الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

ثانيا - بلاغة التخييل


[تنويه هام جدا للإخوة الباحثين العرب:
 الموضوع الراهن جزء من بحث تم نشره ضمن أشغال مؤتمر علمي وقد تم وضعه هنا ليستفيد منه طلبة الدراسات العربية ضمن سلسلة دروس ومحاضرات]
كان التفكير في المعنى وطرائق تشكله ومستوياته التعبيرية والدلالية ودرجات التفاعل معه أساس النظر في التواصل والبحث في مستوياته التفاعلية، وقد تميز النظر الفلسفي، عن غيره، بمقاربة سعت إلى البحث في ذلك من زاوية وبأدوات أكثر عمقا ونجاعة، لكون أصحابه لم يكتفوا بالوقوف عند علاقة التفاعل بين الشاعر والمتلقي، كما لم يرتهنوا بالإنجاز الكلامي للغة، وبطرائق التعبير اللفظي عبر الصوت، بل تجاوزا ذلك إلى ماهو أبعد، بحيث نظروا للعلاقة التواصلية والنشاط التفاعلي من مستويات متعددة تتصل بعلاقة الذات المبدعة بالعالم الخارجي والنشاط الإدراكي لهذا العالم والمظهر التعبيري الذي يتخذه ذلك النشاط بمستوياته اللفظية والدلالية والخطية، وطبيعة التفاعل من خلال هذه العناصر والمستويات مع الذوات الأخرى، عبر الكلام من جهة، وعبر  الكتابة وأشكال التعبير الخطي من جهة أخرى، ليصبح بذلك الخط وسيلة تواصلية جديدة تنقل المعرفة بين الناس وتمكن من تحقيق التفاعل بينهم.
ولئن كنا نجد مثل هذا التصور عند الجاحظ، فإننا نقف عنده مع الفلاسفة المسلمين –بصورة أوضح وأعمق- وذلك في معرض شرحهم وتلخيصهم لكتاب العبارة لأرسطو، يقول ابن سينا (ت428ه،) محددا مستويات تشكل الدلالة ودرجات تحققها في الوجود: «للأمور وجود في الأعيان ووجود في النفس يكون آثارا في النفس. ولما كانت الطبيعة الإنسانية محتاجة إلى المحاورة لاضطرارها إلى المشاركة والمجاورة، انبعثت إلى اختراع شيء يتوصل به إلى ذلك، ولم يكن أخف من أن يكون فعلا، ولم يكن أخف من أن يكون بالتصويت، وخصوصا والصوت لا يثبت ولا يستقر ولا يزدحم، فتكون  فيه  مع خفته  فائدة وجود الإعلام به مع فائدة انمحائه، إذ كان مستغنيا عن الدلالة به بعد زوال الحاجة عنه، أو كان يتصور بدلالته بعده، فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت، ووفقت من عند الخالق بآلات تقطيع الحروف وتركيبها معا ليدل بها على ما في النفس مـن أثـر. ثم وقع اضطرار ثان إلى إعلام الغائبين من الموجودين في الزمان أو من المستقبلين إعلاما بتدوين ما علم (…) فاخترعت أشكال الكتابة. فما يخرج بالصوت يدل على ما في النفس، وهي التي تسمى آثارا، والتي في النفس تدل على الأمور وهي التي تسمى معاني، أي مقاصد للنفس، كما أن الآثار أيضا بالقياس إلى الألفاظ معان. والكتابة تدل على اللفظ إذ يحاذى بها  تركيب اللفظ (…)»[1].
  تبرز قيمة هذا التصور وأهميته في كونه ينظر للعملية التواصلية ويحدد بعض مستوياتها التفاعلية من وجهة نظر فلسفية قديمة، ويتضح ذلك جليا من تأكيده أن المستويات الوجودية الخمسة للدلالة إنما ظهرت وتشكلت نتيجة الطبيعة الإنسانية التي تحتاج إلى المحاورة وتضطر إلى المشاركة والمجاورة، وتنشد الإخبار والإعلام، وفق عبارات النص. من ثمة سعى الفلاسفة إلى النظر في مستويات التفاعل مع العالم الخارجي وأشكال التحقق المادي والذهني للمعاني ودرجات وجودها، فأبرزوا أن لها خمسَ درجات وجودية: هي المعاني في الأكوان والمعاني في الأعيان والمعاني في الأذهان والمعاني في الألفاظ والمعاني في الخطوط. ولئن كانت تتضح من هذه المستويات مختلف اللحظات الذهنية والتغيرات النفسية التي تتفاعل عبرها الذات مع العالم واللغة والأشياء، ويتم من خلالها نقل المعطى الواقعي من وجوده المادي الغُفل إلى مستوى الوجود اللغوي، ثم الخطي والإخبار به، فإنها تميز في معرض ذلك بين خمسة مستويات لوجودها كل واحد منها يؤشر على لحظة إدراكية خاصة ومستوى تفاعلي مميز، وهي: الوجود العيني، والوجود الحسي، والوجود الفكري، والوجود الشفاهي، والوجود الكتابي. وفضلا عن كون هذه المستويات الخمس غير قابلة للتحقق دون وجود ذات مدركة ومتفاعلة تفاعلا ذاتيا وآخر غيريا، فإنها تتسم بخاصيتين: أولهما أن لكل واحد منها مرتبته الخاصة ووظيفته المحددة في عملية الإدراك الذهني ويؤدي وظيفة مميزة في العملية التواصلية؛ وثانيهما أنها تفاعلية، لأن اشتغال كل واحد منها يؤدي إلى تحرك الأخرى، تحركا ليس آليا، بل ينسجم مع طبيعة اللحظة التواصلية ووظيفتها، وهو ما يعني أن الانتقال من مستوى غلى آخر لا يكون عفويا وأليا بالضرورة.
ويشير الوجود العيني إلى المعطيات والمواضيع المادية القائمة خارج النفس، أي تلك التي لم تحصل في الحس ولم تع الذات وجودها بعد. ويسميها الفارابي بالموجودات الخارجية التي لم تحس  بها النفس ولم  تعقلها[2]، وبتحديد دقيق إنها هذا الخزان الهائل واللامتناهي من المعاني والأشياء التي يحفل بها الواقع الموضوعي، والتي لا تتعدى - باصطلاح الفلاسفة- مستوى الوجود بالقـوة، لأنها  بمجرد ما تقـع  في الحس وتعي الذات كينونتها إلا وتنتقل إلى مستوى الوجود بالفعل.
والوجود الحسي هو لحظة الشعور بالمعطيات الإدراكية والانفعال بها، ويقع في خط محاذ للوجود السابق، وهو الذي يخرج تلك المعطيات من مستوى الوجود بالقوة إلى مستوى الوجود بالفعل، ولا يقوم إلا بالتقاط  صورها وأشكالها وأوضاعها العلائقية، لأنه يشتغل بآلات الإدراك الظاهر التي لا تأخذ –كما اتضح سابقا- من الظواهر الإدراكية إلا عوارضها المادية، أما التفكير فيها وتحليلها الذهني فأمر موكول  إلى آلات الإدراك  الباطن التي يتضمنها "الوجود الفكري".
ويعتبر الوجود الفكري لحظة تحول الشعور من الإطار الحسي المجرد إلى مجال التحديد "الذهني" للمعطى الإدراكي مع ما يعنيه ذلك من توظيف للقوى الإدراك الذهني قصد التعرف عليه بالصفات المميزة له، والتي تشكل  في مجموعها المعنى الفكري؛ أي الأوعاء التي تتحقق في نفس الذات المدركة وتشكل مادة الدلالة. ويسمي إخوان الصفا هذا المستوى بالحروف الفكرية، وهي عندهم «صور روحانية في أفكار النفوس مصورة في جواهرها قبل إخراجها معانيها بالألفاظ»[3]. ومن الواضح أن هذا المستوى من وجود المعطى الإدراكي يرتبط بقوة بالمستوى  السابق، وأن الفصل بينهما لا يعدو أن يكون إجرائيا ونظريا فحسب، لأنه كلما حصلت صورة الشيء في الإدراك  إلا وتحددت  دلالته  في الفكر.
أما الوجود الشفاهي فهو لحظة تحويل مدركات الحس والمضامين النفسية القائمة في الفكر إلى رموز صوتية تعبر عنها وتحدد ماهيتها لسانيا، وهو طريقة الدلالة على الآثار الواقعة في النفس  بغاية تيسير تمثلها الذهني، سواء عند الذات المدركة أم الذات السامعة، يقول ابن سينا بهذا الصدد: «معنى دلالة اللفظ  أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس معنى. فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم؛ فكلما أورده الحس على النفس التفت إلى معناه»[4].
وإذا كان لهذا الضرب من الوجود غاية تواصلية، فإن الحركة الذهنية الناتجة عنه تنشد أساسا، من خلال تسميتها للظواهر الإدراكية وإخضاعها لمجال التداول اللغوي، السيطرة عليها؛ لأن معنى أن يظل معطى إدراكي بلا تسمية هو أنه يمارس عنفا رمزيا على الإنسان، وتحديا مباشرا  لعقله وتفكيـره.
أما الوجود الكتابي فهو لحظة تحويل الأصوات الدالة على المعنى القائم في الفكر إلى رسوم  وخطوط لتدل عليها وتعلم الغائبين بذلك المعنى، وإذا كان هذا الضرب يماثل الضرب السابق في وظيفتي التبليغ والإعلام، فإنه يختلف عنه ويتفوق عليه بامتداده في الزمان والمكان، إذ لا يستند إلى الصوت المحكوم بزمن فيزيائي محدد، بل يقوم على تدوين الكلمات ونقش الحروف على الألواح وفي بطون الطوامير، لأن الكلام يذهب، أما الكتابة فتبقى.
لقد شكلت هذه التصورات الفلسفية إطارا نظريا هاما لبعض البلاغيين العرب الذين استلهموا الشعرية الأرسطية كما فهمها وشرحها الفلاسفة المسلمون، فأعادوا قراءة الموروث البلاغي العربي القديم في ضوئها، مما مكنهم من الانتهاء إلى صياغة رؤية بلاغية أكثر عميق وشمولا في الفهم والتحليل، ويعتبر حازم القرطاجني رائد هذا الاتجاه المفلسف للبلاغة، وهي ريادة شعر بها بنفسه وتباهى بها في قوله: «وقد سلكت من التكلم في جميع ذلك مسلكا لم يسلكه أحد قبلي من أرباب هذه الصناعة لصعوبة مرامه وتوعر سبيل التوصل إليه. هذا على أنه روح الصنعة وعمدة البلاغة. وعلى هذا جريت في أكثر ما تكلمت به (...) فإني رأيت الناس لم يتكلموا إلا في بعض ظواهر ما اشتملت عليه تلك الصناعة، (فتجاوزت أنا تلك الظواهر) بعد التكلم في جمل مقنعة مما تعلق بها التكلم في كثير من خفايا هذه الصنعة ودقائقها (...).»[5] 
  تبرز خصوصية المسلك النظري والمنهجي والتطبيقي الذي يفتخر القرطاجني بكونه أول من نهجه في رؤيته المتكاملة ودراسته المترابطة لكل عناصر العملية الشعرية ومحدداتها، فخلافا للجهود البلاغية السابقة التي اقتصر أصحابها على دراسة ظواهر دون أخرى وبحث عناصر دون سواها، اعتنى القرطاجني بكل مكونات الخطاب البلاغي ومحدداته الذاتية والنصية على حد سواء، كما أنه لم ينجر – كما هو شأن كثير من السابقين- وراء  التعصب لعنصر من عناصر ذلك الخطاب أو أسلوب من أساليبه، بل اعتبر أن بلاغة الخطاب كل متكامل ولا سبيل إلى عزل أي جزئية أو اتجاه أو مستوى من مستوياته عن غيره، مؤكدا أن تلك البلاغة لا تتأتى بالنص وحده، ولكنها تنتج وتتحقق بالتفاعل النفسي والعاطفي للمتلقي مع النص عبر مداركه الذهنية وقواه التخييلية، يقول محددا خصوصية هذا التصور: «يكون النظر في صناعة البلاغة من جهة ما يكون عليه اللفظ الدال على الصور الذهنية في نفسه ومن جهة ما يكون عليه بالنسبة إلى موقعه من النفوس من جهة هيأته ودلالته، ومن جهة ما تكون عليه تلك الصور الذهنية في أنفسها، ومن جهة مواقعها من النفوس من جهة هيآتها ودلالاتها على ما خارج الذهن، ومن جهة ما تكون عليه في أنفسها الأشياء التي تلك المعاني الذهنية صور لها وأمثلة دالة عليها، ومن جهة مواقع تلك الأشياء من النفوس.»[6]
وما يشير إليه القرطاجني هنا يفيد أن خصوصية تصوره البلاغي تكمن في وعيه ألا سبيل لدراسة الخطاب دراسة دقيقة وعميقة دون النظر إليه باعتباره حصيلة تفاعل بين الذات المبدعة والذات المتلقية تفاعلا ذهنيا وخياليا يتم عبر النص وبناء على استحضار معطيات الواقع المادي وإعادة صياغتها بما يحقق ذلك التفاعل. لذلك فقد ميز بين المعطى المادي في ذاته وفي طريقة تمثله والتعبير عنه تعبيرا يتخذ مظهرا مغايرا ينقل ذات الواقع من كينونته المادية إلى كينونة مغايرة ذات طبيعة لغوية عبر علاقة تفاعل ذهني ونفسي بين المبدع –خطيبا كان او شاعرا- والعالم ، كما ميز أيضا بين هذا المستوى من التعبير والتفاعل وتفاعل آخر مغاير يهم طريقة تمثل المتلقي للعوالم التي ينتجها المبدع وطبيعة انفعاله النفسي وتأثره الذهني بها.
ولئن كان القرطاجني يلح في تصوره البلاغي على الربط بين التحقق اللغوي للنص البلاغي بالنشاط الذهني للمبدع والمتلقي وتفاعلهما النفسي مع العالم والأشياء وللغة، فإنه ينطلق في ذلك من  نظرته الخاصة والفريدة للبلاغة باعتبارها علاقة تفاعل بين الشاعر والخطيب والعالم واللغة عبر ملكات الإدراك الذهني وقوى الانفعال الشعوري والخيالي، وهي نظرة استقاها من شروح الفلاسفة المسلمين لكتاب العبارة الأرسطي، كما يتضح من قوله: « إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم. فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ. فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ من لم يتهيأ له سمعها من المتلفظ بها صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيآت الألفاظ فتقوم بها في الأذهان صور المعاني فيكون لها أيضاً وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليها.»[7]
تتعدد أشكال التفاعل وتختلف وفق تصور القرطاجني هنا بحسب نوع الدلالة ومصدرها وطبيعتها تعددا يختلف بطبيعة الحركة الإدراكية والنشاط الذهني لقوى النفس، فبدون إدراك وتفاعل لا يتشكل المعنى ولا تتولد الدلالة، ولذلك ميز القرطاجني بين الواقع والوجود، أو المعاني في الأكوان والمعاني في الأعيان، معتبرا أن العالم المادي باعتباره واقعا متحققا خارج الذات حافل بعدد لا متناه من الموجودات، إلا أنها غير ذات معنى ودلالة لغيابها عن الوعي وعدم دخولها في حيز الإدراك، ولا تكتسب دلالة وتصبح ذات معنى إلا حين يتم الوعي بها وإدراكها. وقد أوضح القرطاجني أن تفاعل الذات المدركة ذهنيا معها لا يعني بتاتا إحاطتها بها، إذ لا مجال إلى إدراك الأشياء في كليتها، فالواقع المادي أكبر من أن يدرك إدراكا كليا، بل إن ما يدرك منه الجانب أو الجوانب التي تم الوعي بها وتركز التفاعل الإدراكي عليها، وهو ما يقصده بقوله: «إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه».
وبعد هذه اللحظة التفاعلية التي تتم على المستوى الذهني تأتي لحظة أخرى يشترك فيها التفاعل الذهني بالتعبير اللغوي بغاية تحقيق التواصل مع السامعين، وتتميز بنقل الصور الذهنية المتحصلة في الإدراك وترجمتها إلى كلمات وعبارات وأساليب على النحو الذي يعكس تلك الصور ويمكن من تمثلها وارتسامها في ذهن المتلقي، ولئن كانت هذه العملية التواصلية تتم بواسطة الأداء اللفظي، وتقتضي لقاء مباشرا وواقعيا بين المبدع والمتلقي، فإن القرطاجني يشير إلى وجود عملية تواصلية أخرى تماثلها في نقل تلك الصور الذهنية وترجمتها، إلا أنها لا تتم بالألفاظ والكلمات، بل بالتعبير الخطي، بحيث تحل الخطوط محل الألفاظ في النقل والتصوير، وتهم هذه اللحظة الأشخاص الغائبين عن لحظة التواصل المباشر.
تبرز قيمة هذا التصور في كونه يكشف أن أساس العلاقة بين مكونات العملية الأدبية ومرتكزها التواصل والتفاعل، ولذلك فما يؤكده ويشرحه هنا يمهد به لحديثه عن كيفية تحقق النشاط التخييلي الذي يعده نتاج تواصل جمالي وتفاعل إدراكي يتم على المستوى الخيالي بين الشاعر والمتلقي، وهو ما يتضح من تعريفه للمصطلح، يقول: «التخييل أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المُخيِّل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها، أو تصور شيء آخر بها انفعالا من غير روية إلى جهة من الانبساط أو الانقباض»[8] .
يعتبر التخييل وفق تصور القرطاجني لحظة نفسية خاصة يتحقق فيها التواصل الجمالي بين الشاعر والمتلقي، ويؤدي إلى ضرب من التفاعل الخاص والمميز يتجلى في اندماج المتلقي – على المستويين الذهني والعاطفي-  في الكون الشعري للقصيدة، فيتأثر «وينفعل بالمعاني الإيحائية التي يتضمنها وبطرق التعبير عنها؛ فحين تقع في خيال الشاعر صور لمعطيات مادية ذات محتوى وهمي، ويكتمل وعيه الخيالي بها، يصوغها -وفق طريقة انفعاله بها ونتيجة لذلك- في البنية اللغوية المناسبة لها، وينشرها بين الناس لكي تثير في نفوسهم وخيالاتهم الرؤى الجمالية والانفعالات العاطفية ذاتها التي عاشها الشاعر في تجربته الإبداعية»[9]، وبذلك يكون في تصور القرطاجني «الخيال هو وسيلة الاتصال بين المبدع وقارئه، ولولا وجود التخيل لظلت القصيدة صورا ميتة لا تجد طريقا إلى تمثلها والانفعال بها»[10].
ويتحقق التخييل الشعري في تصور حازم بواسطة كل مكونات الخطاب الشعري، إذ لا يمكن «أن نتحدث عن أي عنصر من عناصر الشعر بمعزل عن التخييل»[11]. فالتخييل يتم بالألفاظ بما هي محض أصوات، وبالمعاني، وبالتراكيب والأساليب، وبالإيقاعات العروضية، وقد كان القرطاجني وفيا في هذا التقسيم لتصورات الفلاسفة المسلمين التي تشبع بها، ولاسيما ابن سينا الذي يعتبر التخييل محور العملية الشعرية والملمح المميز لكل مكوناتها وعناصرها[12]، ولذلك قسم كتابه إلى أربعة أقسام: الألفاظ والمعاني والمباني والأساليب، وتناول في كل واحد منها خصائصه الجمالية ووظائفه التخييلية؛ ويبدو ذلك جليا في تعريفه للتخييل، وفي قوله كذلك: «والتخييل في الشعر يقع من أربعة أنحاء: من جهة المعنى، ومن جهة الأسلوب، ومن جهة اللفظ، ومن جهة النظام والوزن»[13].
وإذا كان هذا الأمـر يدل على أنه أفاد من تراث الفلاسفة المسلمين، وخاصة شروح الفارابي وابن سينا لكتب أرسطو، فإنه لا يعني أنه اكتفى بترديد مقولاتهم وتصوراتهم، أو «أن فضله ينحصر في إجادة الشرح والتفسير دون أن يكون قد أتى بمبدأ جديد، أو ملاحظة جديدة»[14]! فقد كانت للقرطاجني رؤية جمالية خاصة وعميقة لقيمة الخيال وأثره في تكوين العمل الشعري[15]، وهي رؤية مكنته من الاهتداء إلى قيمة الأثر الخيالي في عملية التواصل بين الشاعر والمتلقي ودورها الكبير في تحقيق التفاعل الذهني والنفسي بينهما. ويتضح ذلك جليا في عدم اكتفائه –خلافا للفلاسفة وكثير من البلاغيين- بالإلحاح على الجانب الوظيفي للتخييل الشعري، المتمثل في التأثير الجمالي، بل لقد حرص على بيان  طريقة إسهام المكونات اللغوية والتركيبية والإيقاعية للشعر في تحقيق الأثر التخييلي، فقدم –انطلاقا من ذلك- تصورا كليا للتخييل يحيط بالجهات الأربع الفاعلة فيه والمشكلة له، مؤكدا أن «تلك الجهات هي ما يرجع إلى القول نفسه، أو ما يرجع إلى القائل، أو ما يرجع إلى المقول فيه، أو ما يرجع إلى المقول له»[16].
وإذا كان قد استقصى في تعريفه مختلف الجوانب الدلالية والمستويات الفنية، واختزلها بلغة مكثفة وضمن علاقات مترابطة ومتفاعلة، فإنه لم يتناول أحدها بمعزل عن الأخرى، كما لم يعرف التخييل باعتباره انفعالا، ولكنه ربط هذا الجانب بالأسس السيكولوجية للعملية الشعرية التي تتصل بملكات الإدراك الباطني، وبخصائصها الإبداعية والإيحائية، وبالمكونات الأسلوبية للغة الشعرية، معتبرا إياه تمثيلا فنيا يثير صورا خيالية في الذهن تؤثر في النفس وتحملها على الانسياق لمقتضاها التخييلي[17]. وتبرز قيمة هذا المسعى في كونه لم يفصل في مقاربته للعملية الشعرية بين أساسها التشكيلي وطابعها الإيحائي وبعدها الوظيفي « لأن التخييل وقبل أن يكون إثارة جمالية لانفعالات المتلقي، هو عملية تمثيل فني للواقع والأشياء بأسلوب بديع وعجيب، وما لم تحصل عملية التمثل الذهني فلن يتحقق الانفعال النفسي. وهذا ما حرص حازم على ترسيخه في ذهن قارئ تعريفه للتخييل، ولذلك استهله بعبارة "أن تتمثل للسامع" وختمه بدالي "الانبساط والانقباض"»[18].
             ذلك أن عبارة "أن تتمثل للسامع" التي استهل بها تعريفه تشير إلى عملية التفاعل الذهني والتصور الخيالي الذي يحدث لدى السامع أثناء تلقيه للشعر، وتندرج في سياق تأكيد الطابع الحسي للتخييل الذي يشكل على نحو بديع العوالم الفنية ويثيرها في الأذهان على نحو مماثل لطريقة تحققها في الواقع المادي، وهو ما يفسر استعماله على نحو لافت مصطلح الصورة في تعريفه، بطريقة مغايرة لما دأب عليه النقاد والبلاغيون الذين وظفوه في معرض حديثهم عن الخاصية الإيحائية للشعر[19]،  بحيث لم يقصره على مجرد الشكل أو الصياغة الجمالية للمواضيع الشعرية فحسب، بل يوظفه بمعنى مغاير ينطوي على «دلالة سيكولوجية خاصة، تترادف مع الاستعادة الذهنية لمدرك حسي، غاب عن مجال الإدراك المباشر، وتتصل اتصالا وثيقا بكل ما له صلة بالتعبير الحسي في الشعر.»[20]
والعلاقة بين التخييل والحس علاقة واضحة ووطيدة في تصور حازم، لأن الصور والمعاني الشعرية لا تستطيع تحريك الخيالات والمشاعر إلا إذا مثلت تخاييلها بالمعطيات المادية المدركة بالحس، أو بما يكون متعلقا تمثله بإدراك الحس[21]، ولئن كان ذلك يبرز أن الحسية صفة ملازمة للتخييل الشعري، وأن بدونها يفقد خصائصه الجمالية ويفشل في تحقيق وظائفه التأثيرية، فإن ذلك لا يعني، كما اعتقد أحد الباحثين[22]، أنه يضعف بربطه التخييل بالحس عنصر الخيال أو يقيد حركته الذهنية ونشاطه الإبداعي، فالتخييل الشعـري في تصوره «لا ينسخ المدركات، بل يؤلف بينها ويعيد تشكيلها، مكتشفا العـلاقات التي تقرب بين العناصر المتباعدة»[23]، ولكنه سعى بذلك إلى ربط التخاييل الإنسانية -جمالية كانت أم عادية- بأسسها الحسية، وحرص على تحليل الأساليب البلاغية في ضوء الأنشطة الإدراكية للملكات الذهنية، والمباحث النفسية، انسجاما مع تصوره الذي يرى أن التخييل عملية تواصل بين الشاعر والمتلقي تتم على المستوى الخيالي وتؤدي إلى تفاعلها جماليا وعاطفيا.
ومما يبرز الطابع الابتكاري والأساس التأثيري للعملية التخييلية عند القرطاجني قيامها على الإيهام وحرصها عليه، سواء في إعادة تصوير معطيات الوجود المادي أو اختلاق معطيات جديدة وغير موجودة[24]، لأن العلاقة بين الشاعر والمتلقي تقوم على التمثيل والإيحاء، بحيث يعيد الشاعر تصوير المدركات المادية على نحو مغاير أو يبتكر أشياء وهمية لا وجود لها في الواقع المحسوس، مستهدفا في المستويين معا إخراج المتلقي من سياق إدراكه الطبيعي المألوف للأشياء وإدخاله ضمن سياق جمالي تقوم العلاقة التواصلية فيه على التوظيف المغاير للغة والاستعمال المختلف لأساليب التعبير والإيحاء.
وفي تصور القرطاجني تعتبر المحاكاة وسيلة الشاعر لإقامة التخييل في نفس المتلقي والدخول معه في علاقة تواصل جمالي، وتنقسم عنده إلى نوعين:  المحاكاة المباشرة، وهي التي تصور الأشياء الحاصلة في الوجود وتمثلها في الأذهان على ما هي عليه في الواقع العيني، وهي لا تخلو من إبداع وابتكار، لأن الشاعر حين يصور معطى إدراكيا مشهورا بلواحقه وأعراضه الذاتية المعروف بها، ويجرده من علاقاته الطبيعية والمادية مع المعطيات الإدراكية الأخرى التي يرتبط بها، فإنه يرمي بذلك إلى أن يركز انتباه متلقيي شعره عليه في ذاته ليستشعروا عناصر الجمال والإمتاع الكامنة فيه، والتي يصعب تمثلها دون فصله عما سواه[25]؛ أما النوع الثاني فهو المحاكاة غير المباشرة، وهي ضرب من التخييل يتسع مداه الإبداعي، ويتجاوز فيه الشاعر محاكاة الأشياء بصفاتها الذاتية إلى محاكاتها بصفات أشياء مغايرة لها في الطبيعة المادية والخصائص الحركية[26]، ويتميز هذا النوع بكون الحركة الإبداعية لقوى الشاعر الخيالية تتحرر فيه من قيود الحس، فيتمثل خياله أشياء وهمية لا وجود لها في الواقع المادي ولا سبيل لتمثلها بالإدراك الظاهري، بل لابد من إعمال الفكر والخيال للشعور بصورتها ومعناها الإيحائي.
وفي تصور القرطاجني أن التخييل الشعري في هذا النوع من المحاكاة يجب ألا يتجاوز الحدود المعقولة والمقبولة في التصوير فيغلو في وصف الأشياء والمعطيات الحسية ويخرج بها «عن حد الإمكان إلى الامتناع والاستحالة»[27]، لأن شرط الانتقال « من بعض هذه المعاني الذهنية إلى بعض أن يكون ذلك غير خارج عن الهيآت التي وقعت للعرب في النقلة من بعض ذلك إلى بعض»[28]. ويتبين من هذا الشرط الذي يضعه أن النشـاط الإبداعي للخيال الشاعـري يتشكل ضمن المسافة الإدراكية الممتدة بين الحـس والعقـل، وأن على حـركته الذهنية ألا تتجاوز حدودهما وتخرقها.
ومما لاشك فيه أن هذا التصور الذي يتبناه القرطاجني مستمد من مباحث علم النفس القديم التي تشبع بها إلى حد كبير، والتي ترى أن قوى الخيال الذهني تتوسط بين الحس والعقل، وأن عملها يتصل بهما «فتأخذ عن الحس معطياتها أو مادتها الخام، وتعيد تشكيلها أو التأليف بينها، متأثـرة بانفعالات الشاعر، لكن في رعاية العقل الذي يـوجه مسار عملية التخيـل، ويضبطها ضبطا يتناسب مع طبيعة المحاكاة، باعتبارها تشكيـلا للأشياء الموجودة في الأعيـان، لا يخـرج -في النهاية- عن الممكن أو المحتمل بالضرورة»[29]. ويفيد هذا التصور في استنتاج أن التخييل الشعري حر في تعامله مع موضوعات إبداعه وطرائق تشكيله لها « لكن من خلال مجموعة من القيود يفرضها إطار القيم التي تشد إليه المحاكاة كلها، على مستويات متعددة منها المعايير الأخلاقية، وقواعد العقل الثاقب، والاستجابة إلى الأصول الكبرى التي صنعتها تقاليد الشعراء الفحول»[30]، والتي تقتضي أن تكون التخييلات الشعرية ذات طبيعة تمثيلية، بحيث تصور الأشياء المدركة بالحس أو الخيال أو الوجدان أو العقل بما يكون دليلا على حالها من هيئات الأحوال المطيفة بها واللازمة لها « حيث تكون تلك الأحوال مما يحس ويشاهد.»[31]
ويبدو أن حازما كان حريصا على تأكيد هذا التصور الذي يربط جمالية التخييل الشعري بقدرته على التقديم الحسي للصور والأفكار، ولذلك أردف -في تعريفه للتخييل- كلمة الشاعر بصفة المخيِّل. وإذا كان هـذا الأمـر يعني أن استجابة المتلقي للشعر وتفاعله الجمالي معه لا يمكن أن يتم إلا إذا كانت صوره ومعانيه الإيحائية ذات قدرة على تحريك الخيالات والانفعالات النفسية، فإنه يندرج في سياق التمييز بين الشعراء الذين يستحقون فعلا صفة الشاعرية، لأنهم يمتلكون قدرات فريدة على الإبداع في اللغة، ولأن شعرهم يقوم فضلا عن الوزن والقافية، على تخيل معاني جديدة وأشياء بديعة؛ والشعراء الذين ليس لهم من الشاعرية إلا الاسم، والذين لا تعدو قصائدهم أن تكون كلاما منظوما معقودا بوزن وقافية[32].
ومثلما ميز حازم بين الشاعر المخيل والناظم للقول بدون تخييل، ميز كذلك بين متلقيي الشعر، فأكد أن الشعر لا يحقق أثره التخييلي إلا عند من حصل له الاستعداد النفسي للانسياق إليه والتفاعل الجمالي معه؛ أما من لا يعير الشعر أي اهتمام، ولا يؤمن بجدواه وقيمته الوجودية والنفسية، فلا يمكن أن يؤثر فيه وأن يحرك مشاعره حتى ولو بلغ أعلى درجات الحسن والجمال[33]. ومن ثمة فكلمة السامع الواردة في تعريفه للتخييل لا تشمل كل متلقيي الشعر، ولكنها مقصورة على الفئة التي تكون مهيأة نفسيا وذهنيا للاندماج في العالم الخيالي للقصيدة، ونلمس ذلك في قوله: « وليست المحاكاة في كل موضع تبلغ الغاية القصوى من هز النفوس وتحريكها، بل تؤثر فيها بحسب ما تكون عليه درجة الإبداع فيها، وبحسب ما تكون عليه الهيئة النطقية المقترنة بها، وبقدر ما تجد  النفوس مستعدة لقبول المحاكاة والتأثر لها.(…) فتحرك النفوس للأقوال المخيَّلة إنما يكون بحسب الاستعداد (…) والاستعداد نوعان: استعداد بأن تكون للنفس حال وهوى قد تهيأت بهما لأن يحركها قول ما بحسب شدة موافقته لتلك الحال والهـوى (…) والاستعداد الثاني هو أن تكون النفوس معتقدة في الشعر أنه حكم وأنه غريم يتقاضى النفوس الكريمة الإجابة إلى مقتضاه بما أسلبها من هزة الارتياح لحسن المحاكاة»[34].
يتضح من ذلك إذن أن العلاقة التواصلية التي تتم بواسطة الشعر على المستوى الخيالي بين الشاعر والمتلقي وتنشد تحقيق التفاعل الوجداني بينهما ليست عامة ومفتوحة على كل شاعر وكل سامع للشعر ومتلق له، بل إنها خاصة ومحصورة على فئات وأنواع منهم توحدهم علاقة مضبوطة ويجمعهم سياق محكوم بوحدة وتماثل التكوين الثقافي والمستوى العلمي والمعرفي. وأن في غياب ذلك يصبح الشعر غير ذي أثر تخييلي على المستمع.
وفي هذا الإطار تدل كلمتا "الانبساط والانقباض" اللتان يختم بهما تعريفه للتخييل على أن مدار هذا المفهوم تقبيح الأشياء أو تحسينها في ذهن المتلقي بالصورة التي تفضي به إلى التأثر بها إيجابا أو سلبا؛ فالتخييل، باعتباره تمثيلا فنيا، نشاط تصويري يحاكي ظواهر العالم المادي وأشياءه التي لها علاقة بالإنسان، فيشكلها بمظهـر جميل وممتع يحببها إلى النفس فيحملها على الانشـداد إليها والتعلق بها، أو يصورها بمظهر قبيح فتعافها النفس وتنفر منها، يقول: « ويشترط في المحاكاة التي يقصد بها تحريك النفس إلى طلب الشيء أو الهرب منه أن يكون ما يحاكى به الشيء المقصود إمالة النفس نحوه مما تميل النفس إليه، وأن يكون ما يحاكى به الشيء المقصود تنفير النفس عنه مما تنفر النفس عنه أيضا»[35].
وقد ركز حازم في منهاجه على هذا الفهم الوظيفي للتخييل الشعري « فانتهت عناوين جميع المناهج (الأبواب) التي ينقسم إليها بعبارة "من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها"، ولم يفلت من هذه العبارة منهج واحد»[36]. ويعود هذا الأمر إلى تصوره أن للشعر مهمة جمالية وغاية أخلاقية في حياة الناس، وأن تحسيناته للأشياء أو تقبيحاته لها تستهدف تحريك انفعالاتهم العاطفية ودفعهم إلى اتخاذ مواقف سلوكية منها، ويتضح ذلك في قوله: « أما طريق التهدي إلى تحسينات الأشياء وتقبيحاتها بالمحاكاة فإنه لما كان المقصود بالشعر إنهاض النفوس إلى فعل شيء أو طلبه أو اعتقاده أو التخلي عن فعله أو طلبه أو اعتقـاده بما يخيل لها فيه من حسن أو قبـح وجلالة أو خسة وجب أن تكون موضوعات صناعة الشعـر الأشياء التي لها انتساب إلى ما يفعله الإنسـان ويطلبه ويعتقده»[37].
ويرى حازم أن وقوع التحسينات والتقبيحات في التخاييل الشعرية يتم -حسب الغاية الجمالية المستهدفة- عن طريق ثلاث وسائل: « محاكاة تحسين، ومحاكاة تقبيح، ومحاكاة مطابقة»[38]، وأن النوعين الأولين يتفرعان إلى أربعة أقسام؛ فمحاكاة التحسين تحسن الحسن أو القبيح، ومحاكاة التقبيح تقبح الحسن أو القبيح[39].
ويشي قيام التخييل الشعري على أساس عمليتي التحسين والتقبيح بأن فاعليته الجمالية تتصل بالسلوك الإنساني، وتتحدد بمدى قدرته على تعديل الأفعال والمواقف الناتجة عنه أو تغييرها إلى نقيضها، وتتحقق هذه الغاية حين يمثل الشاعر موضوعه الأصلي بالصفات المادية والمعنوية لموضوع آخر أشد قبحا أو أشد حسنا منه « فتسري صفات الحسن أو القبح من الموضوعات الثانوية إلى الموضوع الأصلي، فيميل إليه المتلقي أو ينفر منه، بعد أن يقوم- دون أن يعي- بعملية "قياس" تدعمها المماثلة، ويقويها المبدأ القائل إن ما يجوز على أحد المتماثلين يجوز على الآخر»[40].
ومما تجدر ملاحظته في هذا السياق أن التقسيمات السابقة لأنواع المحاكيات، والتي تمثل جانبا هاما من مفهوم التخييل عند حازم غريبة عن الشعرية الأرسطية، لأن التمثيل الذي يشكل جوهر مفهوم المحاكاة في كتاب الشعر يقوم على أساسين هما تحسين الحسن حتى يبدو بصورة فاضلة وكاملة، أو تقبيح القبيح حتى يبرز بمظهر وضيع ودنيء، ولا يمكن عكس إحدى هاتين المحاكتين بأي شكل من الأشكال، لأن الأمر يتعلق بتصوير أخلاق الأبطال والأسياد و"الآلهة" وتمثيل طبائعهم السامية والنبيلة بأسلوب مناقض لأخلاق العبيد وعامة الناس. وذلك بغاية تحبيب الأخلاق النبيلة إلى النفس وحثها على نشدانها والاقتداء بها، وفي المقابل تكريهها من الأفعال الحقيرة وحملها على تجنبها[41].
معنى ذلك، أن أصول هذا التصور لا تعود إلى الخطاب الفلسفي، وإنما إلى بدايات التفكير الجمالي في أفانين القول وأنواعه البلاغية، حيث كان العرب منذ القرون الهجرية الأولى يشبهون الخصائص التمثيلية للشعر وقدراته التأثيرية بالسحر، وكانوا يعتبرون التخييل ضربا من الاحتيال والإيهام، لأنه يصور الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق؛ ومن ثم يحسن ما ليس بحسن ويقبح ما ليس بقبيح، وهذا ما يتضح من تأكيد الرسول r أن من البيان لسحرا[42]، وتمثيل عمر بن عبد العزيز وابن الرومي للشعر بالسحر الحلال[43]، وتعريف العسكري للبلاغة باعتبار الطبيعة الاحتيالية والتخييلية لمعانيها وأساليبها التصويرية[44].
وعليه، فمفهوم التخييل عند حازم لم يكن ذا أصول فلسفية محضة، لأنه تخللته بعض التحديدات والتصورات العربية الأصيلة التي ترسبت في ذاكرة المفهوم ووسمت ملامحه الدلالية والتداولية الأولى لما كان في طور التشكل والنشأة. ويتضح ذلك خاصة من معنى السحر الذي تنطوي عليه بعض استعمالات مصطلح التخييل في المنهاج، والتي يقترن فيها هذا المصطلح بكلمات: الحيل، والاحتيال والتحيل[45].




[1] ابن سينا:  العبارة، ص 2-3.
[2] الفارابي: شرح أرسطو طاليس في العبارة، ص 24.
[3]  إخوان الصفا: رسائل إخوان الصفا، 1/392.
[4] ابن سينا: العبارة، ص 4. التعليقات، ص 162.
[5]  حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص18.
[6] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص17.
[7] نفسه، ص18-19.
[8] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 89.
[9]  د.يوسف الإدريسي: مفهوم التخييل في النقد والبلاغة العربيين، ص267.
[10] د. صفـوت الخطيب: نظـرية حـازم القـرطاجني، ص95، ص 98. أنظـر أيضا عباس أرحيلة: الأثر الأرسطي، ص 698.
[11] د. عبد الحميد جيدة: التخييل والمحاكاة، ص 200.
[12]  ابن سينا: فن الشعر، ص 163.
[13] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 89.
[14] د. عصام قصبجي: نظرية المحاكاة، ص 184. انظر أيضا د. جوده نصر: الخيال  مفهوماته ووظائفه، ص 175.
[15] د. عباس أرحيلة: الأثر الأرسطي، ص 698.
[16] حـازم القـرطاجني: منهاج البلغاء وسـراج الأدباء، ص346. انظر بهذا الصدد د جابـر عصفـور: مفهوم الشعر، ص 198.
[17]  د.يوسف الإدريسي: مفهوم التخييل في النقد والبلاغة العربيين، ص268.
[18]  نفسه.
[19] أمثال الجاحظ: الحيوان، 3/132،  العسكري: ديوان المعاني، 2/88-89،  الصناعتين، ص 59، الباقلاني: إعجاز القرآن، ص 119.
[20] د.جابر عصفور: الصورة الفنية، ص 299.
[21] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 98.
[22] د. عصام قصبجي: نظرية المحاكاة، ص 195.
[23] د. جابر عصفور: مفهوم الشعر، ص 207.
[24] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 120.
[25] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 126 – 127.
[26] نفسه، ص 129.
[27] نفسه، ص 76.
[28] نفسه، ص 17.
[29] د. جابر عصفور: مفهوم الشعر، ص 202.
[30] نفسه.
[31] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 98، انظر أيضا ص 29 – 30.
[32] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 26 – 28.
[33] نفسه، ص 121، 124.
[34] نفسه، ص 121 – 122.
[35] نفسه، ص 113.
[36] مجدي أحمد توفيق: مفهوم الإبداع الفني، ص 250.
[37] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 106.
[38] نفسه، ص 92.
[39] نفسه، ص 81.
[40] د. جابر عصفور: مفهوم الشعر، ص 162.
[41]  يقول أرسطو في هذا السياق: «ولقد انقسم الشعر وفقا لطباع الشعراء: فذووا النفوس النبيلة حاكوا الفعال النبيلة وأعمال الفضلاء؛ وذووا النفوس الخسيسة حاكوا فعال الأدنياء فأنشأوا "الأهاجي"، بينما أنشأ الآخرون الأناشيد والمدائح» (فن  الشعر، تر:عبد الرحمن بدوي، ص 13). ويجد انقسام الأجناس الشعرية بحسب اختلاف  الطبائع الخلقية والنفسية تفسيره في  بنية المجتمع  الإغريقي الذي كان يتكون من طبقتين اجتماعيتين متقابلتين: طبقة الأحرار والمثقفين وتضم  الأسياد والساسة والفلاسفة؛ وطبقة العامة والعبيد وتضم الحرفيين والمأجورين والجنود. يقول أرسطو بهذا الصدد: «بما أن الحضور صنفان، منهم الأحرار المثقفون، ومنهم السوقة المؤلفون من الصناع والأجراء ومن آخرين يحاكونهم، فإنه لا بد أن تخصص لأمثال هؤلاء مباريات ومشاهد تريحهم وتشرح صدورهم (…) فكل يستطيب ما يلائم طبعه». (السياسة، تر: الأب أوغسطينس برباره البولسي، ص444). وقد أثرت هذه البنية الطبقية للمجتمع الإغريقي على البنية الجمالية للشعر، فتمخض عنها جنسان شعريان: التراجيديا التي تمثل الأفعال النبيلة؛ والكوميديا التي تمثل الأفعال الخسيسة.  ولا يعني اختلاف الأجناس الشعرية وانقسامها وفقا للتركيبة الاجتماعية للإغريق أن لكل طبقة جنسا شعريا خاصا بها، وأن حضورها إلى المسرح يقتصر على متابعة عروض محددة دون أخرى. فللأسياد والعبيد والمثقفين والعامة الحق في متابعة كل المسرحيات التي تعرض في  أثينا. وأرسطو لا يصرح في  أي مكان -كما يؤكد ذلك المترجمان الفرنسيان- بأن التراجيديا تخص الجمهور الفاضل، وأن الكوميديا تخص الجمهور الخسيس. (ARISTOTE : La poétique,  P 168, n (6). )
[42]  ابن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/237.
[43] ابن الرومي: الديوان، 3/1144.
[44]  أبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين، ص20.
[45] أنظر حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 17، 33، 72، 85، 175، 210، 280، 294، 316، 319، 346، 361.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق