الأحد، 17 مايو 2009

الشعر والشعرية عند محمد الحبيب الفرقاني



                                            
                                              « القصيدة جمال ، ولايمكن أن تكون جميلة ، إلا وهي تتحدث عن جمال ، وتصدر عن جمال ، وتعانق جمالا وتدعو إليه . حيثما كان الجمال ، وحيثما يجب أن يكون .. في الطبيعة أم في الإنسان ، أم في علائق الحياة الجميلة بينهما.»            الحبيب الفرقاني


       تمهيد:                                               
      لم يكن محمد الحبيب الفرقانـي مجرد شاعر، وإنمـا كان علاوة على ذلك ناقدا للشعر والشعـراء، ومنظرا لحركية القصيدة العربية- والمغربية خاصة- ومقاربا لتحولاتها البنيوية والفنية عبر رصد أبرز الملامح الشكلية والإيحائية التي وسمت سيرورتها التاريخية وطبعت صيرورتها الجمالية.
      ولذلك، ففضلا عن بعض مقالاته الأدبية التي نشرها في الصحف والمجلات، وعبر فيها عن تصوره للشعر وتقويمه للنتاج الشعري بالمغرب خلال الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين، كان يستهل أغلب مجموعاته الشعرية بمقدمات يعرض فيها تصوره للشعر، وضرورته الجمالية والاجتماعية، ويقوم فيها حركة القصيدة المغربية وتحولاتها في ضوء المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تعتمل في الواقع المغربي آنذاك .

     وقد كان بذلك رائدا في هذا المجال، إذ يشهد له- بالنظر إلى المرحلة التي عاش فيها - بأنه من أوائل الشعراء المغاربة الذين خصوا دواوينهم الشعرية بمقدمات نقدية وتنظيرية، تستقرئ الراهن الشعري، وتستشرف الآتي، وتسهم من ثمة في توجيه حركية الشعر المغربي. 
     ومن الملاحظ أن الحبيب الفرقانـي في كل ما كتب حول الشعر والشعراء كان تحكمه وتوجهه الأسئلة نفسها؛ من قبيل: ما الشعر ؟ وما خصائصه الجمالية ومقوماته الفنية التي توشحه بصفة الأدبية؟ وهل للشعر وظيفة في الحياة اليومية والاجتماعية والسياسية للأفراد والجماعات؟ أم أنه لايعدو أن يكون خطابا إمتاعيا لا يستهدف بجماليته أي غاية نفعية؟
     وقبل استعراض أبرز تصوراته بهذا الخصوص، تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الأسئلة ظلت ملحة ومترابطة في تاريخ الشعريات الحديثة والقديمة على حد سواء، إذ إن كل المقاربات النقدية لسؤال "ماهية الشعر" كانت تجد نفسها في مواجهة مطلب ضرورة تحديد " المهمـة " أو الوظيفة التي يؤديها الشعر أو عليه أن يؤديها في الحياة اليومية للإنسان، كما أن دراسة الشعر، والبحث في تطوره أو تحوله كان يتم من خلال النظر في مدى التزام الشعراء بتصور خاص للشعر، وحرصهم على " توظيفه " لأداء مهمة معينة مرتبطة بموقف من الحياة أو من الصراع المعتمل في المجتمع؛ هذا مانلاحظه بدءا من الشعريات الأرسطية التي لم تفصل الحديث عن سؤال نشأة الشعر وأداته وأنواعه عن غايته التطهيرية[1]، مرورا بالشعرية العربية التي لم يكن بالغ اهتمامها بالتأكيد على المكونات الشكلية للقصيدة من إيقاع ودلالة وإيحاء، إلا مقدمة للتنبيه على وظائفها الجمالية والتأثيرية[2]، ووصولا عند المذاهب الأدبية الحديثة ، التي يمكن الزعم هنا أن تاريخها واختلافاتها تعود في جانب كبير منها إلى تصور كل منها لوظيفة الأدب في الحياة، وتحديدها لتلك الوظيفة في التعبير عن المجتمع ، أو عن الذات والطبيعة، أو تخليص الأدب من أي غاية تعبيرية مسبقة...
   و يلاحظ المستقرئ لكتابات الحبيب الفرقانـي حول الشعر، أنه ظل يؤكد فيها باستمرار على مستواه الوظيفي الذي يتعلق بالغاية التي يؤديها للإنسان وفي الحياة والمجتمع؛ أما الجانب الآخر الذي يتصل بماهية هذا الخطاب الجمالي ويعنى بتحديد بواعثه و خصائصه الشكلية والجمالية، فيكاد يكون مهملا في كتاباته، إذ  لانعثر - في حدود ما اطلعنا عليه - إلا على إشارات قليلة ومتفرقة بخصوصه، وقد جاءت في مجملها متناثرة ومجملة ، واتسم إيرادها بالعرضية . وستحاول هذه الورقة جمع شتاتها وإعادة بنائها وتركيبها ، قصد صياغة مفهومه للشعر وتصوره للشعرية .
        أولا- مفهوم الشعر عند الحبيب الفرقانـي:
      يتحدد مفهوم الشعر عند الحبيب الفرقانـي بوصفه تعبيرا عن رؤى الإنسان ومشاعره الداخلية إزاء ظواهر العالم المادي والعلاقات الطبيعية والاجتماعية؛ إنه نشيد ثائر انبثق من أعماق النفس الإنسانية للتغني بدنو ساعة التحرر والتبشير بميلاد الفجر الجديد.
      ولا تنصرف الحرية والثورية هنا إلى الجانب الاجتماعي والسياسي للحياة، ولكنها تتصل أولا بالجانب الذاتي للفرد؛ إذ قبل أن يساهم الشاعر في تحرير الناس وقيادة حركتهم الثورية عليه أن يفك أولا قيود ذاته، فيتخلى عن المشاعر الفردانية، والأحاسيس المباشرة المحدودة التي ترتهن بظواهر الواقع المادي،ويحرر لغته من ابتذال الكلمات المألوفة والعبارات المستهلكة والصور والأخيلة المستمدة من الماضي والمنشدة إليه، لأن الشعر باعتباره خطابا جماليا للذات« يصدر من أصفى المنابع في كيان الإنسان وينطلق من حاسته الداخلية للرؤية والفهـم ، ويكون لغة الرقة والإحساس الباطني في نجاواته الحرة .» [3]
     ومن الملاحظ أن الحبيب الفرقانـي في كل ما كتب كان يحرص على التأكيد أن الشعر رديف الحرية و صنوها، بها تتحدد ماهيته ومنها يشع جوهره، وهذا ما يتبين من قوله في سياق حديثه عن نشأة الشعر: حيث يرى أن الشعر هو التعبير عن المرائي والمشاعر الداخلية إزاءها، إنه وسيلة الإنسان الأولى للخروج من نفسه..وأداة تحرره من الاعتقال الداخلي...إنه قناة مرور الذات ومشاعرها وأحاسيسها إلى العالم الخارجي...فتحت « ضرورة الخروج من الذات، والحاجة الحيوية للتواصل مع الغير..تحركت الكلمة في شفتي الإنسان. وحين لم تتجاوز طاقاتها الأدائية شرح العاديات في صورتها المادية البسيطة، استعانت بالموسيقى، وتغورت معها إلى أعماق الخوالج والنبضات القلبية، فعادت منها فورا بشحنات من حرارة الحضور وذكاوة الإحساس. فتحولت على الفور إلى شعر..ذبذبات شعورية محمومة، وافدة من الأعماق، لتنتقل إلى الآخرين. وتستقر في الأعماق:..بيتا..مقطوعة..أغنية قصيدة..زجلا، موالا» [4] .
       ولم يكن الشاعر في انشداده إلى الحرية وتغنيه بها يعبر عن طموح فردي مغرق في الذاتية، ولكنه كان يصدح بذلك وفي ثناياه عن صوت جماعته أو قبيلته التي ينتمي إليها؛ إذ الشعر لم يكن يوم نشأ– بحكم طبيعته الشعورية ومنبعه الفطري الأول– إلا تعبيرا عن رغبة وجدانية للذات في « التكاشف والتفاهم مع الآخر والتلاقي..على الأعماق معه»[5] .
       وهذا ما يؤكده تاريخ الشعرية اليونانية، وتشهد به الشعرية العربية القديمة؛ فقد كان الشعر منذ القدم – سواء الملحمي أم الغنائي - نشيدا يؤلفه الفرد لتتغنى به الجماعة، لكونها تجد فيه تعبيرا عن أحلامها المشتركة...وطموحاتها الواعدة، ولأنه يمدها بالطاقة التي تشحذ عزائمها وتقوي إيمانها بوحدة المعركة والمصير؛ يقول موضحا ذلك :« في العصر الجاهلي – وهو عصر متأخر نسبيا عن منابع الشعر الفطرية الأولى – ظل الشعر العربي منتوجا جماعيا ، يصدر عن الفرد ولكنه مرتبط – عاطفيا وفكريا وإيديولوجيا – بالجماعة –القبيلة - ...يعدد أعمالها. ويغني أمجادها المشتركة، ينافح عن كيانها ووجودها كجماعة وككيان، يدفعها لتأخذ مكانها على طريق الحرية والكرامة، كقوة اجتماعية مهيبة... تلك صورة كانت كلها من مناجم الشعر في التربة الشعبية، يضرب فيها عاملا ناصبا مع العاملين والكادحين »[6] .
      إذا كان الشعر قوة تنبع من الإحساس الذاتي الحر المتماوج في كيان الشاعر، ويمثل تعبيرا عن طفولة إنسانية مفتقدة، كانت تتلاحم فيها الذات الشاعرة مع الذوات الأخرى وتعبر عن رؤاها الوجدانية والوجودية، وطموحاتها الذاتية والجماعية، فإن الحبيب الفرقانـي يرى أن الشعر قد خرج عن هذا المهيـع وابتعد عن روحه وجوهره، فانفصل عن الجماعـة نتيجة التحولات الاجتماعية التـي طرأت على العلاقات الإنسانية، والتي حدثت بفعل التغييرات السياسية والاقتصادية في الحياة؛ يقول «دخلت الفردية والذاتية الأدب والفن – والشعر – يوم غزت التجارة والنفوذ السلطوي العالم..يوم قرر التاجر المستغني، والملاك الكبير أن ينصرفا لمصالحهما، ويعتزلا مصالح الآخرين، فخلقا المصالح الفردية، وأشاعا الأنانية في تاريخ المجتمعات...أي يوم توطدت المصالح الطبقية، وتجردت العلاقات الاجتماعية من طابعها الإنساني، وتجردت تبعا لها العلاقات الفنية – الأدبية، من طابعها الجماعي ، ودخلت كلها سرداب الأنانيات ، وهوت بين أنياب فردية محتكرة قاتلة، خرجت بها من مدرجها الجماعي – التاريخي الأول .»[7]
      معنى ذلك أن التحولات التي طرأت على بنيات ووظائف الشعر الإنساني عامة، والعربي خاصـة، والمغربي بصفة أخص، إنما كانت نتاجا لما حدث على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فكلما حدث تحول في هذه البنيات إلا ووجد الشكل التعبيري المناسب له في القصيدة.
       ومن البديهي أن أسس هذا التصور تلتقي مع طروحات لوسيان غولدمان في كتابه: السبيل إلى علم اجتماع للرواية، والتي صاغ فيه فرضيتان، مؤداهما: تماثل بنية الشكل الروائي مع بنية التبادل في المجتمع الرأسمالي من جهة، وتماثل تطور بنية الشكل الروائي مع تطور بنية التبادل في المجتمع الرأسمالي من جهة أخرى.
       وعلاوة على ذلك، فمن الواضح أن تصورات الفرقاني وموافقه من الشعر المغربي خاصة والعربي عامة تتقاطع مع مجمل الطروحات التي رددها رواد ومنظروا " المذهب الواقعي في الأدب " في العالم العربي بدءا من الكتاب الأول في هذا الإطار لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس: في الثقافة المصرية (1955م)، ومرورا بكتاب رئيف خوري: الأدب المسؤول، وانتهاء بكتاب حسين مروة: دراسة في ضوء المنهج الواقعي، وغيرها من الكتابات التي رفعت شعار"الالتزام في الأدب"، وظهرت في حقبة تاريخية خاصة في العالم العربي عرفت صراعات مريرة بين "الامبريالية الغربية" من جهة، و"الرجعية العربية" من جهة أخرى، وقد اتسمت هذه الحقبة بتنامي الفكر التقدمي والتحرري، وبتأكيد العلاقة المترابطة بين الأدب والواقع الاجتماعي.   
      ويتضح التأثر بهذا المذهب الأدبي في تأريخ الحبيب الفرقانـي لحركية الشعر المغربي الحديث استنادا إلى التحولات – السياسية والاجتماعية أساسا- التي طرأت على بنية المجتمع المغربـي، وذلك انطلاقا من قناعة راسخة مؤداهـا أن «القصيدة الشعرية بروابطها وأبعادها في الداخل والخارج، تعبير بوجه ما عن وضع اجتماعي معـين. تشخيص على مستوى ما لنوعية العلاقات السائدة »[8] ، ولذلك فقد أكد أنه مهما اختلف الشكل البنيوي والهيكلي للقصيدة الشعرية، فإن محتواها الفكري والوجداني«لايمكن أن يكون في الأخير إلا ثمرة لصيقة،انعكاسا للمجتمع وصراعاته،وظلا للتحولات التي لاتنفك تختمر بين جدرانه.وثمرة لجدلية هذا الصراع، فكريا ونفسيا وروحيا...ولأن المحتوى في الشعر والفنون كما في غيرها ثمرة الواقع الاجتماعي وانعكاس له،فإنه ..لابد أنه ثوري بطبيعته...» [9]
      ففي رأيه أن ما يحدد تاريخ الشعر المغربي، ويسم حركيته الإبداعية هو الصراع بين التحرر والتقليد، بين المحافظة والتجديد، وبعبارة مختصرة بين حرية الشعب وحرية طبقة مسيطرة [10]. ذلك أن المشهد الشعري المغربي عرف مع مطلع الستينات-وبعد اتضاح معالم الصراع الاجتماعي والسياسي- انقساما بين تيارين من الشعر، كانا نتاجين لتمايز طبقي، وتعبيرين عن « الانفصام السياسي بين إرادتين متعارضتين، وفئتين اجتماعيتين متناقضتين مصلحيا ومصيريا»[11]، يتمثل الفريق الأول في التيار "المحافظ" ،وهو يلتزم شكليا العمودية والتقفية الواحدة ،ويرتبط – عقائديا – في الغالب بالاتجاه المناهض للتغيير – ومصيريا – بالمضمون الاجتماعي والسياسي للفئة ذات الحظوة والسيادة ؛ بينما يتمثل الفريق الثاني في الاتجاه التقدمي الذي يحمل لواء التغيير، ويعكس إرادة التحرر والتسامي لدى الجماهير الثائرة التواقة للحرية ،ولذلك فشعره يخرق النموذج التقليدي للقصيدة ويحررها من روتينية التفعيلة، وجمود الهيكل والتقفية. [12] 
      معنى ذلك أن التحولات البنيوية والجمالية التي تطرأ على شكل الكتابة الشعرية ليست نتاجا في تصوره لتطور يحدث في الذوق الأدبي أو الرؤية الفنية، وإنما هي قبل ذلك – وعلاوة عليه- انعكاس لتحولات اجتماعية تمس بنية المجتمع، وتعبير عن التناقضات والصراعات التي تعتمل فيه ، فالأدب عامة والشعر خاصة يجد نفسه باستمرار في زحمة نضال محموم تقوده الشعوب، ولا مناص للشاعر من تحديد موقفه من إرادة هذه الشعوب  و نضالها الدائر .[13]
     وإذا كان الفرقاني يِؤكد أن الشعر -باعتباره بنية ثقافية ذات طبيعة جمالية- انعكاس للصراعات الإجتماعية التي تعتمل في الواقع، فإنه يرى أن التحولات التي تطرأ على مضامينه الجمالية وأساليبه الفنية لا تعدو أن تكون انعكاسا لطبيعة الصراعات الاجتماعية وتحولاتها؛ ومن ثمة، ففي تصوره أن ما شهدته الحركة الشعرية بالمغرب من تحولات مست القصيدة في شكلها ومضامينها إنما كان تعبيرا عن ظهور قوى اجتماعية جديدة رفعت شعارات التحرير والتثوير، يقول في هذا السياق:« الحركات السياسية التقدمية هي التي أثرت في شعرنا الحديث تأثيرا عميقا، وأفرغت عليه لبوس الطرافة والجدة، ودفعت به إلى التحرر شيئا فشيئا من النزعة الأورستقراطية، التي ظل يساق إليها سوقا بعد الاستقلال، كما فرض مدها التحرري أن يعود الشعر إلى منابعه الوطنية..إلى الشعب.. إلـى آلام الجماهير وبؤس الكادحين، وفراغ العاطلين، وجوعة المحرومين..» [14]
     في إطار هذا الصراع المفتوح بين هذين القطبين السياسيين، التقليدي والتقدمي، تتغير ماهية الشعر ومهمته، ويصبح من الضروري على كل اتجاه أن يدافع عن موقعه ويرسخ مواقفه وأذواقه، ويغدو جليا والأمر كذلك أن مفهوم الحبيب الفرقانـي للشعر يندرج في سياق تاريخي وثقافي بلغ فيه الصراع السياسي في المغرب أقصى درجات التوتر والتناقض، وهذا مايتضح جليا من خلال تصوره لوظيفة الشعر والشاعر التي ظل يؤكدها في كل كتاباته.
        2- وظيفة الشعر عند الحبيب الفرقاني:
      لم يكن تعريف الحبيب الفرقاني لمفهوم الشعر ينفصل عنده عن تحديد وظيفته؛ ففي تصوره أن ماهية الشعر ووظيفته متلازمتان، إذ يصعب تحديد الماهية دون تعيين المهمة لأن الشعر شعر بما يؤديه من وظائف نفسية واجتماعية وثقافية، ولايمكن لأي نص أن يكتسب صفة الشعرية إلا إذا ارتبط بالواقع الذي يصدر منه وعبر عنه واتخذ موقفا إزاءه؛ فالشعر– شأنه في ذلك شأن بقية الفنون- ليس مجرد عمل ترفيهي سائب، أو نتاج فردي وأناني مائع، أو أداء سطحي، أو عبث مجاني لمن لا شغل له، بل إنه« يستبطن قوى التغيير الاجتماعي، ويمتطي مركب التدافع التاريخي في حركة الإنسان الجماعية، ولا يبرز – إن برز على طبيعته – إلا في أفق صاعد، واستشراف نضالي متوتر، يدخل الحياة ليتسامى بمادتها ومعناها، ليتبطن مافيها من جمال وحرية وكمال وقدرة، ليتركـها دائما تتحرك في تسـام مطـرد..نحو الجمال.. دائما في تدافع ذاتي نحو الاكتمال»[15] .
     وإذا كان يرى هنا أن على الشعراء والفنانين أن يتحملوا مقتضيات تأدية هذه الرسالة بأنفسهم، ويوظفوا مواهبهم وإبداعاتهم وقواهم الإنسانية لحماية هذه الضرورة، فإن ذلك لا يعفي الجماهير نفسها من الانخراط في العملية،إذ عليها «أن تفرض روحها وهمومها ومعناها في الشعر والأدب والفن. وترفض الأنانيات والتهويمات الفردية، وتعيد الشاعر والفنان كليهما من غربتهما المكدودة، وإلى مكانهما الطبيعي الحق من الإنسان ومعركة الإنسان، ومن الحقيقة الإنسانية والجماعية للجمال.»[16] .
     ويحيل هذا الأمر إلى تصور راسخ عند الفرقاني مؤداه أن البناء الثقافي والحضاري للمجتمع مسؤولية ملقاة على عاتق الجميع، إذ يساهم كل فرد من أفراد المجتمع فيها الشاعر بشعره...والمتلقي بتنمية ذوقه وحسه الجمالي وتثويره..
    وانطلاقا من قراءته للشعر المغربي الحديث في ضوء التغييرات التي حدثت في المجتمع المغربي ذاته، يضع الفرقاني تصنيفا لاتجاهات هذا الشعر؛ فيميز بين تيارين« نوع يتصنف ضمن التيار الثقافي الأدبي المحافظ، وهو يلتزم شكليا العمودية والتقفية الواحدة، ويرتبط عقائديا -في الغالب بالاتجاه الناهض للتغيير– ومصيريا –بالمضمون الاجتماعي والسياسي للفئة ذات الحضوة والسيادة..وفي رأيه أن هذا النوع يتسم غالبا بالسطحية والبرودة والتكلف والارتعاش الوجداني وباختصار بغياب الموقف...وفي مقابل هذا الصنف نجد نوعا آخر من الشعر حرر القصيدة من قيود التبعية والتقليدية، وخلصها من روتينية التفعيلة، وجمود الهيكل والتقفية، وأضفى عليها من حذق اللغة ، ومرونة الكلمة ، ودفء الإدراك الوجداني الشريف ، وجعلها ترتبط بالمجتمع وتواكب تحولاته وحركيته .
   ومن الهام التسطير هنا على أن الفرقاني حين يتبنى هذا الموقف من شكل شعري معين، فلا يتحدد هذا الموقف بالنظر إلى شكل بناء القصيدة، وإنما إلى روحها وجوهرها التعبيري، فالشعر في تصوره رؤية جمالية وموقف وجداني، وما لم تتسم القصيدة بالجدة والتميز على هذا المستوى، فلن تستحق من القصيدة إلا الاسم. ولذلك ففي تصوره أن القضية في الشعر ليست في بنيته الهيكلية، عمودية كانت أم أفقية، كما أن المشكلة لا تتحدد في لوازم تقفية أو تفعيلة، أو معيار شكلي بعينه، ولكنها تتجسد عنده أساسا في جوهره ومنحاه، وفي موقعه وموقفه من الحركة الإنسانية، وقواه التصويرية- الأدائية.
    
     إن الغاية التي كان يروم الحبيب الفرقاني تحقيقها في كل ما سلف هي ترسيخ مفهوم خاص للشعر يباعد ويفارق بينه وبين الخطابات السياسية الحماسية المغرقة في المباشرة والوضوح والسطحية فالشعر، وإن كان يتقاطع مع الخطب السياسية والدينية وغيرها في تبني مواقف مذهبية وقضايا اجتماعية، إلا أنه يختلف عنها بأسلوبه التعبيري وطريقة تشكله اللغوي وبنائه الفني...
    فالشعر…شعر لأنه صوت الحس المرهف ولغة الرؤى التخييلية ، وإذا كان لزاما على الشاعر أن يتخذ موقفا اجتماعيا أو سياسيا ، فمن المؤكد أنه لايعبر عن ذلك شعرا إلا في قالب جمالي . ومالم يتحقق الشرط الجمالي لن يكون إلا مجرد خطب منظومة بإيقاع عروضي.
    وإذا كان الحبيب الفرقاني قد ظل يؤكد في كتاباته أن رسالة الشعر لن تتحقق على الوجه الأكمل إلا حين يطربنا...يرقص إحساسنا... يذاعب عواطفنا...حين يزيل أوضار الكآبة والملل عن نفوسنا…فإنه كان يساجل بذلك ويسفه أوهام " أشباه الشعراء" والمتشاعرين الذين يعتقدون أن تكسير كل "القيود" التي تفرضها الكتابة الشعرية يمنح نصوصهم قيمة إبداعية كبيرة، ويجعلها فتحا شعريا جديدا. وهو وإن كان يؤكد على تصور خاص للجمالية الخطاب الشعري، فإنه يرى أن تلك الجمالية لا تتحقق بمعزل عن تبني موقف سياسي واجتماعي والتعبير عنه.






[1]   أنظر رينيه ويليك ووارين أوستن: نظرية الأدب، تر:محيي الدين صبحي،مرا:د.حسام الخطيب،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، 1987،ص29-30.
[2] أنظر ابن طباطبا: عيار الشعر، تح: عباس عبد الستار،دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1982،ص 21.حازم القرطاجني : منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1986، ص71-73، 89.
[3] محمد الحبيب الفرقاني : دخان من الأزمنة المحترقة ،دار النشر المغربية ، الدار البيضاء ، ط1، 1979، ص23.
[4] نفسه ، ص4.
[5] نفسه ، ص 5.
[6] نفسه ، ص12.                                                                                                                 
[7] نفسه ، ص 27.
[8] نفسه ، ص 15.
[9] نفسه ،ص31.
[10]  محمد الحبيب الفرقاني :  نجوم في يدي، ص37.
[11] الحبيب الفرقاني : دخان من الأزمنة المحترقة، مذكور، ص59.
[12] نفسه .
[13] محمد الحبيب الفرقاني :  نجوم في يدي ، ص 43.
[14] نفسه، ص 38.
[15] الحبيب الفرقاني : دخان من الأزمنة المحترقة ، ص23.
[16] نفسه ، ص29.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق