

نشأة الأدب
بين التفسيرين الخرافي والعلمي
 (مطبوع دراسي)

ذ. مولاي يوسف الإدريسي
       مقدمة
      ظلت "الشاعرية" موضوعا مستأثرا بالاهتمام والتساؤل في الفكر الإنساني، وقد دلت مختلف مقارباتهـا على حيـرة الإنسان الكبيرة أمام الغموض الذي يكتنفها ويسم تجلياتها؛ إذ كيف يتأتى لبعض الأفراد المماثليـن لكل الناس –ظاهريا- أن يبهروا الأسماع ويسحروا الألباب بما يمتلكون من قدرة خارقة على رؤية ما لا تدركه كل الأذهان، ومن طاقة فائقة على تصريف الكلام وصياغته بأساليب إيحائية وتصويرية بديعة ؟ ولماذا ليس في متناول كل الناس أن يضربوا بسهام من الشعر، وأن يقولوا مثل ما يقوله الآخرون؟ ثم لماذا يستعصي حتى على أولئك الممتلكين لتلك القوة الغامضة قول الشعر في كثير من الأحيان، فيغرقون في صمت كئيب وحارق؟
      لقد تمت معالجة هذه الأسئلة وغيرها عند اليونان والعرب –قديما- بتصورين متفاوتين: فأما الأول فيمكن اعتباره خرافيا، لكونه يربط الظاهرة بكائنات غيبية، ويرجعها إلى ذوات منفصلة عن الذات الشاعرة وبعيدة عنها؛ وأما الثاني فيمكن اعتباره علميا، لكونه يقطع الصلة بالتفسيرات الخرافية لعملية الإنتاج الشعري، فيرجعها إلى بعض القوى والبواعث الشعورية، ويوجد لها تعليلات علمية مقنعة.
      وبالرغم من تفاوت التفسيرين واختلاف منطلقاتهما الفكرية وتصوراتهما النظرية، إلا أن ثمة بعض أوجه التقاطع بينهما، وتتجلى أساسا في انطواء التفسير الخرافي على بعض الآراء والأحكام "العلمية"، وتضمن التفسير العلمي لبعض الأفكار والمواقف" الخرافية".

1- ربات الشعر عند اليونان :
     حظي الشعر عند الإغريق بعناية خاصة، لكونه كان يحتل مكانة بارزة في أثينا تنسجم مع دوره في تربية النشء، وفاعليته في تقويم السلوك وتطهير النفس من الانفعالات السلبية. ومما يدل على هذه الحظوة تأكيد أفلاطون قدسيةَ الذات الشاعرة، ومخاطبته الشعراء بلغة فيها كثير من الاحترام والتقدير لهم ولأعمالهم[1]. ويرى ابن النديم أن انقلابه على الشعر والشعراء إنما كان بسبب تأثره بأستاذه سقراط، فقد« كان في قديم أمره يميل إلى الشعر، فأخذ منه بحظ عظيم، ثم حضر مجلس سقراط فرآه يَثْلِبُ الشعر، فتركه»[2].
     وقد شكل الاعتقاد في الفلسفة اليونانية عامة، والأفلاطونية خاصة، بكون الشعر إلهاما لربات الفن، إطارا نظريا عاما لمقاربة العملية الشعرية، وللتفكير في مصدرها ودوافع نشأتها، ويتبدى ذلك واضحا في تأكيد أفلاطون أن الشاعر:« كائن أثيري مقدس ذو جناحين، لا يمكن أن يبتكر قبل أن يُلهم، ويفقد في هذا الإلهام إحساسه وعقله. وإذا لم يصل إلى هذه الحالة، فإنه يظل غير قادر على نظم الشعر أو استجلاء الغيب. ومادام الشعراء والمنشدون لا ينظمون أو ينشدون القصائد الكثيرة الجميلة عن فن، ولكن عن موهبة إلهية، لذلك لا يستطيع أحد منهم أن يتقن إلا ما تلهمه إياه ربة الشعر(...) لذلك يفقدهم الإله شعورهم ليتخذهم وسطاء كالأنبياء والعرافين المُلهمين، حتى ندرك – نحن السامعين- أن هؤلاء لا يستطيعون أن ينطقوا بهذا الشعر الرائع إلا غير شاعرين بأنفسهم، وأن الإله هو الذي يحدثنا بألسنتهم.» [3]
     لا ترجع براعة الشعر وجماليته –وفق هذا التصور- إلى ذات الشاعر، ولا تنبع من روحه، ولكنها تعود إلى مصدر خارجي من طبيعة مفارقة للذات الإنسانية ومتعالية عليها، لأن الشعر صوت رباني بُثَّ في نفس الشاعر ودفعها إلى ترديده والتغني به. ومن الواضح أن "ربات الشعر" تخضع ذات الشاعر إلى سلسلة من التغييرات النفسية والفكرية، وتهيئها بها لتلقي إلهامها، ومن هنا تبرز أهمية وضرورة إيصاله إلى الحالة التي يفقد فيها عقله ورشده لكي تعرج به في مدارج الإبداع، وهي حالة طبيعية ولا إرادية، وبفضلها يشيد عوالم جديدة، ويؤلف بين أشياء متنافرة، فيتحول شعره إلى وسيلة للكشف واستجلاء المستور.
      معنى ذلك أن طريق الشعر مفارق لطريق العقل، وأن الشاعر ملزم -حتى يوشح كلامه بصفات الأدبية- أن يكون "لا عقلانيا" وأن يمتح من معين "الخيال" ويهتدي بنوره، لأن قيمة شعره تتحدد في خرقه قواعد العقل وعوالمه المعتادة، وتشكيله بدلها قواعد جديدة وعوالم مغايرة تخضع لمنطق الهوس والجنون.
      وتكمن خصوصية الهوس الذي يعتبره أفلاطون مصدرا للشعر في كونه يفارق- في الطبيعة لا في الدرجة - الهوس الراجع إلى الأمراض النفسية والعصبية، لأنه يظل مشدودا إلى مصدره الإلهي، ويعبر عن حالة جمالية خاصة تتوحد فيها الذات الشاعرة بالذات الإلهية، فيتم البوح بأسرار الغيب والكشف عن مواطن الجمال الآسر المستتر خلف تمظهرات الأشياء الحسية، ولهذا سيحتل عنده الهوس الشعري الصادر عن ربات الفن المرتبة الثالثة ضمن الأقسام الأربعة للهوس الإلهي[4].
       بيد أن اعتبار الشعر هوسا إلهيا لا يستهدف الكشف عن الطبيعة النوعية المميزة للشعر فحسب، التي تجعل« الشعراء لا يصدرون في الشعر عن حكمة» بل عن« ضرب من النبوغ والإلهام»[5] ، بل يروم الإجابة أساسا عن سؤال شائك شغل الفلسفة اليونانية والفكر الجمالي الحديث على حد سواء، مؤداه : هل الفن صنعة أم إبداع ؟ وهل يكتسب الإبداع بالتعلم والمران أم أنه قدرة تولد مع الإنسان؟   
       يتحدد موقف أفلاطون من هذه القضية في كون الصنعة والتعلم لا يكفيان ليصبح الإنسان شاعرا، إذ لابد أن يمسه قبل ذلك الإلهام ويتملكه الهوس الصادر عن ربات الشعر،لأن بدونـه لا يمكنه أن ينتج شعرا، وحتى لو تكلف قوله، فسيكون فاترا لا سحر ولا جمال فيه، هذا ما نلمسه من قوله: « غير أن هناك نوعا ثالثا من الجذب والهوس مصدره "ربات الشعر" إن صادف نفسا طاهرة رقيقة أيقضها فاستسلمت لنوبات تلهمها بقصائد وشعر تحيي به العديد من بطولات الأقدمين وتقدمها ثقافة يهتدي بها أبناء المستقبل. لكن من يطرق أبواب الشعر دون أن يكون قد مسه الهوس الصادر عن ربات الشعر ظنا منه أن مهارته (الإنسانية) كافية لأن تجعل منه في آخر الأمر شاعرا، فلاشك في أن مصيره الفشل. ذلك أن شعر المهرة من الناس سرعانما يخفت إزاء شعر الملهمين الذين مسهم الهوس.»[6]
       فالتعلم والمران يظلان بلا جدوى ما لم يتحقق معهما الاستعداد الفطري[7]، إذ لا يتحصل الإبداع بمعزل عن طبيعة نفس الشاعر التي يلزم أن تكون طاهرة ورقيقة حتى يؤثر فيها الهوس الإلهي، وينفذ إليها الإلهام الرباني. وإذا كانت صفة الطهارة-التي ينعت بها أفلاطون النفس الشاعرة-تحيل إلى ترابط الأخلاقي والجمالي في تصوره للفن كما سنرى لاحقا، فمن الملاحظ أن صفة "الرقة" تشي بسمات رهافة الإحساس والشعور ويقظة الوجدان التي تميز النفس الشاعرة، وتذكي استعدادها الفطري، وتيسر تعلمها "مهارة قول الشعر" .
      ولا شك أن هذا التصور ينبني على موقف تشكيكي في الشعر، ينقص من قيمته وجدواه، ويعتبر أن ثمة حدودا ما ينبغي للشعراء تجاوزها في إبداعاتهم و محكياتهم، لأن للمحاكاة الشعرية إطارا خاصا بها، تفقد إن هي تعدته جماليتها. ويتضح ذلك التصور في قوله: « أول ما يتعين علينا عمله هو أن نراقب مبتكري القصص الخيالية، فإن كانت صالحة قبلناها، وإن كانت فاسدة رفضناها، وعلينا بعد ذلك أن نكلف الأمهات والمرضعات بألا يروين للأطفال إلا ما سمَحنا به، وأن يعنين بتشكيل أذهانهم بهذه الحكايات خيرا مما يعنين بتكوين أجسامهم بأديهن. أما تلك الأقاصيص الشائعة الآن، فمعظمها ينبغي استبعاده (...) أعني تلك التي رواها هوميروس وهزيود وغيرهما من الشعراء، وهم أعظم رواة القصص الكاذب الذي لا يزال شائعا بين الناس (...) إن أول ما أعيبه عليه هو كذبه، بل كذبه الآثم الشرير(...) في تمثيل الآلهة والأبطال بطريقة باطلة، وكأن مصورا يرسم صورا مشوهة لا يوجد بينها وبين موضوعها ظل من الشبه.» [8].
      لا تكتسب المحاكاة الشعرية قيمتها من طبيعتها الفنية وخصائصها الجمالية فحسب،بل من محتواها الأخلاقي أيضا، لأن للشعر –كما سبق القول- دورا تربويا وأخلاقيا في التنشئة، ولذلك لا يجيز منه أفلاطون في مدينته الفاضلة « إلا ذلك النوع الذي يشيد بفضائل الآلهة والأخيار من الناس »[9]، أما النوع الآخر الذي يتطاول فيه صاحبه على قدسية الآلهة وطهارتها، فيدعي أنها « تنصب الفخاخ وتحيك المؤامرات بعضها لبعض»[10]، أو يحملها مسؤولية المآسي التي يعيشها الإنسان[11]، فلامكان له في "الجمهورية" ، وهذا ما يعبر عنه بقوله: « علينا أن نرجو هوميروس وغيره من الشعراء ألا يغضبوا إذا استبعدنا تلك الأقوال وما شاكلها، لا لأنها تفتقر إلى الجمال الشعري، أو لأنها لا تلقى من الناس آذانا صاغية، وإنما لأنها كلما ازدادت إيغالا في الطابع الشعري، قلت صلاحيتها لأسماع الأطفال والرجال الذين نودهم أن يحيوا أحرارا، يخشون الأسر أكثر مما يرهبون الموت.» [12]
      فبالرغم من إعجاب المتلقين بأشعار هوميروس وهزيود وغيرهما من الشعراء، وبالرغم أيضا من تضمنها كثيرا من الخصائص الجمالية والمميزات الفنية، إلا أن أفلاطون يرفضها لكونها تبث في النفوس- بابتعادها عن الحقيقة وتشويهها للأصل والمثال- قيم الشر والحقد، وتكون بذلك جيلا لا يؤمن بالخير والفضيلة. ومن الواضح هنا أن تصوراته الفلسفية ذات أساس أخلاقي ينسجم مع بنية المجتمع اليوناني وتقسميه "الطبقي"، ولذلك فالجمال عنده يقترن ب" الطهارة "ولا يتحقق في الفن عموما والشعر خصوصا إلا بقدر ما يحقق للنفس من تطهير.
     وتحيل "الطهارة "هنا إلى الحكمة والفضيلة، وتعتبر أساس التمييز بين الجمال والقبح في الفن عامة، والشعر خاصة، لكون النفس الفاسدة والدنيئة ستحاكي الأفعال الخسيسة والشريرة، مادام الخلق النفسي ينعكس على الأسلوب الشعري: لأن« (...) جمال الأسلوب والانسجام، والرشاقة، والإيقاع الجيد، كل ذلك يتوقف على بساطة النفس، أعني البساطة الحقة، التي تتصف بها روح تجمع بين الخير والجمال (...) ولاشك أن تلك الصفات تتبدى في فن التصوير وكل فن إبداعي آخر (...) ولاشك أن الافتقار إلى الرشاقة وإلى الإيقاع والانسجام يقترن بانحطاط التعبير والتفكير، وسوء الطبع، أما الصفات المقابلة، فتتمشى مع الطبائع المضادة، أي الحكمة والفضيلة.»[13]   
      فالخير والجمال قيمتان نفسيتان مترابطتان، وتنعكسان على البناء الشكلي والمحتوى التمثيلي للشعر، وفي رأي أفلاطون أن سبب اختلاف الأنواع الفنية وتفاوت أساليبها يعود إلى طبيعة "الروح" المبدعة، إذ إن انتظام البنية الجمالية للفن وتناغم مكوناتها إنما ينتج عن طبـاع حميدة وأخلاق نبيلة ويعبر عنهما، وبالمقابل فاختلال البناء الفني وتفكك عناصره إنما يرجع إلى الطبائع السيئة والأخلاق الخسيسة. وإذا كان ما يشير إليه أفلاطون هنا يمثل أول محاولة في تاريخ نظرية الأدب لدراسة النتاج الأدبي في علاقته بنفسية المبدع وطبيعتها، فإنه لم يقتصر في مقاربته على هذا الجانب، ولكنه حدد المقاييس الجمالية التي تخص العناصر الشكلية والمقومات الأسلوبية أيضا، مادامت الأخلاق النبيلة لا تصنع وحدها عملا أدبيا، فأكد أن أول تلك المقاييس أن يصوغ الشاعر معانيه وأفكاره في قالب حكائي، بمعنى أن تقدم في قصة مبتكرة تحاكي الأفعال الإنسانية، لكون « الشاعر الذي يراد له أن يكون شاعرا مبدعا حقا لا ينبغي أن يحشد ألفاظا وكفى، بل لابد له أن ينشئ قصصا(...) »[14].
     بيد أن تأليف حكاية سردية تقدم الأحداث والشخصيات وما يرتبط بهما ضمن بنية مترابطة لا ينفصل عن شرط ترابطها العضوي، ففي تصوره أن:« كل حديث يجب أن يكون مكونا على شكل كائن حي، له جسم خاص به بحيث لا تنقصه رأس ولا قدم، بل لابد له من وسط مع وجود طرفين يكونان قد كتبا بشكل يتفق مع بعضها ومع الكل.»[15]
     ومثلما يحصل الانسجام والترابط العضوي بين مكونات الحكاية المسرحية أو الملحمية وأجزائها بتسلسل أحداثها وخضوعها لمنطق الحتمية والضرورة، ينتج عن مكوناتها الفنية أيضا، ومن ضمنها الموسيقى، التي تسهم في إشاعة الوحدة والتناغم بين كل" أطرافها"، ولهذا أكد أفلاطون ضرورة إيلاء عناية قصوى باللحن والإيقاع، بحيث تكون الأوزان الموسيقية ملائمة للكلام الشعري، لأن لكل أسلوب شعري وزنه الخاص به، يقول: «(...) إن الإيقاع الجميل أو القبيح والرديء يتمشيان مع الأسلوب الجيد أو الرديء، وكذلك يتمشى الانسجام والنشاز مع الأسلوب عادة، إذ إن المبدأ الذي اتبعناه هو أن يخضع اللحن والإيقاع للكلام لا الكلام لهما.»[16]
      فبالرغم من كون الإيقاع سمة مميزة للشعر عن مختلف الأنواع الأدبية الأخرى[17]، إلا أنه لا يعدو أن يكون وسيلة جمالية محكومة بغاية يعمل القول الشعري على تحقيقها، ألا وهي التأثير في المتلقي، ولذلك فالشاعر حينما يوظفه ينشد من وراء ذلك استثمار طاقته التأثيرية، يقول موضحا:ذلك « (...) إن الشاعر يضفي بكلماته وجمله على كل فن ألوانا تلائمه، دون أن يفهم من طبيعة ذاك الفن إلا ما يكفي لمحاكاته، ويؤثر في أناس     لا يقلون عنه جهلا، ولا يحكمون إلا بصورة التعبير، فيدفعهم السحر الكامن في الوزن والإيقاع إلى الاعتقاد بأنه قد حدثهم حديثا خلابا(...) فإذا ما نزعت عن الشعر قالبه الشعري، فلا شك أنك تستطيع أن تراه على حقيقته عندما يتحول إلى نثر.»[18]
     ففي رأي أفلاطون يعد الوزن قوام الشعر وجوهره المميز، إذ لا تتحقق الكينونة الشعرية بدونه، ولذلك فإذا ما جردنا قصيدة ما عن قالبها الإيقاعي ستفقد شعريتها، وتتحول إلى مجرد كلام منثور، بيد أن قيمة الإيقاع الشعري في نظره لا تتحقق إلا بقدر ما يحدثه في النفس من تأثير، إذ هو وسيلة "سحرية" يوظفها الشاعر ليضفي على قوله صفة الجمالية، فتحمل المتلقين على التسليم بصدق حكاياته، ومن ثمة، الانصياع لمقتضياتها. وإذا كان ينطلق في ذلك من موقفه التشكيكي في الشعر الذي اعتبره نتاجا مخادعا ومتحايلا كما سبق القول، فإن هذا الأمر يمثل أحد أبرز نقط الاختلاف بينه وبين أرسطو.
      ذلك أن لأرسطو رأيا مغايرا في هذه المسألة، حيث حاول التخلص من التفسير الغيبي الذي ميز مقاربة أفلاطون، وعمل على دراسة "الشاعرية" وتفسيرها بإرجاعها إلى الذات الإنسانية وبواطنها، فعدها أمرا طبيعيا مرتبطا بالغرائز النفسية والقوى الذهنية للذات، ويبدو ذلك جليا في قوله: «ويبدو أن الشعر نشأ عن سببين، كلاهما طبيعي: فالمحاكاة غريزة في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة (والإنسان يختلف عن سائر الحيوان في كونه أكثرها استعدادا للمحاكاة، وبالمحاكاة يكتسب معارفه الأولية)، كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة (...)
      وسبب آخر هو أن التعلم لذيذ: لا للفلاسفة وحدهم، بل أيضا لسائر الناس، وإن لم يشارك هؤلاء فيه إلا بقدر يسير. فنحن نسر برؤية الصور لأننا نفيد من مشاهدتها علما ونستنبط ما تدل عليه (...)
       فلما كانت غريزة المحاكاة طبيعية فينا، شأنها شأن اللحن والإيقاع(...) كان أكبر الناس حظا من هذه المواهب، في البدء، هم الذين تقدموا شيئا فشيئا وارتجلوا، ومن ارتجالهم ولد الشعر.» [19]
      يعتبر انشداد الإنسان غريزيا إلى "المحاكاة" -أو بالأحرى التمثيل- أحد العوامل الأساس التي تحكمت في ظهور الشعر، فقد « (...) كان أكبر الناس حظا من هذه المواهب، في البدء، هم الذين تقدموا شيئا فشيئا وارتجلوا، ومن ارتجالهم ولد الشعر»، والمقصود بكلمة "المواهب" هنا مجموع وسائل المحاكاة من ألحان وإيقاعات وأساليب لغوية جمالية، وخاصة أساليب المجاز التي اعتبرها « آية المواهب الطبيعية»[20]، لكونها الوسيلة التي يعبر بها الإنسان عن رؤاه الفنية، والتي تنم عن طبيعته الغريزية، ولا أدل على ذلك في رأي أرسطو من كون كل الناس يستعملون المجازات في أحاديثهم[21]
      ولا ينفصل الحديث عن الأساس الغريزي للشعر وجوهره الطبيعي عن التساؤل بخصوص مصدره، إذ القول إن الشعر نشأ عن موهبة طبيعية وليس "ربانية" لا يشكل إلا جزءا من الجواب عن إشكال كبير ودائم اختزله في القوس الأول من كتابه بقوله: إن كل أنواع المحاكاة تشكل إما «(بفضل الصناعة أو بفضل العادة) »[22] ، وهو الإشكال الذي استعاده بصيغة مغايرة في سياق آخر، حيث قال: « إن فن الشعر من شأن الموهوبين بالفطرة ، أو ذوي العواطف الجياشة ؛ فالأولون أكثر تهيؤا للتكيف مع أحوال أشخاصهم، والآخرون أشد استسلاما للنوبات الجنونية الشعرية.» [23]
      يميز أرسطو في هذا السياق بين مصدرين للشعر: الأول خارجي لا تدخل فيه للشاعر، ويتلقاه بشكل سلبي؛ والثاني داخلي لأنه يرجع إلى ذات الشاعر ويصدر عنها، ومن الجدير بالملاحظة أنه يأخذ – في طرحه سؤال مصدر الشعر-من أفلاطون تعليله اللاعقلي الذي يرجعه إلى "ربات الفن"، إلا أنه يتساءل-بموازاة ذلك- عن دور الفن في الإبداع الشعري؛ إذ إلى ماذا ترجع شاعرية هوميروس، هل بفضل «معرفته بأسرار الفن أو بفضل عبقريته ؟»[24] ، وتنم مقاربة أرسطو لهذه القضية عن موقف يحاول تخليص "ظاهرة الشاعرية" من التفسير المبتور بأحادية "غيبية"، إذ في تصوره أنها فعل إرادي ناتج عن مهارات وقدرات مكتسبة إما«(بفضل الصناعة أو بفضل العادة)»[25] ، كما يوضح في القوس الأول من كتابه : فن الشعر. ولعل مما يؤكد ذلك ربطه بين المضمون الشعري والطبيعة النفسية والخلقية للذات الشاعرة، وذلك في قوله :« ولقد انقسم الشعر وفقا لطباع الشعراء: فذوو النفوس النبيلة حاكوا الفعال النبيلة وأعمال الفضلاء؛ وذوو النفوس الخسيسة حاكوا فعال الأدنياء فأنشأوا " الأهاجي"، بينما أنشأ الآخرون الأناشيد والمدائح.»[26]
     يتبين هنا أن أرسطو لم يكتف بتقديم تصور حول نشأة الشعر، بل حاول تفسير تطوره وتنوع أساليبه ومواضيعه، وفي هذا الإطار رأى أن اختلاف الأخلاق الإنسانية والطبائع النفسية بين نبيلة وخسيسة انعكس على بنية الشعر مما أدى إلى ظهور جنسين شعريين: جنس نبيل وآخر خسيس، وانقسم تبعا لذلك الشعراء إلى طبقتين يمثل كل واحدة منهما جنسا معينا. وبالرغم من تأكيده وجود ارتباط بين الجنس الشعري والطبيعة النفسية للشاعر، إلا أنه يقيمه ضمن حدود التشابه ولا يصل به إلى حد التماثل والتطابق[27]، ذلك لأن الشاعر-ويقصد هنا الممثل- الذي يشخص الأفعال النبيلة ليس بالضرورة نبيلا، كما أن ذلك الذي يشخص الأفعال الخسيسة ليس حتما خسيسا، فهم «إنما يحاكون أفعالا، أصحابها هم بالضرورة إما أخيار أو أشرار، لأن اختلاف الأخلاق يكاد ينحصر في هاتين الطبقتين، إذ تختلف أخلاق الناس جميعا بالرذيلة والفضيلة. »[28]  
      ويجد انقسام الشعر وفقا لاختلاف الأخلاق وتباين الطبائع تفسيره في بنية المجتمع الإغريقي الذي يتكون من طبقتين متقابلتين: طبقة الأحرار والمثقفين، وتتمثل في النبلاء والساسة والفلاسفة؛ وطبقة العامة والعبيد، وتتمثل في الحرفيين والمأجورين والجنود[29]، ولذلك وجد نوعان منه: التراجيديا التي تمثل الأفعال النبيلة؛ والكوميديا التي تمثل الأفعال الخسيسة. وخلافا لما يعتقد لا يشير أرسطو بأي شكل من الأشكال إلى أن التراجيديا تخص الجمهور الفاضل، وأن الكوميديا تخص الجمهور الخسيس [30].
       وسواء بالنسبة إلى التراجيديا أم الكوميديا تنشد الحكاية الشعرية – بطريقة تشكلها وانتظام أساليبها- تحقيق غاية جمالية واحدة هي: التطهير Katharsis ، وهو فعل لصيق بمفهوم "المحاكاة" عنده، وقد شابه الكثير من الغموض والتعقيد [31]، ومثل مصدرا لجدل طويل وتأويلات مختلفة ومتباينة بين شراحه منذ القرن السادس عشر وحتى الآن [32]، ويقصد به في التراجيديا التأثير النفسي والأخلاقي الذي تمارسه على المتلقي، ويتراوح هذا التأثير بين الشفقة على مصير البطل أو الخوف من ملاقاة المصير نفسه: « فالمأساة إذن هي محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزودة بألوان من التزيين تختلف وفقا لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة أشخاص يفعلون، لا بواسطة الحكاية، وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات»[33].
      ويعد التطهير خاصية فنية تسم جمالية التراجيديا وتحكم طرق انتظام أجزائها وأحداثها، وتتحدد غايته الجوهرية في إثارة انفعالات الرحمة والخوف في نفس المشاهد لتخليصه من آثارها السلبية[34]، لأن «المأساة لا تستهدف جلب أية لذة كانت، بل اللذة الخاصة بها (…) التي تهيؤها الرحمة والخوف بفضل  المحاكاة»[35].
     والتطهير بوصفه استجابة جمالية للمتلقي تتم على المستوى النفسي لا يمكن أن يتحقق إلا بواسطة الأجزاء الستة التي تكون البنية التمثيلية للحكاية المأساوية، وهي« الخرافة، والأخلاق، والمقولة، والفكر، والمنظر المسرحي، والنشيد»[36]. وتؤدي الموسيقى-أو النشيد حسب عبارته- مقارنة بالمكونات الأخرى وظيفة تأثيرية أكبر، لأنها تمتلك قدرة قوية على إثارة انفعالي الرحمة والخوف في النفس وتطهيرها منها. وهذا ما ألمح إليه أرسطو حين قال: « ومن بين سائر الأجزاء التأليفية يحتل النشيد (صناعة الصوت) المقام الأول بين التزيينات»[37].
      وقد سبق أن أشار في كتابه: في السياسة إلى أن القيمة الجمالية للموسيقى تكمن في قدرتها على تهذيب النفس وتطهيرها من الانفعالات الشديدة التي تكون لها انعكاسات سلبية على النفس « كالشفقة والجزع والتهيج العاطفي»[38]، وأكد ضرورة استثمار طاقتها التأثيرية في التأليف المسرحي لتهديء روع نفوس المتفرجين، وشحن عزائمهم، ودفعهم إلى نشدان  الكمال والفضائل الخلقية [39].
      وسواء في الموسيقى أم الشعر، يشي المحتوى الدلالي لمصطلح التطهير وبعده الوظيفي بملامح ذات أساس طبي، وهو ما يستشف من كلمات "العلاج" و"التهديء" و"الدواء" الواردة في مقاربة أرسطو له[40]. ولئن كان هذا الأمر قد حذا بأشهر مؤرخي النقد مثل آبركرومبي وديتش وهايمن إلى التنبيه على الأصول الطبية للمصطلح، فإنه يكشف أن المأساة هي « العلاج الذي يستطيع به شاعر المآسي أن ينظف نفوس سامعيه ويعيدهم إلى العاطفة الصحيحة بطريقة التطعيم»[41] .
      ويجد النسب الطبي لهذا المصطلح تفسيـره في البيئة الطبية التي نشأ فيها أرسطو، إذ كان والده طبيبا، وقد ولدت فيه مهنة أبيه شغفا حادا بهذا المجال العلمي[42] ، كما أن السياق النظري الذي تندرج ضمنه قضية التطهير الشعري هو الرد على أفلاطون الذي هاجم الشعراء والموسيقيين لكونهم يفسدون في تصوره الأخلاق والطبائع، فدافع - خلافا له- عن الوظيفة الأخلاقية والتربوية التي يؤدونها[43] .
2 - شياطين الشعر عند العرب :
      كما هو الشأن بالنسبة إلى اليونان، اعتقد العرب قديما أن الشعر إلهام لكائنات خارجية تصطفي الذات الشاعرة دون بقية الناس، وتتصل بها فتنفث فيها كلاما بديعا وساحرا لا يستطيع أحد قول مثله. وقد سموا تلك الكائنات بالشياطين والجن، وأكدوا أنها تستوطن "وادي عبقر".
     وإذا كانت تسمية الجاهليين للكائنات الملهمة وتعيينهم لفضاء الإلهام بأسماء محددة ذات قيمة دلالية ورمزية هامة، فإنها تشي بتصور أولي مُبَكِّر في الثقافة العربية لطبيعة الشعر وبعض خصائصه الفنية. ولا مجال للزعم هنا أن ذلك التصور كان ضاربا في عمق المعاينة العقلية والتفكير النقدي، ولكنه كان ينطوي- كما سنرى بوضوح لاحقا- على بعض المواقف والأحكام التي تعكس التصور "النقدي" المبكر لنشأة الشعر ومصدر الشاعرية.
       ويكفي تأمل دلالة كلمتي: الشيطان والجن في ذاتهما وفي علاقة كل واحدة منهما بالأخرى، ثم في علاقتهما معا بالشعر لتبين ذلك؛ فقد جاء في لسان العرب بخصوص كلمة " شيطان": «(...) شَطَنَ (...) أصله الشاطن: البعيد عن الحق (...) والشيطان فيعال من شَطَنَ إذا بعد فيمن جعل النون أصلا، وقولهم: الشياطين دليل على ذلك. والشيطان: معروف(...) والشيطان نونه أصلية(...) ويقال أيضا: إنها زائدة (...) إن جعلت نون الشيطان أصلية كان من الشَّطن البعد أي بعد عن الخير أو من الحبل الطويل كأنه طال في الشر، وإن جعلتها زائدة كان من شاط يشيط إذا هلك، أو من استشاط غضبا إذا احتد في غضبه والتهب(...) »[44] ، أما بالنسبة إلى كلمة "الجن" فأصلها من الجنن، نقول: «جَنَّ الشيء يجُنه جَنًّا: ستره. وكل شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك. وجنه الليل يَجُنه جَنَّا وجنونا وجَنَّ عليه يَجِنُّ، بالضم، جنونا وأجَنَّه: ستره(...) وفي الحديث: جنَّ عليه الليل أي ستره، وبه سمي الجِنُّ لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار، ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه.»[45]
       لعل أول ملاحظة تتبادر إلى الأذهان من خلال تعريف كلمتي "الشياطين" و"الجن" أنهما تشيران معا إلى كائنات غيبية ضالة مضلة؛ ذلك أنها لا ترى ولا تدرك بالحس، وتنصب فخاخ الغواية والتضليل للإنسان لتبعده عن طريق الحق والرشاد. ولاشك أن ربط الإنسان العربي في الجاهلية وصدر الإسلام الشعر والشعراء بهذه الكائنات لم يكن اعتباطيا، إذ في غياب الخطاب العلمي الواصف للعملية الشعرية بالمصطلحات والمفاهيم النقدية الدقيقة، والذي لم يبدأ في التشكل -لأسباب علمية وجمالية- إلا في القرن الثالث للهجرة، وفي ظل التساؤلات الشائكة والملاحظات الدقيقة التي كانت تثيرها الظاهرة الشعرية حول اختلاف خطابها عن سائر الخطابات المألوفة، وارتباطها بلحظات نفسية وزمنية وفضاءات طبيعية خاصة، كان طبيعيا أن يستثمر الجاهليون والإسلاميون لغة الإيحاء والترميز لتضمين بعض آرائهم وأحكامهم، التي تقوم العملية الشعرية، من جهة منتجها وتحققها النصي، وبالرغم من طابعها البدائي المغرق في الخرافة، إلا أنها تحمل وجهات نظر خاصة، وتنطوي على "تصورات نقدية مبكرة" .
     ذلك أن أصحابها-وهم شعراء أساسا- كانوا يرومون التأكيد على الطابع الغرائبي لخطابهم، وأن خصوصيته الجمالية لا تتحقق إلا عبر الانزياح عن الأشياء المعقولة والمعروفة، والتعبير عن ظواهر ومعطيات غير حقيقية، أو "بعيدة عن الحق" بلغة لسان العرب.
    ويتقاطع هذا التصور، الذي يرجع الشعر إلى شياطين الجن، مع موقف القرآن الكريم من نوع معين من الشعر، ربطه بالأهواء والهيامات، وذلك في قوله تعالى في سورة الشعراء: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ{224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ{225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ{226} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ{227}). ذلك أن هذه الآيات تؤكد أن نهج الشعراء ومهيعهم هو الهيام والكذب في القول، وهما سمتان دالتان على أن طريق الشعر متشعبة المسالك وملتوية الأساليب، وأنها تجول بالفكر في كل اتجاه، وتخرق بالرؤى حجب الحس وقيود الحقيقة وضوابط العقل. وتعتبر كلمة "الهيام" في الآية الكريمة« صفة من لا مسكة معه و لا رجاحة معه، وهي مخالفة لصفات ذي الحلم الرزين والعقل الرصين»[46] ، وتدل على أن القرآن أقر كما أشار إلى ذلك إحسان عباس « للشعراء بعالم مستقل وميزهم بالانحياز إلى الخيال دون أن يسمي ذلك خيالا »[47] .
    وإذا كان ربط العرب قديما للشعر بالشياطين والجن يستهدف التنبيه على خصوصيته الجمالية المتصلة بعالمه الفني ودلالاته الجمالية، فإن تأكيد الشعراء على أن مصدره كائنات غيبية، لا يروم إضفاء هالة على العملية الإبداعية فحسب عن طريق ربطها بكائنات مخيفة، ولكنه ينشد التشديد على طابعه الغرائبي الذي يجعله خفيا على الإدراك وعصيا على الفهم والتفسير، ولعل ذلك ما جعلهم يربطونه بكائنات غير مرئية، إذ الجن كما سبق من الاستتار والخفاء عن الأبصار، ومن تأتي أهمية زعمهم أن الشعراء يلتقون مع ملهميهم في: "وادي عبقر"، وهو مكان سري لا يهتدي إليه إلا من تم انتقاؤه ليصبح شاعرا.      
    ومن الواضح أن اختيار التسمية لم يكن اعتباطيا، ذلك أن اختيار أفراد دون آخرين ليصبحوا شعراء يستند إلى بعض المميزات التي تسم قدراتهم الذهنية والإدراكية والتي تشير إليها كلمة  "العبقرية"، كما يرتكز على الطاقات التعبيرية والخصائص الإيحائية لكلامهم، والتي تتحدد في غزارة الإنتاج وتدفقه، وهو ما ترمز إليه كلمة "وادي". مما يعني أن "شياطين الجن" لا تهدي أيا كان إلى مكان وجودها، ولكنها تختار أفرادا معدودين، يتسمون بملكات نفسية وذهنية، وقدرات تعبيرية خاصة. وإذا كان العرب قديما قد اختاروا اللغة المجازية للتعبير عن مواقفهم وأحكامهم حول الشعر والشعراء، فإن هذه المواقف والأحكام هي التي ستتضح وتنضح في الخطاب النقدي، وسيتم التعبير عنها في معرض تعريف الشاعرية، ومن خلال مصطلحات عديدة من قبيل: "الفحولـة" و"الذكاء " و "القريحة " و " الخاطر".....    
     ويبدو أن الشعراء الجاهليين والإسلاميين لم يكونوا مقتنعين بفكرة شياطين الجن، ولكنهم كانوا يتعمدون توظيفها بغاية إضفاء نوع من الغرائبية على خطابهم، ومن ثمة على ذواتهم التي لا تأبه بمواجهة المخاطر، ولقاء الكائنات الغيبية. وإذا كان التراث العربي قد حفل بالعديد من الأخبار والشواهد النصية التي تؤكد أن لكل شاعر شيطانا من الجن يصاحبه ويلهمه الشعر، فإن تأملها يؤكد ما سبق قوله من كون أصحابها ضمنوها ملاحظات وآراء نقدية حول العملية الشعرية تنسجم مع طبيعة الوعي النقدي الذي كان سائدا عندهم، ومن النماذج الدالة على ذلك قول امرئ القيس:
تخيرنـي الجـن أشعارهـا   فما شئت من شعرها انتقيت
     وقول حسان بن ثابت:
ولي صاحب من بني الشَّيْصَبان    فطـورا أقـول وطورا هـوه
    وفي السياق نفسه يقول أبو النجم العَجَلي:
وإني وكـل شاعـر من البشـر    شيطانه أنثى وشيطانـي ذكـر
    ويقول أيضا الأعشى ميمون بن قيس:
 وما كنت ذا خوفٍ ولكن حسبتني   إذا مَسْحَلٌ يُسْدي لي القولَ أنْطِقُ
                     شريكان في ما بيننا من هـــــــــــــــــــــــوادة    صفيـان إنسـي وجـن موفـــــــــــــــــــــــــــقُ
                     يقـول فلا أعيـا بقـول يقولـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه   كفانـي لاعـيٌّ ولا هـو أخـــــــــــــــــــــــــــــرق
      ذلك أننا إذا تأملنا هذه الأبيات سنلاحظ أن كل واحد من الشعراء عبر عن تصورات متفاوتة ومختلفة، فامرؤ القيس –وإن كان يقر بفكرة الإلهام الشعري- أكد أن شيطانه الشعري لا يسلبه حريته وإرادته في القول الشعري، ولا يعتبره مجرد "رسول" عليه أن يوصل أشعاره إلى الناس، بل يعرض عليه جملة من القصائد، ويترك له حرية اختيار ما شاء منها. ولا شك أن امرأ القيس يروم أن يرسخ بذلك فكرة تفوقه الشعري، ليس على بني البشر، بل حتى على الجن، لأن في دعوتها له إلى انتقاء أشعار دون غيرها، تقر بعجزها، وتعترف له بذوق جمالي خاص ومعرفة عميقة بأسرار الشعر وقدرة فائقة على تصنيفه في سلم الجمالية.
    وخلافا لامرئ القيس يشير حسان بن ثابت إلى أنه يتناوب مع شيطانه قول الشعر، إذ يتكفل كل واحد منهما بقوله في لحظات معينة. بيد أن ما يميز بيت حسان كونه يسمي قبيلة صاحبه، فاختار لها كلمة غريبة يصعب النطق بها لكونها متقاربة مخارج الحروف، وكأنه بذلك أراد الإشارة إلى غرابة العملية الشعرية وصعوبتها.  
     أما أبو النجم العجلي، فقد حاول أن يرجع تفوقه على غيره من الشعراء إلى كون قرينه جني ذكر، بينما قرينات الشعراء الآخرين فجنيات. ومن الواضح أن الشاعر هنا يستثمر –بالنظر إلى اللحظة التاريخية والمعرفية التي عاش فيها- بعض التصورات النقدية الناشئة، خاصة مع الأصمعي في مصطلح الفحولة الذي استثمر دلالته، فأرجع التفوق في الشاعرية إلى عامل ذكوري أساسا.
     أما الأعشى فلم ير في قرينه من الجن أي مصدر للشر أو سبب للخوف، ولكنه شريك له في الإبداع الشعري، ومعين له على إنتاج نصوص شعرية بديعة. وهو وإن كان سماه باسم غريب (مسحل)، فإنه جرى في ذلك على نهج الشعراء والمتأدبين قديما الذين ظلوا يحرصون على التصنع والغرابة في تركيب أسماء شياطين الشعر وأسماء آبائها[48]. ويبدو من خلال تأمل تلك الأسماء أنها لم تكن مقصودة لذاتها، بقدر ما كانت تروم تسجيل بعض الملاحظات والأحكام حول أساليبهم الشعرية وملكاتهم الشاعرية، وهو أمر كان طبيعيا بالنظر إلى خصوصية اللحظة التي قيلت فيها، إذ في ظل غياب خطاب نقدي قادر على وصف العملية الشعرية بلغة علمية دقيقة، كانت اللغة الإيحائية والعبارات الترميزية تعوض ذلك النقص كما سبق القول، ويكفي تأمل نماذج من أسماء شياطين الشعراء التي أوردها أبو زيد القرشي لتبين ذلك:
        هُبَيْد بن الصلادم .................................................  شيطان عُبيد بن الابرص
        مُدْرك بن راغم ..............................................  شيطان الكُميت بن زيد الأسدي
       لافظ بن لاحظ ....................................................  شيطان امرئ القيس
       هادر بن ماهر ....................................................   شيطان النابغة الذبياني
    يشي تأمل هذه الأسماء بأن اختيارها لم يكن اعتباطيا،وإنما كان يرمي إلى تحديد بعض الخصائص الجمالية التي تميز كل شاعر على حدة،ومن ثمة ينطوي على أحكام تميز أساليبهم،وتبرز الصفات التي تميزوا بها والتي تتفاوت بين الإبداعية (ماهر) والإدراكية (مدرك، لاحظ) والتعبيرية (لافظ، هادر).
     ومن ثمة، فبالرغم من الطابع الخرافي لهذا المعتقد الذي يروم إدخال المتلقي في عالم العجائب والغرائب، وإيهامه بتوعر سبل التوصل إلى قول الشعر، إلا أنه يشير ضمنا إلى بعض الخصائص الفنية والشروط الجمالية التي تميز القول الشعري، ويجب أن تتحقق في الذات الشاعرة، والتي توحي ببعضها أسماء شياطين الشعر. ويبدو أن الشعراء بدأوا يتخلون بداية من العصر الأموي عن الإيمان بفكرة شياطين الشعر، نتيجة وعيهم أن ذواتهم هي مصدر الشاعرية، وأن إدراك أسرارها النفسية وغوامضها الإبداعية يتطلب معاينة حركيتها الذهنية والنظر في نشاطها الإدراكي، وتحديد طبيعة القوى الغريزية والطاقات الشعورية التي تنتجها، ثم رصد بواعثها الذاتية ومثيراتها الموضوعية. فأصبح الشعر عندهم صناعة وعلما وليس إلهاما.[49]





[1] أفلاطون: الجمهورية، تر: فؤاد زكريا، راجعها على الأصل اليوناني: د.محمد سليم سالم، دار الكتاب  العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968،  ص85-86 .
[2] ابن النديم: الفهرست، ص 306.
[3] أفلاطون : إيون 534أ- د، نقلا عن د. غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث، ص30.
أنظر النص في الترجمة الفرنسية : PLATON: ION, in oeuvres completes, 1/63
[4]  أفلاطون : فايدروس أو عن  الجمال، تر: أميرة  حلمي مطر، دار المعارف، مصر، ط1، د.ت.ص105.
[5] أفلاطون: دفاع أرسطو، ضمن محاورات أفلاطون، تر: زكي نجيب محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1966، ص53.
[6] المصدر السابق، ص 68.
[7]  أفلاطون: الجمهورية، تر: د.فؤاد زكريا، مذكور، ص 114.
[8]  أفلاطون: الجمهورية، تر: د.فؤاد زكريا، مذكور، ص 66.
[9] نفسه،ص377.     
 [10] نفسه ، ص 67.
[11] نفسه،ص68-69.
[12] نفسه، ص77.
[13]  أفلاطون: الجمهورية، مذكور، ص96. 
[14] أفلاطون : فيدون ، ضمن محاورات أفلاطون، تر: زكي نجيب محمود، ص 118.
[15] أفلاطون : فايدروس، مذكور، ص103 .
[16]  أفلاطون: الجمهورية، ص 95-96.
[17] أفلاطون : المأدبة، فلسفة الحب، تر: د. وليم الميري، ص 93.
[18] أفلاطون: الجمهورية، ص 368.
[19]  أرسطو:  فن الشعر، مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد،  تر وشر وتح: عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، ط2، 1973، ص 12-13.
[20]  أرسطو: فن الخطابة، تر: د. عبد الرحمن بدوي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد،  ط2، 1986، ص 197.
[21]  أرسطو: فن الشعر، ص64.
[22] نفسه ، ص 4.
[23]  نفسه ، ص 49.
[24]  نفسه ، ص25.
[25]  نفسه ، ص 4.
[26] نفسه، ص 13.
[27] -  ARISTOTE :  La poétique, texte, traduction, notes par :  Roselyne  Dupont-Roc  et  Jean  Lallot, col : Poétique, éd Seuil, 1980 , P 168, n (6).  
[28] أرسطو: فن الشعر،  تر: عبد الرحمن بدوي، ص 7-8.
[29]  يقول أرسطو في هذا الإطار: « بما أن الحضور صنفان، منهم الأحرار المثقفون، ومنهم السوقة المؤلفون من الصناع والأجراء ومن آخرين يحاكونهم، فإنه لا بد أن تخصص لأمثال هؤلاء مباريات ومشاهد تريحهم وتشرح صدورهم(...) فكل يستطيب ما يلائم طبعه.» في السياسة، تر: أوغسطينس برباره البولسي، اللجنة اللبنانية  لترجمة  الروائع، بيروت، ط2، 1970، ص444.
[30] ARISTOTE : La poétique ,op. cit , P 167, n (6).  
[31]  عبد الرحمن بدوي: تصدير عام، ضمن أرسطو: فن الشعر، تر: عبد الرحمن بدوي، ص 49.
[32] أرسطو: فن الشعر، تر: د. إبراهيم حمادة، ص 102، هـ (12). أنظر بهذا الخصوص المقاربة الجيدة والمتميزة التي قدمها المترجمان الفرنسيان: (3)ARISTOTE : La poétique, P 189, n
[33] أرسطـو: فن الشعر، تر: عبد الرحمن بدوي، ص 18.
   ARISTOTE : La poétique ,op .cit , P 189, n (3).[34]
[35] أرسطو: فن الشعر،  تر: عبد الرحمن بدوي، ص 38.
[36] نفسه ، ص 20.
[37] نفسه ، ص 22.
[38] أرسطو: في السياسة، مذكور، ص 443.
[39] نفسه، ص 444.
[40] نفسه، ص 443.
[41] آبركرومبي: قواعد النقد الأدبي، تر: عوض محمد عوض، ص 124، نقلا عن د.عباس ارحيلة: الأثر الأرسطي، ص 210.
[42] د. عباس ارحيلة: الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، سلسلة: رسائل وأطروحات رقم 40، ط1، 1999،ص209.
[43] د. شكري عزيز الماضي: في نظرية الأدب، ص43-44، نقلا عن د.عباس ارحيلة : الأثر الأرسطي، مذكور،ص 293.
[44]  ابن منظور : لسان العرب، مادة (شطن).
[45]   نفسه، مادة (جنن).
 [46] الشريف الرضى: تلخيص البيان في مجازات القرآن، تح: محمد عبد الغني حسن، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1955، ص194.
[47] د. إحسان عباس: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري، دار الشروق،  عمان، ط1، 1993، ص 23.
[48]  د. إحسان عباس : تاريخ النقد الأدبي عند العرب نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الثامن الهجري، دار الشروق،عمان،ط1، 1993،ص20.
 [49]  أنظر يوسف الإدريسي: الإبداع الشعري قواه الذهنية وخصائصه الفنية، حوليات كلية اللغة العربية، مراكش،ع 21، س1427/2006،من ص 185-إلى ص212

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق