الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

أولا - بلاغة الفهم:


[تنويه هام جدا للإخوة الباحثين العرب:
 الموضوع الراهن جزء من بحث تم نشره ضمن أشغال مؤتمر علمي وقد تم وضعه هنا ليستفيد منه طلبة الدراسات العربية ضمن سلسلة دروس ومحاضرات]
لخص التصور البياني مفهومه للتواصل البلاغي في الفهم والإفهام، وتجسد ذلك أساسا في كثير من الآراء والمفاهيم التي نشأت في أحضان العلوم العربية الأصيلة، ولاسيما علم اللغة وعلم الكلام وعلوم القرآن، وكان دافعها فهم النص القرآني وبيان أوجه إعجازه، واتخذت من الشعر وسيلة للمقارنة بينه وبين الكتاب المنزل. وهي آراء ومفاهيم كانت صميمة العروبة، وظهرت خلال القرن الأول للهجرة، ولم تكن لها أية علاقة – مباشرة على الأقل- بالعلوم الدخيلة من فلسفة ومنطق وتصوف وغيرهما مما لم يكن للعرب عهد بها من قبل.
ولعل أبرز ما يؤكد الأجواء العربية الأصيلة التي نشأ فيها هذا التصور الحكاية التي رواها ياقوت الحموي (ت626 هـ) عن أبي عبيدة (ت210هـ): «قال أبو عبيدة: أرسل إليَّ الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومئة، فقدمتُ إلى بغداد، واستأذنْتُ عليه، فأَذِن لي فدخلتُ عليه(...) ثم دخل رجلٌ له هيئة، فأجلسه إلى جانبي، وقال له: هذا أبو عبيدة عَلاَّمة أهل البصرة، أَقْدَمْناه لنستفيد من علمه وقال لي: إني كنت إليك مشتاقاً، وقد سألت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرِّفك إياها؟ فقلت: هات. قال: قال الله تعالى: ﴿طَلْعُها كأنه رؤوس الشياطين﴾[الصافات: 65]، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما عُرِف مثله، وهذا لم يُعرف. فقلت: إنما كلَّم الله تعالى العرب على قَدْر كلامهم، أما سمعتَ قول امرئ القيس:
          أيقتُلني والمَشْرَفيُّ مُضاجِعي
         ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأنياب أَغْوال
وهم لم يَرَوا الغول قط، ولكنهم لما كان أمرُ الغول يَهولهم أُوعِدوا به، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل، وعَزَمْتُ من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن في مثل هذا وأشباهه، وما يُحتاج إليه مِنْ عِلْمه، فلمَّا رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سَمَّيْتُه المجاز»[1]
.
تفيد هذه الحكاية أن السياق العام الذي أطر البلاغة العربية وتحكم في ظهور الحاجة إليها أملته الرغبة في فهم البيان القرآني، وإدراك مقاصده الدلالية، وتمثل تمثيلاته الفنية وصوره الجمالية. ولذلك لما عجز السائل عن إدراك المبتغى من التشبيه القرآني في الآية الكريمة، واستعصى عليه فهم معناه وتمثل مغزاه، لجأ إلى طريقة مغايرة في التفاعل قوامها توسعة دائرة الفعل التواصلي، والانفتاح على آليات وقنوات تواصلية جديدة يمثلها الشارح هنا باعتباره وسيطا في الفهم والشرح والتفسير.
فبعد أن كانت العلاقة التفاعلية محددة ومقتصرة في المقام التواصلي الأول بين السائل وكلام الله تعالى من خلال الآية خمسة وستين من سورة الصافات، وبعد أن تعذر في هذه العلاقة على السائل إدراك الجامع بين طلع شجرة الزقوم في جهنهم ورؤوس الشياطين، ومن ثمة تمثل جهة المقارنة بينهما، والعبور ذهنيا من أحدهما إلى الآخر، مما عاق العملية التفاعلية وخلق تشويشا تواصليا، تدخل –بعد هذا وذاك- وسيط آخر وفاعل جديد ألا وهو أبوعبيدة الذي مثل بشرحه للآية المقام التواصلي الثاني في الحكاية، متبنيا استراتيجية خاصة في القراءة والتأويل تقوم على تأطير الآية في سياقها التواصلي، وبيان أن التقيد بالقراءة الحرفية لها والنظر إليها ضمن سياقها الدقيق بمعزل عن الإطار الجمالي العام المحدد لأسسها الفنية والأسلوبية لن يجلي المعنى المقصود في ذهن المتلقي، ولن يمكنه من تمثله ذهنيا وتصوره إدراكيا، بل سيغرقه في بحر لجي من الأوهام التي تزيده بعدا عن المعنى المقصود والمسار الذهني الصحيح لبلوغه.
معنى ذلك أن فهم الآية وتمثل الصورة الفنية التي تنطوي عليها يتم في تصور أبي عبيدة عبر ربط كلام الله بكلام البشر وقياسه على خاصيته الأسلوبية مقصده الدلالي، ولذلك فقد سمى كتابه بالمجاز إشارة منه إلى الطريق التي وجب على متلقي القرآن الكريم أن يسلكها لغويا ويعبرها تداوليا من أجل فهم آياته وتمثل صوره وحسن تفاعله معها.
لقد كانت المسافة الفاصلة ذهنيا ونفسيا بين مقصدية الشاعر أو الخطيب ومدارك المتلقي وكيفية تبسيطها وتعبيدها من أجل سلامة تلقي الخطاب البلاغي وحسن التفاعل الجمالي معه مصدرا أساسا وسببا مباشرا لتطور البلاغة العربية ونضجها. وإذا كانت حكاية سبب تأليف كتاب أبي عبيدة لمجاز القرآن دليلا واضحا على ذلك، فقد زخر التراث بعديد الحكايات والتعريفات الاصطلاحية التي تبين أن الفهم والإفهام والإدراك الذهني والتمثل الخيالي من أهم الدوافع وراء تبلور الوعي بقيمة التواصل البلاغي وفاعليته بين المتلقي والبليغ، وهي الحكايات والتعريفات التي تدور حول المعنى الأساس للبلاغة القائم على تبسيط وصول الذهن إلى تمثل الكون الجمالي القائم في الصور الفنية، ومن ثمة محو وإزالة كل عنصر من عناصر التشويش التي من شأنها أن تعيق الإدراك في عملية التمثل والتخيل الذهني.
في هذا الإطار يطالعنا موقف هام من مواقف الرعيل الأول من شيوخ البلاغة يرجع فيه سبب الحظوة التي تلقاها أشعار المتقدمين من الجاهليين والإسلاميين إلى «قربها من الأفهام، وأن الخواص في معرفتها كالعوام»[2]، كما نقف عند الحكاية الشهيرة بين أبي تمام (ت231هـ) وأحد السائلين التي تلخص تصور المتقدمين لطبيعة التواصل البلاغي، وتعكس بجلاء وجود اتجاهين بيانين يجعلان من القدرة على الفهم والتمثل الذهني أساس الحكم على القول الشعري وشرطا لمنح صفة الشعرية للقول الشعري أو سحبها منه، فقد حكي: «أن رجلاً قال للطائي في مجلس حفل وأراد تبكيته لما أنشد: يا أبا تمام، لم لا تقول من الشعر ما يفهم؟ فقال له: وأنت لم لا تفهم من الشعر ما يقال؟ ففضحه.»[3]
تؤكد هذه الواقعة أن الشعر في أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث للهجرة أصبح يتنازعه اتجاهان: يرى الاتجاه الأول أن مدار الشعر ومقصديته الفهم والإفهام والبيان والتبيين، معتبرا جوهره الجمالي غير قابل للتحقق والاعتراف به خارج وضوح الدلالة وسلامة الأسلوب؛ ويذهب الاتجاه الثاني إلى أن الشعر خطاب تعبيري غير قابل لإدراك مضامينه دون التفاعل الذهني والخيالي معها، لكونه -وخلافا لغيره من الخطابات الأخرى- لا يسمي الأشياء بمسمياتها الطبيعية المألوفة والمبتذلة، كما لا يعبر عنها باللغة الصريحة والواضحة، بل يصوغها في قالب تخييلي وأسلوب إبداعي يتطلب خرق الحجب والمقتضيات التعبيرية السائدة والمتداولة، والقطع مع اللغة الواضحة والمضامين الطيعة، من أجل سبر كونه الجمالي وتمثل معانيه وصوره الغريبة غير المألوفة. 
وإذا كان التباين بين هذين الاتجاهين واضحا من استغراب السائل من قول الشاعر لأشياء غير مفهومة، واستنكار الأخير عدم قدرته على بذل جهد فكري من أجل فهم تلك الأشياء البعيدة المستعصية على التمثل والإدراك، فإنه يشي بأن البلاغة العربية عرفت خلال هذه اللحظة توزعا بين تصورين وتحديدين مفهومين: عرفا في الأدبيات القديمة بعديد الأسماء والتوصيفات أبرزها: بلاغة أصحاب الطبع وأصحاب الصنعة، أو بلاغة الوضوح وبلاغة التعقيد، أو بلاغة البيانيين وبلاغة المتفلسفة.
وبالرغم من اختلاف تلك التسميات والتوصيفات إلا أنها ترتد إلى تمييز واحد يهم علاقة الخطاب البلاغي-شعرا كان أو خطابة- بالمتلقي، وطبيعة القوة الذهنية والنشاط الإدراكي المحددين والمؤثرين في تلقيه، بحيث استعمل أصحاب الاتجاه البياني شبكة من المفاهيم والمصطلحات التي دارت حول الفهم والإدراك والعقل والذهن، وسعوا من خلالها إلى التأكيد أن البلاغة خطاب تواصلي بين البليغ والمتلقي يستهدف مخاطبة الفكر والوجدان عبر اللغة الجمالية المستعملة؛ بينما وظف أصحاب الاتجاه الفلسفي شبكة من المفاهيم تستعيد مفاهيم الاتجاه البياني لكنها تغنيها بمصطلحات أخرى مستمدة من شعرية أرسطو وأبحاثه النفسية.   
ولئن كانت السطور اللاحقة ستتكفل بمتابعة التصور الفلسفي وإبراز طبيعة الأجهزة النظرية والمفهومية الموظفة فيه، فسيتم الاقتصار هنا على عرض التصور البياني والبحث فيه، اعتبارا لأسبقيته الزمنية والمعرفية عند العرب، ونظرا لكونه يمثل أساسا من الأسس التي قام عليها التصور الفلسفي ذاته. في هذا الإطار يلاحظ أن التعريفات الابتدائية للبلاغة العربية تعكس وعي المتقدمين بأنها نشاط تواصلي من طبيعة لغوية بين المتلقي والشاعر والخطيب، ويروم تحقيق التفاعل بينهما على المستويين الذهني والخيالي، وذلك عبر نقل جملة من المعاني والصور بأسلوب جمالي. ومن أبرز تلك التعريفات قولهم: «سمّيت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه. وسمّيت البلغة بلغة لأنك تتبلّغ بها، فتنتهى بك إلى ما فوقها، وهى البلاغ أيضا»[4] .
فالعلاقة هنا بين المتلقي والبليغ تتم بلغة ذات خصيصة جمالية تعبر عما يموج في نفس الشاعر أو الخطيب وتنشد الوصول إلى نفس السامع لتحركها وتدفعه إلى التأثر بها والتفاعل معها.
وتكتسي عبارة قلب السامع وفهمه في هذا التعريف قيمة كبيرة لكونها تبين أن العلاقة بين طرفي الخطاب البلاغي تتم على مستويين: الأول ذهني والثاني عاطفي، فبالنسبة للمستوى الأول فيتصل بالفهم؛ ومعناه تمثل الصور وإدراك مضامينها ودلالاتها، وهو ما يتحقق على المستوى الذهني، ويعتبر هذا المستوى شرطا أولا وضروريا في عملية التواصل البلاغي؛ أما بالنسبة للمستوى الثاني فيتعلق بالجانب النفسي والبعد العاطفي في عملية التواصل، ويظل اشتغال هذا المستوى رهينا بالمستوى الأول، إذ لا يمكن للذات أن تتأثر بالخطاب وتتفاعل معه وجدانيا وعاطفيا دون أن تكون قد فهمت المقصود به وتمثلت مضامينه عوالمه ذهنيا.
لقد اشترط العرب قديما لفعل التواصل ضرورة تحقق شرطين تفاعليين بين المتواصلين: الأول إدراكي؛ والثاني عاطفي، ولذلك أكدت عديد تصوراتهم ومواقفهم وتعريفاتهم للبلاغة أن الأخيرة خطاب يقرب بين المتخاطبين، ويمحو كل ما من شأنه أن يشوش على العلاقة التفاعلية بينهما بالربط بينهما ذهنيا وعاطفيا وفكريا من خلال اللغة، كما ظل عندهم الفهم والتمثل الذهني أساسا من أسس التفاعل والتأثر، وشرطا جوهريا في بلاغة الخطاب، ويتضح ذلك من قول العسكري: «البلاغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن.» [5]
يؤكد هذا التعريف أن البلاغة في تصور العرب قديما خطاب لغوي يقوم على معنى جميل ومبنى بديع، فالمعنى الجميل هو الصورة الفنية القابلة للتمثل الذهني والتصور الإدراكي، والمبنى البديع هو الصياغة الأسلوبية المغايرة –أسلوبا وتركيبا- للخطابات اللغوية الأخرى، والمتميزة بالبراعة والتفنن في البناء والتشكيل، ويكتسي هذان الشرطان قيمة كبيرة في التحديد المفهومي للبلاغة، ليس لكونهما يضفيان على الخطاب خصائص فنية وجمالية ويرتقيان به من المباشرة والتقريرية إلى الإبداع، بل وكذلك لأنهما يمثلان وسيلة للعبور إلى ذهن المتلقي واختراق عواطفه وأخيلته بما يتضمنان من قدرة فريدة على التعجيب وطاقة خاصة على المفاجأة، ولعل الحرص على إيضاح ذلك هو ما دفع العسكري إلى شرح المقصود بتعريفه، بحيث قال: «وإنما جعلنا حسن المعرض وقبول الصورة شرطا في البلاغة، لأن الكلام إذا كانت عبارته رثة، ومعرضه خلقا، لم يسم بليغاً وإن كان مفهوم المعنى، مكشوف المغزى.»[6]   
وإذا كانت مختلف تعريفات البلاغة عند علماء البيان العرب تنبه على نحو واضح أن عملية التخاطب الجمالي تقوم على شرطي الفهم والإفهام، فإنها تلتقي في ذلك مع تصور الرعيل الأول من العلماء العرب الذين اعتبروا هذين الشرطين أساس البلاغة ومدارها، وهو ما نلمسه من نص نقله الجاحظ عن أحد ائمة البلاغيين، وفيه يقول: «وكان عبد الرحمن بن إسحاق القاضي يروي عن جده إبراهيم بن سلمة، قال: سمعت أبا مسلم يقول: سمعت الإمام إبراهيم بن محمد يقول: يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع.» [7]   
ويبدو أن التصور الذي يربط البلاغة بالفهم والإفهام كان مدار البيان العربي، وحظي بعناية وتأكيد علمائه، ولذلك استعاده الجاحظ إمام البلاغيين العرب وواضع قواعد البيان العربي وأعاد توظيفه، معتبرا أن مدار الأخير هو الفهم والإفهام، وهو ما نلمسه من قوله: « مدار الأمر على البيان والتبيين، وعلى الإفهام والتفهم. وكلما كان اللسان أبين كان أحمد كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد. والمفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل، إلا أن المفهم أفضل من المتفهم وكذلك المعلم والمتعلم (...)»[8]، ويقول أيضا: « مدار الأمر والغاية التي يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام. فبأي شيء بلغت الأفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع.»[9]
ولئن كان الجاحظ يبرز هنا ألا مجال للحديث عن البيان دون شرط التواصل اللغوي والتفاعل الإدراكي، معتبرا العلاقة الذهنية التي تتم على المستوى الفكري بين الباث والمتلقي هي المحدد الأساس لكل تواصل بلاغي، فإن قيمة تصوراته وأهميتها، وفضلا عن طابعها التأسيسي، تكمن في كونها أسهمت من جهة في تحديد العلاقة التفاعلية بين المتكلم والمستمع وإبراز طبيعتها وخصائصها ومستوياتها، كما أوضحت من جهة أخرى طبيعة تلك العلاقة في الخطاب عامة، والخطاب البلاغي خاصة، ويبدو ذلك جليا في نص هام يقول فيه: «قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني: المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في أذهانهم، والمتخلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أموره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره. وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم، وتجليها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهرا، والغائب شاهدا، والبعيد قريبا. وهي التي تلخص الملتبس، وتحل المنعقد، وتجعل المهمل مقيدا، والمقيد مطلقا، والمجهول معروفا، والوحشي مجلوفا، والغفل موسوما، والموسوم معلوما. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله عز وجل يمدحه، ويدعو إليه ويحث عليه. بذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف العجم.»[10]
يكتسي هذا النص قيمة كبيرة تتجلى في طبيعة التصور النظري الذي ينطوي عليه وإشارته الدقيقة إلى جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني الذين ينسب إليهم هذا التصور. ولئن كنا سنستعرض ما ينطوي عليه من أفكار وآراء، فإن السؤال الكبير الذي يتبارد إلى الأذهان: من يقصد بأولئك الجهابذة والنقاد؟ هل يقصد بهم الرعيل الأول من العلماء واللغويين؟ أم يعني بهم جماعة من المناطقة والمتفلسفة في عصره وزمنه لاسيما المترجمين السريان الذين أدوا ألفاظ المعلم الأول بكلمات وعبارات هيمنت عليها لغة الإبدال والترجمة التحصيلة؟[11]
بالرغم من أن سياق النص ومضمونه لا يسمحان بتقديم جواب دقيق على هذا السؤال، فيمكن، واستنادا إلى اللحظة الثقافية والمعرفية التي نقل فيها، الذهاب إلى أنه قريب من أجواء الثقافة العربية الإسلامية وأسئلتها، ويمكن اعتباره جوابا عربيا أصيلا على مجمل الأسئلة الجمالية المطروحة عند العرب وقتئذ المتصلة بطبيعة البيان وأسراره، ولعل ما يسمح بذلك ابتعاد مضمونه وتصوره بعيد عن التصور الأرسطي كما سنرى لاحقا مع الفلاسفة والبلاغيين المتأثرين بهم.  
وبالعودة إلى التعريف الذي أورده الجاحظ منسوبا لنقاد المعاني وجهابذة الألفاظ، يلاحظ أنه يميز اقتداء بمن ينقل عنهم، بين مستويين منها: الأول معاني بالقوة، أو معاني في "عداد الموتى" حسب عبارته،  والثاني معاني بالفعل، أو "معاني حية" حسب وصفه، فأما المستوى الأول فيهم الأفكار التي تموج في النفس وتدور في الذهن قبل أن تتلبس بألفاظ خاصة، ويعبر عنها بعبارات دقيقة تعكس دلالتها وتشي بمضامينها، وأما المستوى الثاني فيتحدد بالبوح بتلك المعاني والتعبير عنها بأصوات وألفاظ تخصها وتناسبها.
ولا شك أن التمييز بين هذين المستويين من المعاني هو في الأصل تمييز بين معاني موجودة بالقوة وأخرى موجودة بالفعل، فتلك الموجودة بالقوة تظل محصورة في الذهن، غير متجاوزة لفكر صاحبها والحامل لها، أما تلك الموجودة بالفعل فتخرج بفضل الكلام والتخاطب إلى الوجود والتحقق العيني، وتمكن من تحقيق التواصل بين المتكلم والمخاطبين. ولئن كان المستوى الثاني من المعاني يهم نقل الأخبار والإعلام بالأشياء الغائبة والحاضرة، ويفيد في تحقيق التواصل وخلق التفاعل بينه وبينه الآخرين، فإنه ينقسم في تصور الجاحظ إلى مستويين: مستوى تخاطبي عادي؛ ومستوى تخاطبي خاص، فالمستوى الأول يهم التواصل المباشر بين الناس؛ وأما المستوى الثاني فيهم التواصل الجمالي بينهم، ويتميز بتفاوت خطاباته وتباينها في درجات الجمالية، وبذلك يعتبر موطن البيان ومجال التفاخر به والتمايز فيه.
والمتابع لتصورات الجاحظ وآرائه بخصوص بلاغة القول والمبثوثة في كتبه ورسائله يلاحظ أنه يعتبر نظم الخطاب وطرائق ترتيب عناصره وتركيب أساليبه هي موطن المزية وسر التفاخر والتفاضل بين البلاغات، وتكفي العودة إلى مفاهيمه في المشاكلة، والتآلف وتصوراته حول صحة الطبع وجودة السبك، وضروب النسج وأجناس التصوير لتبين ذلك[12].
ويبدو أن تصوره هذا وما ارتبط به من مفاهيم قد أثر إلى حد بعيد في الدرس البلاغي القديم، ووجهه نحو بناء تصور نظري لجمالية الخطاب البلاغي، فتردد عند أبي هلال العسكري وابن رشيق، وأعاد صياغته وتطويره عبد القاهر الجرجاني الذي استعاد فكرة التمييز بين مستويات المعاني ودرجاتها الواردة عند الجاحظ، رابطا إياها بمقولة الكلام النفسي عند المتكلمين، ومنتهيا بعد ذلك إلى صياغة تصور جمالي يختزله مفهوم النظم، وهو ما نلمسه في قوله: «اعلم أن الكلام هو الذي يُعطي العلومَ منازلها، ويبيّن مراتبها، ويكشفُ عن صُوَرها، ويجني صنوفَ ثَمَرها، ويدلُّ على سرائرها، ويُبْرِزُ مكنون ضمائرها، وبه أبان الله تعالى الإنسان من سائر الحيوان، ونبّه فيه على عِظَم الامتنان، فقال عزّ من قائل: " الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ، خَلَقَ الإنْسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ " [الرحمن1-4 ]، فلولاه لم تكن لتتعدَّى فوائدُ العلمِ عالِمَه، ولا صحَّ من العاقل أن يَفْتُق عن أزاهير العقلِ كمائمه، ولتعطَّلَت قُوَى الخواطر والأفكار من معانيها، واستوَتِ القضيّة في مَوْجُودَها وفانيها، نَعمْ، ولوقع الحيُّ الحسَّاس في مرتبةِ الجماد، ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيتِ القلوب مُقْفَلةً تَتَصَوَّنُ على ودائعها، والمعاني مَسْجُونَةً في مواضعها، ولصارت القرائح (...) وفي ثبوت هذا الأصل ما تَعْلم به أنّ المعنى الذي له كان هذه الكلم بيتَ شعرٍ أو فصلَ خطابٍ، هو ترتيبها على طريقة معلومة، وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة، وهذا الحُكْمُ - أعني الاختصاص في الترتيب - يقع في الألفاظ مرتَّباً على المعاني المرتَّبَة في النفس، المنتظمةِ فيها على قضيّة العقل، ولا يُتّصوَّر في الألفاظ وُجُوبُ تقديم وتأخير، وتخصُّصٍ في ترتيب وتنزيل، وعلى ذلك وُضِعَت المراتبُ والمنازلُ في الجمل المركَّبة.»[13]
لا تنحصر قيمة هذا النص في كونه يبرز أن الجهاز المفهومي الذي اعتمده الجرجاني في مقاربة جمالية الخطاب البلاغي وإبراز خصوصيته التواصلية ومميزاته التفاعلية كان متنوعا ومختلفا من مؤلف إلى آخر[14]، بل يتجاوز ذلك إلى أبعد منه بحيث يبرز أن تصورات البلاغيين العرب ظلت – مهما اختلفت وتباينت- نسقية ومترابطة يكمل بعضها الآخر ويحيل إليه.
وفي هذا الإطار، يلاحظ أن نص عبد القاهر الجرجاني يكاد يلخص مجمل تصورات البلاغيين وأفكارهم حول القيمة التواصلية للخطاب وخصائصه التفاعلية، لكونه يبرز أن النظر في البلاغة والتفكير فيها ينطلق من وعيه وتأكيده في آن واحد الخصوصية التواصلية للكلام، وهو ما يتجلى في تنبيهه أن بدون وجود طرفين: باث ومستقبل يتعذر الحديث عن الكلام، ومن ثمة عن أي علاقة تواصلية وخصائص تفاعلية له، كما أن بدون بليغ وسامع لا يمكن تصنيف الكلام والتمييز بين درجاته في سلم الجمالية.
وبالرغم من أن الجرجاني يعتبر –استنادا إلى تصور الجاحظ وآراء الأشاعرة في الكلام النفسي- أن الكلام يمكن أن يوجد على المستوى النفسي، إلا أنه يعتبر أن لحظة وجوده تلك غير مادية، بل معنوية، نظرا لطبيعة تحققه التي لا تعدو أن تتجاوز مستوى الأفكار المجردة والكلمات غير مكتملة الوجود متحققة المعنى، مادامت تحتاج إلى أن تترجم دلالاتها إلى أصوات وألفاظ معبرا عنها. وهو وإن كان يعزز بذلك قوة فكرته وسلامتها، فإنه يبرز من خلاله -شأنه في ذلك شأن البلاغيين السابقين- أن جمالية الخطاب وقوته التأثيرية تظل رهينة قدرة صاحبه على صياغة صور ومعاني واضحة في ذهنه ومتسقة في فكره، ومنسجمة انسجاما قويا وعميقا مع مقتضيات الواقع المادي وضوابط التعبير اللغوي.
لقد مثل الحديث عن المعنى الإطار الخصب لمقاربة البلاغيين للعملية التواصلية والنشاط التفاعلي بين المتكلم والمتلقي. ومن خلال متابعة تصورات الجرجاني يتبين أنه كان من أكثر البيانيين العرب مقاربة له وإلماما بخصوصية تلك العلمية ومميزاتها، ويكمن سبب تميزه وتفوقه على غيره من البلاغيين الآخرين في كونه ربط حديثه عنه بالمتلقي، وسعى إلى بيان طبيعة نوع الاستجابة الجمالية التي تحدث لديه من خلال طريقة بنائه وأسلوب صياغته ودرجة انتظام عناصره ومكوناته.
من ثمة، من الخطأ الاعتقاد أن مفهوم النظم وغيره من المفاهيم التي قدم الجرجاني حتى عرف بها تهم جمالية الخطاب وأدبيته وتقتصر عليها، بل الأمر على العكس من ذلك، لكونها تتصل اتصالا وثيقا بالنظر في الطاقات التعبيرية والخصائص الفنية التي تؤثر في المتلقي وتدخله في علاقة تواصل جمالي وتفاعل خيالي مع النص ، ومن خلاله مع صاحبه. لذلك فالكثير من الإشارات والمواقف والتصورات في الدلائل والأسرار تذهب في هذا الاتجاه، وتبرز أن التفاعل في النص متعدد الأبعاد مختلف الاتجاه: بحيث يكون بين المبدع واللغة الطبيعية والعالم الخارجي من جهة أولى، ويكون بين المبدع والمتلقي من جهة ثانية عبر النص البلاغي.
وبالرغم من ثراء تلك التصورات والمواقف والإشارات تظل مرتبطة بالتصور البياني للتواصل البلاغي، لكونها تربطه بالفهم والإفهام، ولا تخرج به خارج حدوده الذهنية وضوابطه الأسلوبية، وهذا ما يشكل نقطة الخلاف بين التصور البياني والتصور الفلسفي الذي استبدل مفهوم الفهم بالتخييل.




[1] ياقوت الحموي: معجم الأدباء ، تحقيق: د. إحسان عباس، 6/ 2706 – 2707 .
[2]  ابن رشيق: العمدة، 1/ 92.
[3]  نفسه، 1/133.
[4]  أبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين، ص6.
[5]  العسكري: كتاب الصناعتين، ص10.
[6]  نفسه.
[7]  الجاحظ: البيان والتبيين، 1/ 87.
[8]  الجاحظ: البيان والتبيين، 1/11-12.
[9]  نفسه،1/ 76.
[10]  الجاحظ: البيان والتبيين، 1/ 75.
[11]  أنظر ديوسف الإدريسي: التخييل والشعر حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية، ص 78-79.
[12]  أنظر الجاحظ: البيان والتبيين ، 1/67، 1/83، 2/7-9، الحيوان ، 3/131. 
[13]  عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، 3-5.
[14]  أنظر يوسف الإدريسي: "جماليات التشكيل اللغوي للشعر النظم والتخييل عند الجرجاني" ، 148.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق