الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

البلاغة أفقا للتواصل


[تنويه هام جدا للإخوة الباحثين العرب:
 الموضوع الراهن جزء من بحث تم نشره ضمن أشغال مؤتمر علمي وقد تم وضعه هنا ليستفيد منه طلبة الدراسات العربية ضمن سلسلة دروس ومحاضرات]

التواصل لحظة تعبيرية تربط بين شخصين ويتحقق خلالها تفاعلهما ذهنيا ووجدانيا، وذلك من خلال اللغة أو حركات الجسد أو الصور والرموز وغيرها من الأشكال التعبيرية الأخرى التي تتضمن جملة من المعلومات والأفكار، ويرمي فيه كل طرف من أطرافه إلى نقل معلومات معينة إلى الآخر قصد تحقيق الإفادة وخلق التفاعل عبرها خلال لحظة تواصلهما[1]. وتتعدد أشكال التواصل وتختلف باختلاف وسائله التعبيرية وتنوع موضوعاته ومجالات تداوله وسياقات توظيفه وتحققه. وبالرغم من صعوبة حصر أنواعه ومستوياته المختلفة، إلا أن العلوم الحديثة المهتمة بدراسته تجملها في: التواصل الذاتي، التواصل الشخصي، التواصل الاجتماعي والتواصل الثقافي.
ومهما اختلفت أنواع التواصل وتعددت تحتل اللغة موقعا مركزيا في مجمل تشكلاته ووسائله، انسجاما مع مركزيتها في حياة الإنسان وقيمتها في كل عملية تفاعلية. وبسبب هذه الحظوة اعتنت نظرياته بالخطاب عامة والخطاب اللغوي خاصة، وحرصت على إنتاج مقاربات علمية تسبر أغواره وتحلل طرائق إنجازه ضمن سياقاته التفاعلية الخاصة، ومختلف الاستراتيجيات التي يستند إليها المرسل في تواصله مع الآخرين، مركزة في ذلك على النظر إليه باعتباره نشاطا اجتماعيا بين طرفين أو أكثر، ومؤكدة أنه يشمل أيضا الإنسان وذاته.
ومثلما احتلت اللغة قيمة كبيرة في مختلف أشكال التواصل، حظي التواصل البلاغي بعناية خاصة واهتمام بارز نتيجة طبيعته الخطابية وخصوصيته التعبيرية، وقيمته التفاعلية. وهو أمر جاء في أعقاب الوعي بالخصوصية الجمالية للأدب وفرادته التعبيرية وتميزه الأسلوبي والتركيبي.
ولئن كان تتبع التراث العربي يفيد في استنتاج مدى عناية القدامى بعلاقة التفاعل اللغوي بين الذات المرسلة والذات المتلقية، ودرجة اهتمامهم بطبيعة التواصل بين الذاتين معا، فإن النظر في البلاغة العربية، وتتبع التحولات النظرية والمنهجية والتطبيقية التي طرأت على سيرورتها التاريخية والمعرفية كفيل ببيان درجة اهتمامهم بالفعل التواصلي، والكشف عن مدى حرصهم -في عديد التصورات والتحديدات المفهومية التي قدموا- على إبراز أهم العناصر والضوابط التي يقوم عليها التواصل عندهم، وبيان طبيعة الخصائص التفاعلية بين الذات المرسلة والذات المتلقية عندهم، والتي رافقت نشأة الفكر البلاغي عندهم، ولم تكن وليدة انفتاحهم على الثقافات الوافدة، ولا سيما الفلسفة الأرسطية.
ولذلك، فباستقراء النصوص المبكرة في الثقافة العربية يلاحظ أن كلمة بلاغة استخدمت منذ العصر الجاهلي بالمعنى الذي يفيد التواصل والتفاعل بين الذوات، وهو ما نلمسه من بيت عنترة بن شداد (ت608م) الذي يقول فيه[2]:
فلئن بَقيتُ لأَصْنَعَنَّ عجائباً
ولأُبكِمَنَّ بلاغةَ الفُصَحاءِ
   تشير كلمة بلاغة في هذا البيت إلى مستوى من الخطاب اللغوي الجمالي يتصف بمميزات فنية وأسلوبية، ويحقق تفاعلا خاصا بين ذاتين: الأولى مفردة، والثانية متعددة؛ وتتحدد الذات الأولى في ذات الشاعر، بينما تشير الذات الثانية إلى غيره من الذوات الأخرى المفارقة له والمختلفة عنه، ومن مشمولاتها البلغاء الفصحاء الذين يسعى إلى إخراسهم بشعره. ويتبدى التمييز بين هذه الذوات –ذات الشاعر وذات غيره- من الأجواء المهيمنة على القصيدة التي يسود فيها الفخر بالذات، والتباهي بقيمتها وقدراتها الخاصة والعجيبة على الإتيان بكل بديع مميز يبهر الآخرين ويخرسهم سواء كانوا خطباء وشعراء أو غير ذلك. 
ولئن كان هذا الأمر يعني أن مجال البلاغة هو القول الجميل، ومدارها الصراع حول امتلاك سلطته والتفوق بها على الغير ممن يمتلكون القدرة على بلوغها، فإنه يبين أن الصنيع العجيب الذي من شأنه أن يبكم البلغاء الفصحاء هو ضرب من البلاغة والفصاحة يصل أعلى الدرجات وأرفع المراتب، كما أنه يكشف أن الدلالة الراسخة في معنى كلمة بلاغة هي التواصل اللفظي والتفاعل الخطابي بما يمكن طرفا من بلوغ الغاية بدرجة أرقى وأقوى مقارنة بالطرف الآخر.
وليس غريبا والأمر كذلك أن تدور معاني كلمة بلاغة عند العرب منذ القدم وترتبط بمعاني الوصول والبلوغ إلى المراد والمقصود، جاء في اللسان: « بَلَغَ الشَّيءُ يَبْلُغُ بلوغا: وَصَلَ وَانْتَهَى، وأبْلَغَهُ هو إبْلاغاً(...) وتَبَلَّغَ بالشَّيءِ: وصل إلى مُرادِه (...) والبلاغُ: ما بَلَغَكَ (...) والبلاغُ: الإبلاغُ (...) والإبلاغُ: الإيصال، وكذلك: التبليغ (...) والمبالغةُ: أن تَبْلُغَ في الأمر جهدك(...) والبلاغةُ: الفصاحةُ. والبَلْغُ والبِلْغُ: البليغ من الرجال، ورجل بليغ وبِلْغٌ. حسنُ الكلام فصيحُه، يبلغُ بعبارةِ لسانه كنهَ ما في قلبه، والجمع بلغاء، وقد بَلُغَ بالضَّم، بلاغةً أي صار بليغاً(...)»[3].
  يتبين من هذا التعريف أن كلمة بلاغة لغة تعني الانطلاق من نقطة أو أمر قصد الوصول إلى نقطة أخرى أو أمر مغاير، وهي بذلك تدل على أن شرط استعمالها يقتضي وجود مسافة فاصلة بين النقطة المنطلق منها والنقطة المراد بلوغها، وأن الأخيرة تكون مستهدفة بالأولى بغاية إفادتها بما تحمله مما ليس متحققا فيها، كما تدل بذلك أيضا على أن فعلي الإيصال والتوصيل يمثلان المنطلق والغاية التي تحكم عملية الإبلاغ والتبليغ، إذ لا بلاغة دون الوصول إلى أمر ولا تبليغ دون إيصاله.
ولئن كان هذا المستوى اللغوي يستعمل بصفة عامة، فإنه بالنسبة للمستوى الاصطلاحي لا يشمل كل الأشياء والظواهر، بل يتصل بالكلام دون سواه، ويقتصر على مستوى من مستوياته التي تتصف بالحسن والفصاحة، مما يفيد أن طبيعة الإيصال والوصول المحددين في المعنى اللغوي لا يعنيان التبليغ والنقل، إذ لو كان الأمر كذلك لصار كل وصول وإيصال بلاغة، ولكن المعتبر في معنى الكلمة والمحدد لمفهومها درجة خاصة في الإيصال ونوع معين من الانتهاء لا يتحققان كيفما اتفق، ومن هنا كان معنى البلاغة اصطلاحا الكلام المقيد بتحقق درجة عالية من الاتقان والدقة بناء وأسلوبا. إنها كما جاء في بيت عنترة طريقة في التعبير ترتقي في مدارج الوصف والتصوير إلى مرتبة عالية لا تكون متيسرة لكل الناس، بل لا يدركها حتى بعض من يشهد لهم بالبلاغة والفصاحة.
والسبب الذي يجعل البلاغة كذلك في التصور العربي القديم، وكما يستشف من تعريف ابن منظور، أنها وقبل أن تكون وسيلة تواصل لغوي وتفاعل ذهني بين البليغ والآخرين، هي أولا وقبل ذلك عملية تفاعل ذاتي بين البليغ -خطيبا كان أو شاعرا- وقدراته الفكرية وحركاتها الذهنية وطاقاته التعبيرية، إذ البليغ كما أشار إلى ذلك «حسنُ الكلام فصيحُه، يبلغُ بعبارةِ لسانه كنهَ ما في قلبه».
والواقع أن البدايات الأولى لتبلور تصورات العرب حول البلاغة تؤكد -وبمستويات مختلفة ومتفاوتة- أن الخطاب البلاغي نتاج تفاعل بين عديد المكونات والعناصر والذوات، فالشاعر و الخطيب يتفاعلان من جهة مع تمظهرات العالم الخارجي ورموزه المادية واللغوية تفاعلا يتم على المستوى الذهني والنشاط الإدراكي، فيحولانها إلى رموز جديدة ضمن شبكة علاقات مغايرة لتنتج واقعا آخر مختلفا؛ كما أنهما يتواصلان من جهة ثانية مع ذات مغايرة لذاتهما فينقلا إليها تجربتهما الجمالية ورؤاهما الفنية نقلا يسمح بتحقق  التفاعل الإدراكي والأثر الجمالي لدى من يتلقى خطابهما.
لقد كان هذا الوعي راسخا في سيرورة البلاغة العربية، ومعبرا عنه في عديد مواقف السابقين وآرائهم حول طبيعة الكلام البليغ وشرائطه وطرائق تلقيه والحكم عليه، وقد اتخذ التعبير عنه عدة تمظهرات كانت تنسجم وتتوافق مع التحولات المعرفية والمستجدات العلمية التي كانت تشهدها الثقافة العربية، وهو ما يسمح بالتمييز بين تصورين: أحدهما بياني يحتفي بالفهم ويعتبره أساس التواصل البلاغي وغايته، والآخر فلسفي، يحتفي بالتخييل ويعده محور التواصل البلاغي.



[1]  Charles Cooley: social organisation, cité in: J.Lohisse :la communication anonyme. éd.Universitaire,1969,p:42.
[2]  عنترة بن شداد: الديوان، ص 69.
[3]  ابن منظور : لسان العرب، مادة (بلغ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق